كانت أور مكانا للفتنة والغواية والطقوس التي لايهدأ ضرب الدنابك ورعشة القيثارات فيها ، وكان كل شيء فيها يفضي الى لذة ما تسكن في بدن يرتعش لكاهنة أو أميرة في ثصر أو كاتب اللوح أو الجندي الآتي من حربه النهرية مع لارسا القريبة أو لكش الأبعد .
كانت أور مدينة أحترافية في التعامل مع غرابة المكان الجامع بين أذرع الرمل التي تحتضن الصحراء وظلال النخيل الذي يتبادل على سريره الموج قبلات النهر وينشد بسريالية حب فطري مواويل اصحاب الزوارق ( الكرافه )، فيما الخيول وحدها من تمسكَ جهة الصحراء وهي تصنع طقسا موسمياً لوجوه غريبة آتية مع القوافل من الهند وبابل وعمان وارمينا ، وربما هناك من يأتي من جهة لاس فيغاس.
كان ملوكها المثقفون يدركون جيدا أن مدينة مثل هذه تحتاج الى أن تتحول الى بيت هائل لأيواء الافكار الجديدة ، وحتى تجسد أحلامهم ونواياهم بشكلها الفنتازي المثير ، صنعوها على شكل أساطير ، ليفترضوا أن الفردوس في مكان ما بجهة الاهوار ، وافترضوا الجحيم تحت الأرض وأسسوا حانات لخيال الثمالة والشعر ، وبيت الالواح للتدوين ، وهناك ايضا بيت بثلاثة غرف لتعليم الموسيقى.
وربما هم أول من ابتكروا السوق وحوانيته عندما جعلوا الدكاكين مسطفة وبتواز هندسي مستقديم وبجهتين متقابلتين يحميهما سقف مقوس طويل مصنوع من القصب والحصران ، وتبيع انواع ما كان يؤتى به الى المدينة من الريف او المدن البعيدة ، حوانيت بيع البهارات والقمح والاقمشة ودكاكين لصناعة الاختام والسيوف وكؤوس النذر وأخرى تبيع العطور والآت الموسيقى وأدوات الزينة والأدوية المنشطة ربما.
هذا المشهد اليومي للمدينة ( أور ) هو بونوراما أول للحياة الحضارية التي لم تدرج الى الآن ضمن اللائحة العالمية التي تضعها اليونيسكو لحماية التراث العالمي .
هذه المدينة التي ربما كانت صاحبة التفكير الأول في جعل وجودها لايقترن بهاجسها واحلام ملكوها فقط بل كانت عبارة عن بريد هائل للرسائل والمشاعر والحكايات القادمة من كل مدن العالم القديم ، لهذا فأن الدهشة التي عقدت لسان المنقب الاثري العلامة ( ليوناردو وولي ) وهو يعثر على اول قبو ملكي في مقابر المدينة المقدسة ليصرخ بدهشة :ما هذا ، أنهم يعيشون امامنا بأكثر من الف عام.
ومن يومها عاش هاجس الاسطرة والبحث عن السر التوراتي الذي يشغل باله ، فقد ارتبط في ذهنه أنه شيئا عن ابراهيم الخليل سيجده في مكان ما ، حتى صار يلفظ مفردة ابراهام مع أي مفردة سومرية مشابهة للاسم ليصرخ :ها وجدت شيئا عن أبراهام .
لكنه لم يجد شيئا ، وبدلا عن ذلك صعد الى الزقورة عبر سلالمها المئوية ، وهناك وجد غرفة علوية راح يشم ترابها ويتحسس جدرانها المتهدمة ليكشف شيئا يعيش غرابة مشاعره أن الهواء في هذه الغرفة كان هواء تتنفسه الالهة ، وهو وحده من يثير فينا الرغبة الى شفتين والجفن واحتضان الملك لمحظيته التي جاؤا بها من بلاد الاناضول او دلهي او الى تأتيه رغبة الشوق الى مليكته .
في قصة قديمة لي عنوانها ( ميثلوجيا معاصرة ) كتبت شيئا عن اسرار هذه الغرفة ، واعتقدت أن العالم الاثاري في اكتشافه لتلك الغرفة سكنه احساس غامض ليواقع فيها وفي ليلة مقمرة زوجته ( كاثرين ) التي كانت ترافق الرحلة والتي كانت تترك لعامل التنقيب ( حمودي ) ليعمل لساقيها مساجاً مريحاً إذ كانت تعاني من الروماتيزم .
وهناك كان لاسرار الغرفة العِلوية في قمة الزقورة حكايات مخفية عن التأريخ الميثولوجي والتنقيبي لمدينة أور ، فلا أحد يعرف ما كان يحدث في تلك الليالي عندما يهطل القمر بزوارق الضوء على الحجر الاحمر للمعبد الذي بناه امير السلالة الثالثة أور ــ نمو في ( 2050 ق.م ) ، فربما تذهب اصابع حمودي الخشنة الى ابعد من سيقان السيدة الانكليزية ، وربما كان السير ماكس مالوان الذي كان يرافق وولي في رحلته يتمنى ان تكون معه الان زوجته الروائية البوليسية الشهيرة ( أجاثا كريستي ) التي تخلفت عن الالتحاق بالرحلة لانشغالها برواية جديدة تحتاج منها ان تكون قرب الوقد في بيتها الريفي بأنكلترا لتكتبها.
ولكنهم حتما كانوا يصحبون معهم المزيد من زجاجات الواين الاحمر حين يصعدون سلالم الزقورة في محاولة لأستعدادة اللحظات الروحية والغرامية التي كان يمارس فيها ملوك أور ، دفء الحنان ، والتوسل الى ( سين ) اله القمر لحاجات يحلمون بها ، النصر أو انجاب ولي العهد أو ابعاد المجاعة عن المدينة.
بين الزقورة التي ترممها الآن اقدام الحجيج والسواح وكاميرات القنوات الفضائية ، وبين ما كان يحدث فوق في غرفتها العلوية ، هناك اسرار لاتحصى من الهمس والاحلام والدموع والآماني لم ولن تكتشف بعد ..؟