هناك مبدأ عام تقوم عليه عملية التربية والتعليم المستدامة هو “علّم الانسان كيف يتعلم”، أي كيف يدرس ويفهم ويتابع وكيف يصحح خطأه وكيف يمارس ما تعلمه في حياته العملية. وينطبق هذا المبدأ على مثل صيني يقول: “لا تعطِني سمكة، بل علمني كيف اصطادها.”. هذان المثلان يوضحان العلاقة الجدلية بين المعرفة النظرية وبين تطابقاتها العملية في الواقع، وبمعنى آخر أهمية الممارسة في توصيل المعرفة وترسيخها في الذهن. وترتبط الممارسة العملية بالمنهج والمنهجية المتبعة في المدارس والجامعات التي ترتبط بطرق تحصيل المعرفة العلمية وتنظيمها. فمن الملاحظ ان الواقع التعليمي النظري والتطبيقي، منذ المراحل الدراسية الأولى وحتى الدراسات الجامعية، تهيمن عليه علاقة سيطرة وخضوع تنعكس غالبا على الطريقة التي تُقدم بها المعرفة، اذ ان طرق التدريس وآلياته غالبا ما تقوم في جو تنعدم فيه الحرية والاستقلالية ، ويتم فيها توصيل المعرفة بأسلوب يقوم على التلقين والحفظ عن ظهر قلب وحشو الذاكرة وبطريقة التطويع والتطبيع، التي تنتج بالضرورة عقلية تتقبل ما يقدم اليها من معلومات وكأنها مسلَّمات نهائية من دون فهم وتفكير ونقد، وهو نموذج واضح من السيطرة القهرية والعقاب غير المباشر والمفروض من فوق، حيث ان سلطة المعلم لا يمكن ان تُناقَش أو تُرَد، وعلى الطالب ان يطيع ويمتثل، وخاصة في جو ينعدم فيه التفكير النقدي الجدلي والتخطيط العقلاني الرشيد القادر على اعادة تفسير الواقع وفق العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة. ان طريقة التلقين والحفظ تمنع الطالب من التفكير بحرية وتحريك ذهنه وشحذه وتضعف، في ذات الوقت، قدراته على استيعاب المعلومات وتجعله سلبيا غير قادر على الفهم والتحليل والنقد ومواجهة الأمور المستجدة بتبصر، بل وتدفعه الى الجمود الذهني والتعصب والتطرف أحيانا، وهي طريق تؤدي في أغلب الأحيان الى انقسام الشخصية الى واحدة متسلطة قمعية وأخرى عاجزة نكوصيه. كما ان انقسام الشخصية يؤدي الى شل القدرات الذاتية للفرد وجعله محبطا يتحين الفرص المناسبة للانتقام والثأر للذات العاجزة. وهي احد أسباب نشوء الميل الى التعصب والعنف والعدوانية نحو الآخر. يقول برتراند رسل: “الحرب تبدأ من رياض الاطفال”. فحين يتلقى الأطفال الصغار الدروس عن طريق التلقين والتسلط والقمع، بدل التفكير الحر والنقد والتنافس والابداع، يتولد عندهم خوف وصراع وعدوانية فيردون العنف بعنف مضاد. وتلازم العدوانية سلوك الأفراد منذ الصغر، ورغم انها تهذب وتشذب عن طريق التربية والتعليم والثقافة، غير انها تبقى في اللاشعور، وتظهر في سلوك الافراد ومواقفهم حين تثيرها دوافع وأسباب اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية وغيرها. وفي الواقع العملي تظهر الهوة التي تفصل بين النظرية والممارسة بشكل واضح. فحين ينتقل الطفل الى الجامعة، فإن الهوة أو المسافة التي تفصل بين ما يتعلمه المرء في المدرسة وما يدرسه في الجامعة ستكون كبيرة، وسوف تكون الهوة أكبر بين ما يتعلمه في المدرسة والجامعة وبين ما يمارسه في حياته العملية، في البيت والشارع والعمل. والحقيقة إن ما يحصل عليه التلميذ والطالب والمتخرج الجامعي من معارف نظرية مكدسة في دماغه قد لا يستطيع تطبيقها عند نزوله الى الحياة العملية في الشارع والبيت والوظيفة والمصنع والمؤسسات الأخرى، اذ لا يجد في أغلب الأحوال الظروف والشروط والامكانيات المناسبة لتطبيقها أو تطويرها أو حتى الحفاظ عليها وعدم نسيانها. والأمثلة على ذلك كثيرة. فقد درج التلاميذ على حفظ النصوص والنظريات والقصائد الشعرية، والنصوص النثرية القديمة، من دون فهمها وتحليل معانيها واهدافها واستيعابها وتحوله الى ببغاء يردد ما يسمع وما يحفظ من دون فهم واستيعاب. وهناك عدد كبير من خريجي كليات الحقوق أو الاقتصاد أو الفيزياء أو الرياضيات وحتى خريجي اللغات الاوروبية الذين يتم تعيينهم في دوائر ومؤسسات ليست لها علاقة بدراستهم أو تخصصهم، فهم سرعان ما ينسون ما حفظوه بعد مرور بضع سنوات على تخرجهم. وفي أغلب الأحيان يصطدم المرء بالواقع، حينما يحاول تطبيق بعض المفاهيم التي تعلمها زمن الدراسة والتي ترتبط باحترام المهنة والحرية والاستقلالية والديمقراطية والوطنية وحرية البحث العلمي وغيرها، فهو يجدها تتناقض مع ما في الواقع ومع ما تعلمه أثناء الدراسة. ويعود الانفصام بين النظرية والتطبيق الى المنهجية المتبعة في طريقة تحصيل المعرفة العلمية التي تقوم عموما على حشو الدماغ بالمعلومات وتكديسها كماً وليس نوعاً، وكذلك على الأسلوب الخطابي الانشائي والعقلية الشفاهية الماضوية التي لا تستند على منهجية ميدانية استقرائية ولا تقوم على التدوين والتوثيق العقلاني، وإنما على المزاج العاطفي الخاضع للظروف الفردية التي سرعان ما تتبخر من الدماغ بعد مرور وقت قصير. خصوصا عندما لا تتوفر الفرص لاستخدامها في الحياة اليومية. ولذلك ينبغي تغيير مناهج التربية والتعليم القديمة وأساليب التفكير وطرائق التدريس ونقل المعرفة والمناهج العلمية والتقنية الحديثة، لأن تلك الوسائل والأساليب لا تزال تقليدية وتلقينيه وتذهب في اتجاه واحد حيث تنتقل المعلومات الجاهزة مباشرة، فتُفرض على الطالب من
دون مشاركة ومناقشة ورد فعل ومن دون ان يعمل فكره فيها وينشّطها. وبذلك يصبح التلقين صورة أخرى من صور التسلط والضبط التي تجعل التلميذ يخضع ويستجيب سريعا لاكتساب المعلومات حفظاً ببغائياً، لا فهما وادراكا واستيعابا ونقدا. ويعود السبب في ذلك الى ان العقل العراقي يقوم على الاطلاق والاقصاء، فهو يرفض أي نقد أو تصحيح أو تعديل ويخالف كل من يعارضه في الرأي، وهو ما يطبع العقل بأحادية الفهم والاقصاء. والإقصاء يورّث التعصب، والتعصّب يثير التطرف، والتطرف يدفع الى العدوانية، لأن المرء يجد نفسه انه على حق وغيره على باطل وليس هناك حل وسط. ان هذه الطرائق التربوية لا تساعد الطالب على استيعاب الموضوع الذي يدرسه ولا التفاعل معه ولا يهتم فيه في الأخير لأنه مفروض عليه من فوق. انها منهجية الإلزام والالتزام، أي القسر والطاعة التي لا تساعد التلميذ على التفكير الجدلي المتحرر من الوصاية وتحوّل المعرفة التي يتلقاها الى معرفة مقطوعة عن الواقع وليست لها علاقة بما يجري في الحياة اليومية، وبالتالي فهي لا تساعد على نمو المعرفة والخبرة والابداع وتطوير الشخصية العلمية المتحررة من سلطة التلقين والحفظ. فالمعرفة الصحيحة هي المعرفة التنويرية التي تنشط العقول وتحررها من الوصاية التي يفرضها الآخرون. وتعود ثنائية السيطرة والعقاب والاذعان والنكوص الى النظام الأبوي الذكوري الذي ما زال يؤثر في عملية التربية والتعليم، والذي يقوم على ثنائية التسلط والخضوع، وليس على التفاهم والتواصل والحوار ويكرس أساليب الضبط الاجتماعي بدلا من توظيف الحرية والاستقلالية في تطوير وتراكم المعرفة والثقافة. كما ان الخضوع للنزعة الأبوية-البطريركية التي تتحكم في وجودنا هو خضوع لعقلية التخلف التي هي جزء من ظاهرة كلية، هي الوجود المتخلف نفسه. ومن القضايا الأساسية في ضعف منهجية التعليم في العراق هي عدم الاستقلالية في تلقي المعرفة والتفكيك والتحليل وممارسة النقد والنقد الذاتي، وذلك لانعدام الحرية، التي تقيد الفكر وتسبب ركودا في الفكر وعدم استيعاب المعرفة الجدلية في تلقي المعلومات وعدم مناقشتها ونقدها، وهو ما يسبب انقطاعا ذهنيا لعدم وجود علاقة تفاعلية في تلقي الافكار وتراكمها وادائها بشكل صحيح. كما يعود القصور المنهجي الى عدم توفر الدراسات الميدانية والقيام ببحوث عملية ومختبرية تربط بين ما يتعلمه المرء وما يمارسه في الحياة اليومية، كما يجري في كثير من المدارس في بريطانيا مثلا، حيث يقوم تلاميذ المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، بتقديم بحوث ميدانية وعملية وأحيانا بحوث أمبيريقية مبسطة، كل حسب مستواه الدراسي، تزودهم بالخبرة والتجربة العملية من خلال العمل الجماعي في جمع المعلومات من مصادرها ومن واقع الحياة اليومية وفهمها والتفاعل مع بصورة عملية. والى جانب هذا وذاك فإن الانقطاع الحيوي بين المعلم والتلميذ وبين الأستاذ والطالب وبين المدرسة والمجتمع وعدم الاعتماد على المصادر والمراجع والوثائق في الدراسة والبحث يحدث انتقالا سريعا وغير عميق في اكتساب المعرفة العلمية وعدم توثيقها بالمراجع العلمية التي ترتبط بكل مرحلة من المراحل الدراسية. كما ان نمط الامتحانات والتقييم والتقويم ما زالا مرتبطين بالأهواء والمصالح والايديولوجيات. وما زال العقاب هو وسيلة الاذلال والقمع التي يحول التلميذ الى شخص” مؤدب” مطيع. والمطيع سلبي دائما ولا تتوفر لديه فرص التقدم ودوافع الابداع، حيث يتملّكه هاجس الخوف والشك والريبة ويحرمه من متعة المشاركة والتفكير الحر والحوار وبالتالي يتعطّل الحس النقدي عنده الذي هو محرك التطور والابداع، ما يضطره في الأخير الى الاستسلام للأمر الواقع. وهو ما يضعف شخصيته ويقيد حريته وقدراته. وبالإضافة الى كل ذلك ما تزال تسيطر على العقل العراقي بصورة عامة الخرافة والقدر الأعمى وذلك لاستمرار العقلية النقلية التقليدية والماضوية المتخلفة التي تستقي معرفتها من التقاليد والأعراف والاساطير والخرافات ، ولأن التعليم لم يشكل بالنسبة الى العقل المتخلف سوى القشرة الخارجية الرقيقة التي سرعان ما تتعرض للاهتزاز والتمزق عندما تصطدم بأي عارض كان، ولأن استمرار التخلف يفقد الذهن حريته ومرونته وحركته وكذلك اتجاهه النقدي بحيث تصبح نظرته للأمور نظرة ذات بعد واحد، ويصبح الفكر النقدي مشلولا وينقاد بسرعة الى ما يفرض عليه من الخارج دون نقد وتمحيص. ان أساليب التربية والتعليم المتبعة في الدول المتقدمة تهدف الى تطوير ذهنية عقلانية وواقعية وعملية ونقدية، حداثية وليست ماضوية، تدوينيه وليست شفاهية صوتية، تنافسية وليست صراعية، تهدف الى تعزز أهمية الانسان بدل الفرد وتقوم على أساس التعاون والتسامح بدل العنف والأنانية، وهو ما يساعد على احترام الذات وغرس مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الانسان