22 نوفمبر، 2024 3:01 م
Search
Close this search box.

يقظه الاعتزال

النقد المنهجي في الفكر هو ثورة العقل على المسلمات والبديهيات التي حفرت موقعها عميقها في الوعي الجمعي، وهو تكريس لسلطة البرهان، وقوة الحجة، والتناغم الحقيقي بين العقل والواقع، وكلما كانت امة تنتقد بنائها وتعدل من قيافتها الحضارية وبنيتها الفكرية، كلما ازدهرت، وتعالى كبريائها، وأيقظت طاقة الانسان الهائلة فيها، ورسمت حدود جناتها بريشة مبدعيها وفلاسفتها، وقدرتها في الخلق والابداع. فالنقد والمراجعة هو اختراق منهجي للسائد والمستقر والتقليدي في فكر وسلوك الأمم.أن جميع المعتقدات سواء الدينية وغير الدينية تحمل في مضمونها المعرفي جدلية الخيال والتجسيد، والفكرة التي تولد في عقل الانسان هي صوره سواء عبدها بحواسه او في عقله الباطن، فمهما حاولت الديانات تدريب معتنقيها على رياضات روحيه عليا كالنرفانا او اليوغا، او تصوف مغرق في الذوقية كم عند ابن عربي، يبقى المقدس المجسد جزء لابد من ترتيب وجوده بطريقة ما، سواء كجزء من الطقوس الشعائرية او بمحددات صوفيه كنظريات الحلول (الحلاج) والتجسيد (البسطامي). اما بالنسبة للفهم البسيط فأنها وسيله للتواصل مع الرمز سواء كان إله او معتقد ارضي.
رغم التحريم القاطع من العديد من علماء المسلمين لتجسيد الأفكار والخيال بالصور المجسمة والتماثيل الا أن اغلب الدول العربية تدرس الان في مدارسها وجامعاتها الفنون التشكيلية والتجسيد. وهو انتصار لنزعة الخيال والتجلي والفن في الروح العربية رغم رمادية الرؤية وضبابية الطرح، الا انها تؤكد استقرار التجسيد في الطبائع حتى في الأمم ذات العقل المركب من المتناقضات الروحية والمادية، وانه لا يمكن اذابة المُجسّد في تشظي العقل وبداوة العاطفة.
يقول احمد امين في ضحى الإسلام أن من أكبر مصائب المسلمين هو موت المعتزلة. ويقول زكي نجيب محمود إنه إن كان لنا أن نحيي جزءا من تراثنا الإسلامي فليكن هو الاعتزال، لان الصبغة العقلية والطرح المنهجي ربما يتواكب مع الحاجات المتزايدة لنقد الموروث العربي وتقديم العقل على النقل لبعض الوقت. ويؤيد هذا الاتجاه الكثير من الباحثين وأصحاب القلم في العقود الأخيرة، حيث يبدو بان هناك خيطا” سريا” بين هذه الجماعة ومعتقداتها وبين العقد الحضارية التي يعاني منها العرب الان، فسلطان الياس واللأدرية الجاثم في الأعماق السحيقة للإنسان العربي جعله في حل من أي مسؤوليه تاريخه وأخلاقية في العصر الحديث، ولذلك فالصدمة العقلية من خلال نقد المعتقدات قد تحيي ما تبقى من الكبرياء و الإنسانية في الانسان العربي.أبتدأ عصر المعتزلة في سنة 833 م عندما تمسك الخليفة المأمون بعقيدتهم واجبر كل من له علاقة بالخلافة والتبعية لها على تبني عقيدة خلق القران، فخاضت أغلب الفرق الإسلامية معاركها الكلامية والدموية معهم في خلافته، حيث استمر هذا التفاعل الواعي للفكر والسلوك الاسلامي حتى سنة 861 في عهد المتوكل، حيث انهارت سلطة المعتزلة وعادت عقيدة ازلية القران من جديد.
المعتزلة في العراق اسسوا علم الكلام وهو بداية للتفاعل بين العقل العربي المشبع بالفلسفة اليونانية والقضايا العقدية في النصوص الدينية، حيث أبرز المعتزلة دور العقل وسلطته على النص الديني ورفعوا قدسيته واعتبروه مقدم على النص، فبالعقل يدرك الانسان الشريعة، ويدرك النبوة ويثبت النقل ولكن ليس كالأشاعرة في خدمة العقل للنقل. وهم الفرقة الوحيدة حسب علمي التي جعلت معرفة الله واثبات وجوده فرض عين على كل مسلم ان يستحصله. فهم يخالفون الأشاعرة وكثير من فرق المسلمين بانه عندما يدرك العقل الأشياء الحسنة فيجب فعلها ويتجنب الأفعال القبيحة لقبحها حتى لو لم يرد فيها نص شرعي. كما ان فكرهم يطرح الإسالة الجريئة بإشكالياتها المعروفة، والذي لا يقبل بالموروث كمسلمات لا قبل لردها. لا يمكن اختزال نتاج المعتزلة الفلسفي والفكري في العقائد والايمان والتعبد فقط، بل تسللت معتقداتهم وافكارهم الى ابعاد روحيه ووجوديه لتتحول الى سلوك اجتماعي وسياسي، والى وتوليد خطاب ثوري وثري يشجع العقل ويعزز مبدا الاختيار وحرية الانسان كقيمه أخلاقية لا قبل للتراجع عنها تحت أي مسوغ.الرؤية الثورية للمعتزلة حول ثوابت المسلمين، احدثت ارباكا” هائلا” في الفكر الإسلامي في وقتها، حيث اعتمد كبير المعتزلة القاضي عبد الجبار في دفاعه عن الفكر الاعتزالي، على ان القران يحوي نصوصا” متناقضة، ومتعارضه، ولا يجوز ان ينسب التناقض الى الله، لذا يجب اخضاعه للعقل.
تجلت فلسفة المعتزلة في دفاعها المستميت عن ذات الله وقدسيته، حيث نفوا جميع الصفات من السمع والبصر والحواس التي تشبه المخلوقين فعندهم ان الله تعالى (ليس ممثله شيء)، وأيضا “أولو النصوص المتشابهة التي لها أكثر من معنى مثل قوله تعالى (وجاء ربك والملك صفا صفا)، و (الرحمن على العرش استوى) فأولوها بطريقة مبتكره تنفي الجسمية عن ذات الله الواحد الاحد. وتبقى قضية خلق القران من أكثر القضايا التي خاصمهم بها العديد من المذاهب الإسلامية، ودفاعهم فيها يتركز على أنّ الكلام من صفات الفعل وليس من صفات الذات الإلهية، وان الله فاعله وقائله وانه ليس بقديم، وبالتالي فالكلام صفه كالصفات الحادثة، مثل النعمة فهي مخلوقه أيضا”. ولهم ادله نقليه في هذا المجال تكاد تكون قاطعه في نظر الكثيرين وهي ان الله سبحانه يقول (ما ننسخ من آية أو ننسيها نأتي بخير منها او مثلها) والنسخ هنا لا يجري الا على الحادث. بالإضافة الى ذلك ان القران يتقدم بعضه على بعض فكيف يكون ابديا” (اي مقسم الى اجزاء يتلو بعضها بعضا)، كما ان ووصف الله القران بالتنزيل ((انا أنزلنا اليك الذكر)) فكيف يكون الازل منزلا”. هذه الأسئلة والتصورات الاعتزاليه انتشرت كالسيل وأصبحت حديث العامة قبل الخاصة لتجسد اول فعل نقدي قائم على سلطة العقل وتجريد المقدسات من سلطة التابو.
ولهم في الهداية والضلال راي يخالفون به العديد من المذاهب، فهم يرون ان الانسان نفسه هو من يضل ويهدي ولهم دليل نقلي في ذلك (قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدي فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)، و (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها)، وخصومهم أيضا يقولون (يضل من يشاء ويهدي من يشاء)، لتبقى هذه المسالة أيضا” من اعقد المسائل في الفكر الإسلامي والإنساني الى يومنا هذا.
وقد تعرض الامام احمد ابن حنبل الى مأساته المعروفة تاريخيا” بسبب معارضته لفكر المعتزلة حيث زجه الخليفة ومناصريه في السجن بسبب رفضه هذا المعتقد, وبسبب انه حرم وكفر كل من يقول ان القران مخلوق وقدم في ذلك الكثير من الأدلة والبراهين الكلامية المدعمة بنصوص قرانيه واحاديث نبويه , ولكن في الحقيقة يجد بعض الباحثين ان دفاعات الحنابلة مبهمة بعض الشيء و غير كاملة الاقناع, فقد انصب جام دفاعهم على تكفير المعتزلة والسخرية منهم , من دون حجج عقليه بنفس السياق , فمثلا من المعروف ان أ سماء الله تتنوع بين ثبوتيه, وسمعيه, ذاتيه, وفعليه , وغيرها وانها تختلف بالمراتب بين اسم واخر وليس لها نفس القوه في الاستحضار المقدس للمعنى الربوبي, كما انه لا يتعارض مع كون القران مخلوقا” ان يكون مقدسا” بمعانيه الكبرى وليس القصص والحوادث, ولكن الحنابلة في منهجهم يرون انه لابد من القول ان القران غير محدث وانه ازلي حتى تتشابك جدلية تجسيد المقدس في كلمته التي نلفظها ونكتبها وهي ازليه بما يتناسب و يتحقق المطلب البشري الغريزي في تحويل التصور ( الهيولي ) الى ماده حسب التعريف الفلسفي للتجسيد.
المعتزلة هم ورثة الحكمة والفلسفة في زمن الاسلام، وهم رواد الإنسنه، فخلاصة أفكارهم تدور حول قيمة الأنسان وحريته ووجوده الصميمي في الكون، فالأنسان حر وله الإرادة والاختيار، وقيمته الاعتبارية تعتمد على افعاله الذاتية التي يختارها بنفسه. وموقفهم هذا ثوره على واقع سياسي وفكري يعتبر الجبر حتميه لابد من الخضوع لها وان أفعال العباد على العباد مكتوبه ومحال تغييرها. في زمنهم كانت الجرائم والحروب ترتكب تحت نصوص قرانيه أُسيء استخدامها بدون العقل، لتبرير الظلم، فكان صوتهم هادرا” معبرا” عن روح الانسان الثائرة التي لا تقبل الانكسار ظلما تحت مبدأ القضاء والقدر.
فكر المعتزلة يجب ان يخرج من التاريخ ويعيش بيننا مجددا، لأنه الفكر الوحيد الذي يمكن ان يسمح بمراجعة التاريخ ونقده بأدوات العقل المتطورة في زمننا، فالمخاضات الي مرت بها الامه والانكسارات التي قصمت ظهر المسلمين، قد تتحول مع روح الفكر الاعتزالي الى نهضه حقيقيه والى المشروع الحضاري الذي حلم ولازال يحلم به العرب.
فكر المعتزلة بقي نخبويا لمئات السنين ولم تتجرأ أي سلطه عربيه او اسلاميه او مؤسسه فكريه تنويريه على طرحه بديلا عن الليبرالية او اليسارية المغرقة في الالحاد، ربما لأن فكر المعتزلة لا يعفي معتنقيه من مسؤولياتهم الدينية والأخلاقية على العكس من التيارات الاخرى، وكان يمكن بعث هذا التراث في الثورات القومية العربية، وتجديد دماء الامه، بإمكانات الحاضر بدل شراء مشاريع النهضة بالتقسيط من الحضارات الأخرى، والتي فشلت جميعها في التطبيق لتبقى امتنا سكرى بين الذبح والانحلال. ترى متى يدرك العرب ان نهضتهم لن تأتي الا من تراثهم، وفكرهم بعد تنقيته واحيائه، وهو فقط من يرفع عنهم تهمة الانحطاط ويضمن لهم العزة والكبرياء؟
[email protected]

أحدث المقالات