18 نوفمبر، 2024 3:52 ص
Search
Close this search box.

كيف شيعنا الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” لمثواه الأخير؟؟

كيف شيعنا الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” لمثواه الأخير؟؟

حالة تأهّب قصوى في بغداد والعراق
بينما تنعّم عموم العراقيين في بيوتهم براحة جسدية على الأقل وحزن عليه أقرباؤه وأصدقاؤه ومحّبوه، وفيما إستشعر الحاقدون على “عبدالسلام عارف” وكارهوه بفرح وإرتياح عميقين على ما آل إليه مصيره، فقد أُدخٍلنا -نحن الحرس الجمهوري- في حالة تأهّب قصوى، متوقّعين أن حادث سقوط الطائرة لربما كان مقدّمة لـ”مؤامرة” لقلب نظام الحكم.. لذلك إستحضرنا منذ فجر (الخميس-14/4/1966) للردّ على أية تحرّكات مشبوهة  نرصدها وبأقصى ما يمكن من الإجراءات… وقد أعانَنا “حظر التجوال العام” الذي بموجبه خلت الشوارع من السيارات والمارة في عموم “بغداد” وسهّلت علينا أن تجلب أنظارنا أية حركة غير إعتيادية في المنطقة المحيطة بـ”الصالحية” عموماً، ومبنى الإذاعة والتلفزيون بشكل خاص.واجباتنا المُرهِقة
ولكن الإنذار والتهيؤ والتأهّب لكل الإحتمالات القائمة -والتي إعتدنا على معايشتها وممارستها- لم تكن قد شغلتنا بقدر ما ستُشغلنا وتُتعِبنا إستحضارات تشييع الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” إلى مثواه.
فقد توَجَبَ على فوجنا الذي يحتوي (3) سرايا مقاتلة فحسب و(رابعة) تحت التشكيل، أن:-
1. يُشدّد الحماية ضمن القصر الجمهوري، في سياجه ونقاط الحراسة المحيطة به ومراقبة الشوارع المارة من قربه… وهو الواجب الإعتيادي الذي تنتشر لأجله سرية واحدة.
2. ينشر سرية أخرى حوالي المنطقة المحيطة بالقصر الجمهوري وثكنة فوجنا نحو “الجسر المعلّق” و”قاعة الخُلْـد” من جهة، وبإتجاه السفارتَين الأمريكية والسوفييتية من جهة ثانية.
3. يُبقي الفصيل المُكلَّف بحماية دار سكن عائلة رئيس الجمهورية بأقصى درجات التأهّب.
4. يشدد الحماية حوالي مبنى الإذاعة والتلفزيون في “الصالحية”.
5. يَحتفظ -فوق كل ذاك وذاك- بقوة (إحتياطية) بيد آمر الفوج، للتدخّل الفوري والحاسم في أي من المواقع سالفة الذكر عند حدوث أي طارئ.وقد علمنا ظهر ذلك اليوم، أن أمراً قد صدر الى آمر فوجنا “الرائد الركن عبدالرزاق صالح العبيدي” بأن يتسلّم فوراً منصب “سكرتير عام ديوان رئاسة الجمهورية” خلفاً للرائد “عبدالله مجيد” إضافة إلى منصبه الحالي.
الإحتمالات القائمة لقلب نظام الحكم
من الطبيعي أن لا يفسّر مسؤولو الأجهزة الأمنية والإستخبارية في “بغداد” وعموم العراق مصرع الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” كونه مجرّد حادث سقوط طائرة هليكوبتر جراء خلل فني لم يتحقق بعد أو عاصفة ترابية قوية لم يتأيّد وقوعها تماماً بعد، فالبعض من كبار المسؤولين في الدولة الذين تواجدوا في “البصرة والقرنة”، سواءً أولئك المستقرين في وظائفهم هناك أو الذين كانوا مرافقين لرئيس الجمهورية خلال الزيارة، لم يلاحظوا العاصفة المزعومة أو يتحسّسوها، ومن المنطقي أن يفسِّروا مثل هذه الحوادث سلباً، لا سيما وهم في دولة من دول العالم الثالث غير المستقرة سياسياً، وخصوصاً في بلد مثل “العراق” الذي ما فتئ يغلي في خضم أحداث دموية خيّمت عليه منذ (8) سنوات عجاف إنصرمت طاف خلالها وسط ثورات وإنقلابات ومؤامرات وإنتفاضات تمخضت عن إنقسامات وتضادّات عمّت أبناء الوطن الواحد من شماليه إلى جنوبيّه ومن شرقيّه إلى غربيّه.. ناهيك عن الصراع الدائم طوال التأريخ على كراسي الحكم، والذي كانت الحضارات التي إنبثقت في “العراق” وسواه منذ (5000) سنة مسرحاً دائماً لوقائعه.
كان الإحتمال الأساس أن يكون الحادث الذي أودى بحياة “عبدالسلام محمد عارف” ضمن مؤامرة إغتيال في ذلك المساء، فلا “مؤيدو العهد الملكي” ممّن كانت تسمّيهم أدوات الإعلام الحكومية ومعظم الأحزاب والكتل المؤثرة على أمور البلد بـ”الرجعيّين”، قد نسوا قضاء “عبدالسلام” على نظامهم الذي قاد “العراق” منذ أوائل عقد العشرينيّات من هذا القرن ولغاية يوم (13/تموز/يوليو/1958)… ولا “الإقطاعيّون” ومُلاّك الأراضي الشاسعة وكبار الأثرياء وذوي النفوذ في ذلك العهد يمكن أن يكونوا قد مسحوا من نفوسهم وعقولهم ما كانوا قد تعرّضوا له من إذلال ومَهانة جراء “قانون الإصلاح السياسي” الفاشل… ولا “الشيوعيون” يمكن أن تكون أحقادهم وضغائنهم قد زالت تجاه المذابح والإعدامات والتعذيب الجسدي والنفسي والإعتقالات وأحكام بالسجن التي تعرّضوا لها منذ يوم (14رمضان/8 شباط/فبراير/1963) وقتما تسنّم “عبدالسلام عارف” منصب رئيس الجمهورية قبل (3) سنوات فقط… ولا “البعثيون” الذين ضَيَّعَ عليهم “عبدالسلامعارف ” نظام حكمهم يوم (18/تشرين الثاني/نوفمبر/1963)، حيث لم تنقض سوى سنتين ونصف على تلك الحركة التي أسموها (ردّة تشرين)… ولا “القوميّون/الناصريون” -الذين ما زال البعض من قادة كتلتهم لاجئين سياسين في “القاهرة” والبعض الآخر رهن التوقيف وعدد آخر تحت الإقامة الجبرية في دور سكناهم، أو على الاقل تحت مراقبة عناصر أجهزة الامن والإستخبارات- يمكن أن ينسوا موقف “عبدالسلام عارف” معهم قبل (7) أشهر فحسب من ذلك اليوم.
هذا، ناهيك عن “المتمردين الأكراد” الذين هم مشتبكون بمعدلات يومية وبقساوة مع وحدات الجيش العراقي المنتشرة في عموم “شمالي العراق” منذ حوالي عام كامل.ولكن آمر فوجنا، حين جمعنا بعد ظهر (الخميس/14/نيسان)، فقد ركّز على نقطة ذات خطورة قصوى:-
  ((تشير معلومات الإستخبارات العسكرية بأن “الشيوعيين” هم الذين يحتمل أن يقوموا بعملية إختطاف لجثمان الرئيس “عبدالسلام عارف” عنوة، ليهرّبوه الى مكان مجهول أو يرموه في ماء “دجلة” إنتقاماً من المصير نفسه الذي آلَ اليه جثمان زعيمهم الأوحد “عبدالكريم قاسم” أيام (رمضان/شباط/1963) كما هو معروف)).
ولذلك شدّد على ضرورة إتخاذ إقصى درجات الحيطة والحذر أثناء التشييع الذي سيجري عصر يوم السبت القادم (16/نيسان) والحيلولة دون إفساح المجال لأي شخص كان بالتقرّب من الرفاة.ولربما كان وَقْع تشديد “آمر الفوج” على موضوع “الشيوعيين” على زملائي الضباط المستمعين إعتيادياً، وأنهم بالتأكيد سيؤدون واجباتهم أثناء التشييع بكل صرامة، سواءً حبّاً لشخص “عبدالسلام عارف” أو تنفيذاً لأوامر عسكرية صدرت إليهم… ولكن وَقْعهُ على شخصي كان مغايراً لكوني الوحيد من أبناء مدينة (كركوك) والذي شاهد بأم عينيه أحداث “مذبحة كركوك” أواسط (تموز/يوليو/1959) وعاش (ثلاثة) أيام سوداء من تأريخ العراق المعاصر، وشاهد جثثاً لأبناء مدينته وبنيّ قومه معلّقة على أعمدة الجسور والكهرباء، وأخريات مُبَعثَرات ومُنتَــفِخات وسط شوارعها وقد إجتمعت حولها كلاب سائبة تنهش بأجزائها… لذلك تحضّرتُ لتطبيق الأوامر بنفسية متحمّسة مشوبة بالحقد وبكل ما أُوتيتُ من بأس، وإعتبرتُ ذلك فرصة للثأر من “الشيوعيين” الذين قد يحاولون إختطاف جثمان “عبدالسلام عارف” فرسختُ في قرارة ذاتي أن أي شخص يتقرّب بشكل غير إعتيادي من موكب التشييع يمكن أن يكون “شيوعياً” ينبغي أن أمنعه وأضربه بشدة.نقل الرفاة إلى “بغداد”
في الساعة الثانية بعد ظهر (الخميس/14/نيسان/1966)، وبينما كان حظر التجوال في عموم العراق قد سَرى، إنطلق الموكب الجنائزي من منطقة “النَشْوة” تتقدّمه سيارة عسكرية تحمل “حرس شرف” حتى بلغ جسراً قريباً من “مطار البصرة الدولي” حيث كانت جموع غفيرة تنتظر، قبل أن يواصل الموكب مسيره نحو مبنى المطار نفسه ليختلّ نظامه بعد أن فَقَدَ الجميع توازنهم ذارفين الدموع غارقين في البكاء ومن دون مراعاة للرسميات أو تحفّظ للمناصب والرتب. 
وفي الساعة الخامسة عصراً، وكما كان موكب “عبدالسلام عارف” قد أُستُقبِلَ بحفاوة وبإطلاقات المدافع وحرس الشرف والسلام الجمهوري قبل (55) ساعة في هذا المطار، فقد وُدِّعَ وداعاً حافلاً –ولكن بـ((جثّة هامدة)) مع جثامين صحبه- على متن طائرة النقل العسكري الضخمة ذاتها والتي إكتشفت مصرعهم صبيحة هذا اليوم، حيث أطلقت المدفعية (21) إطلاقة تحية للرئيس الراحل وبحضور “الدكتور عبدالحميد الهلالي” وزير الإقتصاد، وقد إصطفّ إلى جانبه متصرف “محافظ” البصرة وكالةً، ومدير الموانئ العام، وآمر موقع البصرة وكالةً، وسط جمهور غفير من المواطنين.وفي “قاعدة الرشيد الجوية” قرب “بغداد”، حطّت الطائرة في الساعة السادسة مساءً، حيث وقف في إستقبالها رئيس الوزراء “عبدالرحمن البزّاز” و”المشير عبدالحكيم عامر” النائب الأول لرئيس ج.ع.م وأعضاء الوفد المصري المرافق له، والوزراء جميعاً، وعدد من أفراد عوائل الشهداء، وعدد من كبار القادة العسكريين وموظفي الدولة. 
وشارك رئيس الوزراء والمشير “عامر” في حمل نعش “عبدالسلام عارف” الى سيارة إسعاف عسكرية قبل إنزال النعوش الأخرى الملفوفة بالأعلام العراقية وأكاليل من الزهور، قبل أن يُنقلوا جميعاً إلى “قسم الطب العدلي” في مستشفى الرشيد العسكري.

عشرات الوفود الرسمية تتوالى على “بغداد”
وبينما تقرّر في بيان رسمي، صدر في ساعة متأخرة من ليلة (الخميس/الجمعة-14/15نيسان) بالسماح للمواطنين بالتجوال إعتباراً من الساعة السابعة من صباح الجمعة وحتى الرابعة عصراً، فقد توالت على العاصمة مع حلول ظهر الخميس عشرات من الشخصيات العربية والإسلامية والأجنبية تهيؤاً للمشاركة في تشييع الرئيس الراحل إلى مثواه الأخير، وكان في مقدمتهم رئيس وأعضاء وفد الجمهورية العربية المتحدة (مصر) برئاسة “المشير عبدالحكيم عامر” وعضوية السادة “عبدالحميد السراج –نائب رئيس الجمهورية، أمين هويدي-وزير الإرشاد القومي والسفير السابق ببغداد، و”عبدالمجيد فريد” –أمين عام رئاسة الجمهورية والسفير الأسبق ببغداد، و”الفريق أول طيار محمد صدقي محمود” قائد القوات الجوية والدفاع الجوي”… وقد صاحبهم “المَهيب علي علي عامر” القائد العام للقوات العربية”، وكذلك السيد “عبدالخالق حَسّونة” الأمين العام للجامعة العربية، والسيد “أحمد الشُقَيْري” رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.كما حطّت بالبلاد وفود من دول “البحرين، السودان، ليبيا، تونس، المملكة العربية السعودية، عُمان، المملكة الأردنية الهاشمية، الجزائر، تركيا، سويسرا، الولايات المتحدة الامريكية” تباعاً.وعلى متن طائرة ركاب سوفييتية خاصة أقلعت من “موسكو” الى “بغداد” مباشرةً، عاد “اللواء عبدالرحمن عارف” رئيس أركان الجيش وكالة، مساء الجمعة، مصحوباً بوفد سوفييتي رفيع المستوى، فيما بقي “اللواء المهندس منير حسين حلمي -قائد القوة الجوية وكالةً- في “موسكو” لمواصلة المفاوضات التسليحية مع السوفييت.
التشييع العسكري
قرّرت الحكومة العراقية قد إجراء تشييعَين رسميّين للرئيس “عبدالسلام عارف” وصحبه، الأول على المستوى العسكري بإعتباره القائد العام للقوات المسلحة، والثاني على مستوى الدولة بإعتباره رئيسا للجمهورية… ففي الساعة العاشرة من صباح (الجمعة/15/نيسان) رُفِعَت النعوش ملفوفة بالأعلام العراقية ومحمولة على سيارات عسكرية إنطلقت من مبنى “وزارة الدفاع” في “الباب المعظّم” متوجّهة إلى “جسر الصرافية الحديدي” تتقدّمها فرقة موسيقى الجيش وسرّيتان من تلاميذ الكلية العسكرية ومجاميع من رجال الدين، يتبعها الوزراء القائمون مع السابقين، وأعضاء السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي الممثَّلون في “بغداد”، وقادة الجيش وضباطه الأقدمون، وضباط الشرطة، وكبار موظفي الدولة… في حين إحتشدت على جانبي الطريق جماهير غفيرة والدموع تنهمر حتى من عيون رجالها، ناهيك عن النساء. 
وفي ساحة ذلك الجسر كان رئيس الوزراء “عبدالرحمن البزّاز” وإلى جانبه “المشير عبدالحكيم عامر” وعدد من الوزراء يستقبلون الموكب، ليسيروا معه على الأقدام حتى بلغوا جامع “الإمام أبي حنيفة النعمان” ليؤدّوا جميعاً “صلاة الجمعة” معاً، وقبل أن يصلّي الجميع على أرواح الصرعى “صلاة الغائب” وتُعاد النعوش جميعاً إلى “مستشفى الرشيد العسكري” إستحضاراً للتشييع الرسمي الذي سيجرى في اليوم التالي (السبت/16/نيسان). 
إستحضاراتنا النهائية للتشيع الرسمي
تنفّسنا الصعداء في مبنى الإذاعة والتلفزيون لإنقضاء مراسيم “التشييع العسكري” بسلام ومن دون طارئ -على عكس ما توقعته الإستخبارات العسكرية- ولكن إحتمال إختطاف رفاة “عبدالسلام عارف” ظلّ قائماً، ولربّما مُؤَجّلاً إلى ساعات مراسيم التشييع الرسمي، فيما أبلَغَنا آمر سريتنا بأن (12) ضابطاً من فوجنا فقط سيشاركون فيها، وهم حسب قدمهم العسكري:-

1- الملازم أول قاسم محمد صكر. 
2- الملازم أول يوسف خليل أحمد. 
3- الملازم سعد شمس الدين خالص. 
4- الملازم عبد مطلك الجبوري.
5- الملازم قاسم فرحان.
6- الملازم وليد جسّام.
7- الملازم مشعل تركي الراشد. 
8- الملازم صبحي ناظم توفيق.
9- الملازم عبدالجبار جسّام.
10- الملازم سعد عبدالهادي العَسّاف.
11- الملازم موفق محمد جميل.
12- الملازم حَمّودي عبدالمجيد.
أما باقي ضباط الفوج فإنهم سيظلّون في مواقعهم حوالي القصر الجمهوري ومبنى الإذاعة والتلفزيون لتأمين الحماية الضرورية في مثل تلك الساعات المشحونة بإحتمالات عديدة وخطيرة، والتي قد يستغلّها بعض الفئات لتحاول قلب نظام الحكم أو غلإقدام على أعمال شغب ومظاهرات قد تؤثر سلباً على إستقرار النظام وأمنه، لا سيما وأن جميع كبار مسؤولي الدولة، من عسكريين ومدنيين، سيتركون دوائرهم ومواقعهم المهمة مشاركين في مراسيم التشييع ولنهار كامل. 
حضرنا -نحن الضابط الإثنى عشر- في القصر الجمهوري مساء (الجمعة/15/نيسان) كي نتعرّف على الموقع الذي سيُوضع فيه نعش السيد الرئيس في صباح اليوم التالي، ونطلع على تفاصيل التوقيتات التي يتضمّنها منهاج التشييع، وعلى الأركان الأربعة من القاعة التي سنقف فيها بوضع الإستعداد ودون أية حراك بواقع (4) ضباط تباعاً أثناء مراسيم إلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان، والتي قد تستغرق أكثر من (4) ساعات، وبمعدل ساعة واحدة أو تزيد لكل وجبة. 
وإضافة لكل ذلك فقد تهيّأنا لتطبيق أسلوب حمل النعش ووضعه على “عربة المدفع” ونظام المسير البطيء على الموسيقى الجنائزية بمحاذاة العربة وبمعدل (6) ضباط في كل من جانبَيها، ناهيك عن إجراءات الأمن التي ينبغي إتخاذها أثناء المسيرة الطويلة ولأكثر من ساعة واحدة إنطلاقاً من “القصر الجمهوري” ولغاية “ساحة الشواف” القريبة من “مستشفى الطفل العربي”.كان آمر فوجنا يشرح لنا كل تلك التفاصيل بحضور “اللواء عبدالقادر ياسين” -معاون رئيس أركان الجيش- والقائم برئاسة اللجنة المشرفة على تنفيذ المراسيم بمعاونة “العميد يوسف رزوقي بَطّة”.لقد أُرهِقنا خلال اليومين الماضيين، وإستشعر كل منا بإختلال في جسده المُجهَد ونفسه المُتعَبة، فقد مضى علينا أكثر من (48) ساعة من دون أن نتمتّع بقسط من الراحة الجسدية أو النفسية، ولم نستغرق في نوم مريح ولو لساعة واحدة… وها نحن الآن مُقبِلون على ليلة أُخرى من الحيطة والحذر والسهر، يليها يوم مرهِق أشدّ مع حلول الصباح الباكر من اليوم التالي وحتى غروب شمسه… ولكن ((إنا لله وإنا إليه راجعون)).
التشييع الرسميّ إلى المثوى الأخير
رقد الرئيس الراحل “عبدالسلام محمد عارف” ليلته أخيرة على وجه الأرض لدى قسم الطب العدلي بـ”مستشفى الرشيد العسكري” منذ أُعيد -بعد إجراء مراسيم التشييع العسكري- عصر (الجمعة/15/نيسان/أبريل/1966)، وقبل أن يُعلن على الملأ من الإذاعة والتلفزيون منهاج التشييع الرسمي الذي نشرته الصفحات الأولى لجميع الصحف العراقية التي صدرت صبيحة (السبت/16/نيسان).. وفقاً لما يأتي:-
الساعة (09,30)- وصول الجثمان إلى القصر الجمهوري.
الساعة (09,35)- تلاوة آيٍ من القرآن الكريم.
الساعة (09,45)- حضور ضباط القوات المسلحة لتنظيم المراسيم.
الساعة (10,00)- المباشرة بمراسيم التوديع وإلقاء النظرة الأخيرة.
الساعة (15,00)- حمل (12) ضابطاً من الحرس الجمهوري جثمان الرئيس الراحل، ووضعه على “عربة مدفع”.
الساعة (15,15)- سير الموكب الجنائزي من القصر الجمهوري وصولاً إلى “ساحة الشواف”.
عند الوصول إلى “ساحة الشواف” يُنزِل ضباط الحرس الجمهوري الجثمان من فوق عربة المدفع ويحمّلونه على متن سيارة عسكرية مكشوفة.
ينطلق موكب السيارات من (ساحة الشواف- شارع الشواف- شارع 14 تموز- ساحة دمشق- جسر الخِرّ- ساحة قطحان- حي الضباط/اليرموك- طريق الفلّوجة العام- المثوى الأخير في جامع “الشيخ ضاري”).
في القصر الجمهوري والنظرة الأخيرة
كنا -نحن ضباط الحرس الجمهوري المكلَّفين بالمشاركة في المراسيم هذه- جاهزين في القاعة الكبرى للقصر الجمهوري منذ الساعة (07,30) من صبيحة (السبت/16/نيسان/1966)، مرتدين ملابس حرس الشرف الرسمية والقبّعات المغطّاة بريش النعام، وحاملين سيوفنا على الجانب الأيسر من أجسادنا، عندما بُلّغنا أن جثمان الرئيس الراحل قد حُمِّلَ من “مستشفى الرشيد العسكري” إلى مسكن العائلة المستأجر والمُطلّ على “نهر دجلة” في حي “كرادة مريم”، وذلك في الساعة (08,30) صباحاً، ليرقد بين أفراد أُسرته وأقربائه مدة (نصف ساعة) فقط.وعند بلوغ النعش في الساعة (09,30) داخل سيارة إسعاف عسكرية إلى المدخل الرئيس للقصر الجمهوري، حملناه على أكتافنا حتى وضعناه بهدوء وسط القاعة الكبرى، والتي طالما شهدت إستقبال “عبدالسلام محمد عارف” للذين كانوا يُدعَون لولائم الطعام في أيام السنة الإعتيادية ودعوات الإفطار خلال شهر رمضان من كل عام، وقد تم ترتيب علم عراقي ليلفّه، وذلك قبل أن نضع النعش على منصّة ضخمة إرتفاعها متر واحد، إستقرت حواليها أكاليل الزهور.
وقفنا -نحن ضباط الوجبة الأولى الأربعة الملازمون:- “سعد شمس الدين، عبد مطلك الجبوري، مشعل تركي الراشد…. وكنتُ رابعهم” في زوايا النعش الأربع، حين بدأ القارئ “عبدالرحمن توفيق” تلاوة آيات من القرآن الكريم.
وحالما تأكد آمر فوجنا من المظهر اللائق الذي آلت إليه القاعة وما ومن فيها، وبينما إستقر كل منا في ركن من أركان النعش ماسكين سيوفنا بين أيدينا واضعين نبالها على الأرض أمام قدمَينا، مُخَفضين رؤوسنا بعض الشي إحتراماً للرئيس المُسَجّى وسطنا، حتى حلـّت الساعة العاشرة من ذلك الصباح ليبدأ تطبيق أولى فقرات منهاج التشييع الرسمي الحافل بإلقاء نظرات الوداع الأخيرة على جثمان “عبدالسلام محمد عارف”.
كان أوّل الذين دخلوا القاعة من بوّابته أخواه:- الأكبر “عبدالسميع محمد عارف” والأصغر “صباح محمد عارف” وبجانبهما الصبي “أحمد عبدالسلام عارف”، والبعض من أقربائه وأصدقائه المقرّبين، وهم يذرفون الدموع ويبكون بمرارة، تبعهم أخاه الأوسط “اللواء عبدالرحمن عارف”-رئيس أركان الجيش وكالة- ووزير الدفاع “اللواء الركن عبدالعزيز العُقَيْلي”، ومعاون رئيس أركان الجيش “اللواء حمودي مهدي” واضعين أكاليل زهور قرب رأس رئيسهم الراحل.
وتوالى حضور الوفود العربية والأجنبية، قبل أن يلقي أعضاء مجلس الوزراء وكبار قادة القوات المسلحة وموظفي الدولة ورجال الدين المسلمين والنصارى والطوائف والمئات من المواطنين الإعتياديين من أهالي “بغداد” ومدن العراق، نظراتهم الوداعية الأخيرة، والتي إستغرقت ساعات عديدة من ذلك النهار الذي حجبت غيومه نور الشمس تماماً، وزخّت سماؤه رذاذاً خفيفاً لبضع دقائق بين حين وآخر، وذلك قبل أن يجلس الضيوف في قاعات القصر الجمهوري الأخرى وبعض حدائقه الأمامية، إنتظاراً للمشاركة في التشييع الى المثوى الأخير.. حتى حلّت الساعة الواحدة والنصف ظهراً، حين دُعِيَ الحضور لتناول طعام غداء بسيط مفروش على مناضد طويلة في حدائق القصر، وقتما إمتنع معظمهم التقرّب نحوه على عكس ما كنا نشاهده في ولائم هذا القصر.المسير الجنائزي حتى ساحة “الشواف”
كان كل شيء على شارع “كرادة مريم” العام جاهزاً قبيل الساعة الثالثة إلاّ ربعاً من عصر ذلك اليوم… وبالقرب من بوابة الخروج للقصر الجمهوري كان هناك موقع محدد شاغر ستُشغله “عربة المدفع” التي تجرّها (6) خيول عربية بإنتظار نعش “عبدالسلام عارف” أمام البوابة الرئيسة لمبنى القصر.وفي الساعة الثالثة إلاّ خمس دقائق، حمل (12) ضابطاً الجثمان واضعينه على العربة… وهكذا ودّع جسد “عبدالسلام عارف” ذلك القصر الجمهوري الذي ظلّ يدير منه شؤون العراق منه طيلة (3) سنوات مضت.
وفي الساعة الثالثة تماماً إستقرّت العربة في الموقع المحدّد لها، وقد كُتبَ في جانبها الأيمن عبارة:- 
((لقد نذرتُ نفسي لخدمة الشعب، وكل ما أُريده أن ترفرف السعادة في كل بقعة من هذا الوطن)). 
وفي الجانب الأيسر من العربة:- 
((الفقيد الراحل عاش من أجل وطنه، ومات وهو يتفقد شعبه)).
كان رجال الشرطة راكبو الدراجات البخارية في أقصى الأمام من موكب المسير الجنائزي الراجل، وقد سارت خلفهم مباشرة سرية خيالة تابعة للكلّية العسكرية، تلاهم جَوقَـا موسيقى الجيش والقوة الجوية بلباس المراسيم.. ثم سرية حرس جمهوري بلباس المراسيم ايضاً، وسار خلفها سرايا فوج كامل من طلاّب الكلية العسكرية بنظام الكراديس (8×12) طالباً.. ثم كوكبة رجال الدين التي تقدمت نعش رئيس الجمهورية المحمول على عربة المدفع.. يليهم المُرافقون الحامِلون لأوسمة الفقيد، وهم يتقدمون كردوساً من طلاّب الكلية العسكرية الذين يحملون أكاليل الزهور.. يتلوهم أفراد أُسرة “عبدالسلام عارف” وأصدقاؤه المقرّبون.
أما رئيس الوزراء “الأستاذ عبدالرحمن البزّاز” فقد سار خلف أولئك وسط ممثلي الملوك ورؤساء الدول العربية والأجنبية ورؤساء الوفود وأعضاؤها، ثم رؤساء وزراء “العراق” السابقون والوزراء الحاليون، ورؤساء البعثات الدبلوماسية والملحقون العسكريون والجويّون والبحريّون العرب والأجانب، وأعضاء المنظّمات الدولية، يليهم الوزراء السابقون، ثم معظم ضباط الجيش والشرطة “من رتبة عقيد فما فوق”، ورؤساء الطوائف الدينية والروحانية، فالموظّفون من أصحاب الدرجات الخاصة وكبار موظفي الدولة، فالضباط المتقاعدون “من رتبة عميد فما فوق”، يليهم رؤساء الغرف التجارية والصناعية والنقابات والجمعيات ووجوه البلد، حتى أعقبتهم في نهاية الموكب (4) سيارات من شرطة النجدة ومعها (4) دراجات بخارية.كان ترتيب المسير هذا قد أُعلِنَ من خلال بيان رسمي طويل ومفصّل، بُثّ من الإذاعة والتلفزيون في الليلة السابقة، وقبل أن تنشره صحف “بغداد” الصباحية، إذْ نصّ كذلك أن يكون لباس العسكريين “البزّة الكاملة مع السدارة والأوسمة”، وأن يرتدي المدنيون بدلات وربطات عنق ذات لون غامق.. وقد ترجّى البيان من أبناء الشعب التحلّي بالهدوء وإحترام روعة الموكب والتمسك بالصبر والمحافظة على العواطف.
وعلى شارع “كرادة مريم” العام المؤدّي من القصر الجمهوري إلى “ساحة الشواف” وقف الباقي من طلاّب الكلية العسكرية وكلّيات القوة الجوية والضباط الإحتياط والشرطة وطلاب الشرطة الممتازة على جانبَيه قرب الرصيف، وقد فصلت بين تلميذ وآخر مسافة (5) أمتار، وكانوا يستعدون حال وصول مقدمة الموكب الجنائزي إليهم، ويتّخذون وضع “سلام خُذْ” ببنادقهم وقتما يمرّ النعش المحمول على العربة من أمامهم مباشرة.. في الوقت الذي أُوعِزَ إليهم بضرورة منع أي من المواطنين الإعتياديين المتجمهرين على رصيفَي الجانبَين من النزول الى الشارع بشكل مطلق.ونظراً للصمت العام الذي كان مُطَبَّقاً على الشارع والمناطق المحيطة به، وعلى الرغم من بعد المسافة بين “عربة المدفع” والجَوقَين الموسيقيّين السائرَين في مقدمة الموكب، وعَويل بعض النساء بين حين وآخر، فقد كنّا نسمع بكل وضوح تلك الأنغام الجنائزية التي تطلقها آلاتهما الموسيقية، وخصوصاً وقع الطبول، والتي بموجبه سرنا -نحن ضباط الحرس الجمهوري الإثنى عشر- مسيراً جنائزياً بطيئاً منتظماً على جانبي النعش المحمول على العربة والذي لم يتخلخل مطلقاً رغم القلق الذي كان يساور نفوسنا منذ تلقّينا توجيهات آمر الفوج بوجوب اليقظة والحذر أثناء التشييع وإحتمالات خطف الجثمان.
كان الموكب الجنائزي مَهيباً للغاية لم يتخلّله أي طارئ، وقد تجمهر عشرات الآلاف من المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً على رصيفي الشارع العام، وقد إنتصبت نظراتهم على نعش “عبدالسلام عارف” بشكل خاص، وعلى وجوه الشخصيات العربية والأجنبية والعراقية بشكل عام.
أفكار عبرت اُفق خيالي
كان معظم المواطنين يذرفون الدموع مدراراً حالما يشاهدون عن بعد بضعة أمتار جثمان رئيس جمهوريتهم طوال (3) سنوات مضت، وهو هامد وسط (تابوت خشبي) لا يفرق كثيراً عن توابيت الموت الأخرى، من تلك التي تحمل جثامين الناس العاديين قبل أن تحتضنها أرض القبور مهما كانوا عليه من ثراء أو نفوذ أو جاه أو سلطة أو فقر مُدقع… فهذا هو مصير أي انسان منذ أنزل الله -عّز وجل- أول خلقه المتمثل في “آدم وحواء” على وجه الأرض ليبدأ بهما الخليقة والسلالات.كان عويل بعض النسوة عالياً -كالعادة- قبل أن يشير إليهنّ ضباط يشرفون على تنظيم المسيرة بالسكوت، فيسكتنَ فوراً، وكأنهن يَدُسْنَ على زرّ إطفاء كهربائي.. أما الرجال فقد كان صياح بعضهم بأعلى صوتهم:-
“الله يرحمك يا حجي”.. 
“الله يرحمك يا أبا أحمد”.. 
“الله معاك يا عبدالسلام”.. 
“والله فقدناك وضيعناك وما تتعوض”.
كانت الجموع محدودة العدد نسبياً عند حركتنا من أمام بوابة القصر الجمهوري، ولكنها تضاعفت شيئاً فشيئاً كلما إبتعدنا سيراً نحو السفارات الأمريكية فالسوفيتية والصينية، فمستشفى “إبن سينا” الأهلي.فكّرتُ مع نفسي، وأنا سائر على أنغام الموسيقى والطبول القارعة ببطؤ في مقدمة الصف الأيمن من ضباط الحرس الجمهوري، حاملاً سيفي بيدي اليمنى بوضع عمودي أسوة بزملائي، ماسكاً غمده بيدي اليسرى، كما تنصّ عليه تعاليم الجيش، حتى تساءلت:-
1. هل يُعقَل أن كل هؤلاء الألوف من العراقيين الذين لم يسمعوا عبر الإذاعة والتلفزيون غير عبارة (الدعوة عامة للجميع) قد حضروا إلى هنا حبّاً برئيسهم الراحل “عبدالسلام محمد عارف” وتوديعاً له بعد أن أمسى جثة هامدة وسط تابوت؟!!))
2. كان الجواب المنطقي -مع ذاتي- نفياً… فلربما حضر بعض الألوف منهم ((حبّاً به)) وتوديعاً له، ولكن أُلوفاً أخرى ربما جاءت لتقلي نحوه ((نظرات التَشَفّي)) من أحقاد وضغائن على شخص “عبدالسلام عارف” الذي لقى هذا المصير… ولكن أيّـاً من أولئك لم يكن يجرأ -بطبيعة الحال- على التفوّه بأية عبارة فرح مكبوتة في قلبه، أو يطلق “هلهولة/زغرودة” كان يتمنى أن يقذفها من صميم نفسه.
3. وربما يكون من المؤكّد أن أُلوفاً أخرى قد حضرت لترى بالعين المجردة، وعلى مقربة عدة أمتار، شخصيات عراقية وعربية وأجنبية من رؤساء وزارات ووزراء وسفراء ومُلحَقين عسكريين وكبار قادة الجيش والقوات المسلحة العراقية، من أولئك الذين لم يتعرّف عليهم أولئك المواطنون سوى من خلال صورهم على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف والمَجلاّت.
4. ولكن الأغلبية العظمى، بالتأكيد، قد أجهدوا أجسادهم وأوصلوها إلى هذا الشارع العام مشياً على الأقدام مسافات طويلة، ليروا بأم أعينهم مراسيم تشييع كبرى تجري في وسط “بغداد” للمرة الأولى منذ (33) سنة.. ولربّما عاش البعض من هؤلاء، وخصوصاً كبار العمر منهم، تشييعاً مَهيباً جرى لجثمان “الملك فيصل الأول” عام (1933)، بعد أن وافاه الأجل في “سويسرا”، قبل أن يُدفن في “المقبرة الملكية” بمنطقة “الأعظمية”… فمنذ ذلك الحدث -مع ظنون أُثيرت عن تسمّم ذلك الملك- لم يَمُتْ ملك أو رئيس أو رئيس وزراء في العراق ميتة طبيعية.
5. فالملك “غازي الأول” قد وافاه الموت مساء يوم (4-4-1939) في ظروف غامضة، حيث قِيلَ في حينه أنه كان جرّاء إصطدام سيارته بعمود كهرباء داخل سياج قصره الملكي!!! حيث عمّت شوارع “بغداد” وبعض مدن العراق الكبرى مظاهرات شعبية عنيفة لم تهدأ إلاّ بعد نزول الجيش إلى الشوارع، ووسط تكهّنات بأن “الإنكليز” و”الأمير عبدالإله بن علي ونوري السعيد” كانوا وراء مصرعه.
6. وفي صبيحة (الإثنين/14/تموز/1958) قُتِلَ “الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله” وعدد من أميرات العائلة المالكة الراقية برصاص من أطلَقَ عليهم وابلاً من غدّاراتهم حين كان قصر الرحاب مُحاصَراً… ومن عِظَم الحقد الذي كان مكبوتاً في صدور بعض العراقيين نحو “الأمير عبدالإله” فإن الجماهير خطفت جثّته عُنوة لتسحله في شوارع “بغداد” قبل أن يُعلّقوها بوحشية بالغة أمام مبنى وزارة الدفاع، وذلك في ذات الموقع الذي أُعدِمَ فيه “العُقداء الأربعة” الذين قادوا حركةً مناوِئة غير مدروسة ضد “بريطانيا العظمى” مطلع (مايس/مايو/1941).
7. وكان المصير المؤسف نفسه قد آل إليه السيد “نوري السعيد” يوم (الثلاثاء/15/تموز/يوليو/1958) والذي تقطّعت أوصاله إرباً إرباً سحلاً وتمثيلاً بجسده.
8. أما الزعيم “عبدالكريم قاسم” الذي حكم العراق منذ (تموز/1958) وحتى (14رمضان/8/شباط/فبراير1963) فقد أُعدِمَ – بل قـُتِلَ سراعاً- رمياً بالرصاص في مبنى الإذاعة والتلفزيون بمنطقة “الصالحية” ظهر (السبت/15 رمضان/9 شباط/1963) وقد قيلَ أنه دُفنَ في مكان ما بضواحي بغداد، قبل أن تُخرج جثّته بعد أيام من قبره، ويُربَطَ بساقه صخرة ويُقذَف به في مياه نهر دجلة!!!!؟؟؟؟.
9. وإستذكرتُ أيضاً، ما كان بعض المُهتمّين بأحداث تأريخ “بغداد” يقولونه في مجالسهم الخاصة، بأن الخليفة “أبا جعفر المنصور” حينما عزم على بناء “بغداد/الكرخ” لتكون حاضرة لدولته الفتيّة والمُترامية الأطراف، بعد أن شهدت “الكوفة” معضلات عديدة، فقد إستدعى أحد الأئمة الكبار ليستأنس برأيه حول بقاع (الكرخ)… وبعد أن أبدى الأخير إعجابه بالخطوات والتجارب التي أجراها المعماريّون والحُكماء للتأكد من سلامة الموقع وأجوائه، فقد عرض ذلك الإمام أمام الخليفة ما معناه:-((ولكن الذي سيحكم هنا لا يموت موتة طبيعية ما دام قائماً على سُدّة الحكم)).
10. وكان أولئك المهتمّون بالتأريخ يقولون حقيقة أن أي خليفة أو حاكم أو والٍ جلس على عرش “بغداد”، سواء خلال العهد العباسي، أو العهود التي تلاحقت من بعدهم، لم يَمُتْ إلاّ غدراً، أو قُتِل قتلاً.. وقد يبدو من دراستنا للتأريخ أن ذلك التنبّؤ لربما كان فيه الكثير من الصحة لغاية عام (1966) على الأقل.نقل الجثمان على ظهر سيارة
مضى الوقت بطيئاً في عصر ذلك اليوم المصحوب بالغيوم التي غطّت سماء “بغداد” كلّها، إذْ جاوَزَت الساعة الرابعة، حين كنّا قد طَوَينا مسافة حوالي (3) كيلومترات في مسير جنائزي بطيء، حتى وصل الموكب إلى مقربة من “مستشفى الطفل العربي” الذي يتقابَل مع مبنىً من أربعة طوابق طالما لعب دوراً في تأريخ العراق المعاصر، وقد كُتِبَ في واجهته عبارة “شركة نفط العراق المحدودة I.P.C” التي أسّستها “بريطانيا العظمى” للتنقيب عن نفط العراق أواسط العشرينيّات من القرن العشرين، وإكتشفت جميع الحقول التي إمتازت بها مناطق “كركوك وعين زالة وخانَقِين”، فإستثمرتها وأوصلت نفطها بخطوط من الأنابيب الضخمة إلى بعض مؤانئ البحر الأبيض المتوسط.
وحال وصولنا إلى “ساحة الشواف” تفرّقت مجاميع الموكب الراجل من خلف “عربة المدفع” لتصطف على رصيفي الشارع العام لتحلّ محلّها سيارات فخمة ستقلّ قادة العراق ورؤساء الوفود وأعضائها الى “خان ضاري”… في الوقت الذي حملنا نعش “عبدالسلام عارف” لنضعه، وسط أجواء مهيبة وحزينة، على ظهر سيارة “جيب” عسكرية مكشوفة، فيما كان أُلوف من المواطنين قد تجمهروا قرب “جسر الجمهورية” والشارع المؤدي الى “الصالحية”، والآخر الذي يخترق حي “كرادة مريم”.
أنزلنا “النعش” من فوق العربة، وسرنا به بإنتظام إلى الجانب الآخر من الساحة نفسها، والذي إستقرّت فيه كوكبة من رجال الشرطة سائقي الدراجات البخارية، وعدد محدود من سيارات شرطة المرور، ووضعناه فوق السيارة العسكرية المكشوفة بهدوء.. بينما صعد (6) منّا، (3) على الجانب الأيمن من النعش، و(3) آخرون على يساره بإنتظار أن يتكامل موكب السيارات خلفنا.إندفاع مفاجئ نحو الجثمان!!؟
كنتُ -كما أظهر بوضوح في الصور الفوتوغرافية- في مقدمة الصف الأيسر من الضباط واقفاً قرب رأس الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”، وخلف سائق السيارة العسكرية مباشرة، وكان الوضع العام على عكس ما إمتاز به المسير الجنائزي الطويل، بدءاً من القصر الجمهوري وحتى وصولنا الى حيث نحن… فقد كان الصياح والهتاف يملأ أوساط المواطنين بدون إنتظام في محيط “ساحة الشواف”، حيث لم يستطع عشرات من الجنود وأفراد الشرطة المسلّحين، من إسكاتهم أو تهدئة ما يجري هناك، فيما كنا نحن الضباط نراقب مجريات الأمور بعيون يقظة تحّسباً لما لا يُحمَد عقباه.
ولكن، وبعد عدة دقائق، وحالما أُوعِزَ إلينا بالتحرّك، حتى إندفع العشرات من الشباب والفتيان نحونا، وهم يصرخون بصوت عال ويطلقون عبارات لم أفهمها… وكان من المنطقي أن لا أُفسِّر ذلك الإندفاع الهائل بحسن نيّة وطيبة نفس، وأنا أحمل في صميمي إحتمالات ((إختطاف الشيوعيين للنعش))، حتى تراءت أمام ناظري مظاهرات “شيوعيي كركوك” خلال الأشهر الأخيرة من عام (1958) والنصف الأول من عام (1959)، وصولاً الى مساء (14/تموز/يوليو) من العام نفسه، ساعة باشروا بـ”المذبحة” المخطّط لها… فما كان مني إلاّ أن إعتبرتُ -في قرارة نفسي- أن كل شخص من هؤلاء المندفعين نحونا بهذه الهمجية هو “شيوعي”، وقد يكون مُكلَّفاً بمهمة الخطف.
شهَرتُ سيفي من غِمْدِه دون تردّد، وكذلك عمل الضباط الخمسة الآخرون، ولم أجد بُدّاً من أن أضرب بنَبله، وبكلّ ما أُوتيتُ من قوة في لحظات الغليان -الذي كان يسري في دمي- كل شخص يخترق ذلك السدّ البشري من جنود وأفراد شرطة كانوا قد أحاطوا سيارة النعش من كل جانب وصوب، ولربما فقدتُ توازني بعض الشيء، وأمسيتُ كالخيّال الذي (يقفل) على هدف لا يرى سواه، وقد كنتُ فعلاً كذلك، وعلى غير دراية ممّا يفعله زملائي في السيارة نفسها، ولا ما كان يدور حولي من أمور… كان نظري وعقلي منتَصِبَين تماماً في إتجاه واحد لا غير، وغايتي الوحيدة أن لا أدع أحداً من أولئك ((الهَمَج)) المندفعين التقرّب من النعش الذي أقف قرب رأسه. 
كان يقيني أن أي إنسان يمكن أن يحمل النعش على كتفه -كما فعلنا- وربما على رأسه… ولكن ليس كل ضابط يمكن أن يُكَلَّف بحماية رئيس جمهورية -عن قرب- غير الحرس الجمهوري… ولذلك، فهل يمكن أن أسمح لشراذم من هؤلاء الشباب أن يخطفوا “عبدالسلام عارف” من وسطنا بعد أن بات لا حول له ولا قوة؟؟
كان الذي يشعر من أولئك بأذىً في صدره أو ألَماً في بطنه أو وجعاً في ظهره يبتعد فوراً، رغم كون سيوفنا من ذلك النوع المُصمّم لأغراض المراسيم ليس إلاّ، ولم تكن قد صُنِعَت للمبارزة وقطع الرقاب، كما كان يتراءى للذين تستهويهم مشاهد السيوف في الأفلام التأريخية.
أوعزتُ إلى سائق السيارة بالتحرّك رغم هذا الموقف الصعب الذي وجدنا أنفسنا فيه… ولما تردّد قليلاً ضربتُ بالسيف على ظهره وأمرتُه بالسير عُنوةً حتى إذا دهس أحدهم، فإضطر ليقود السيارة بصعوبة بالغة مصحوبة بضربات موجعة من سيوفنا إلى الإتجاهات كافة، تُصاحبها ضربات أوجع تنهال على أولئك الشبان من أخامص بنادق أفراد الشرطة والجنود، ووسط أصوات المنبّهات المزعجة التي كانت الدراجات البخارية وسيارات شرطة المرور تُطلقها عالية وبشكل متواصل، كالعادة.
لم تتفرّق تلكم الجموع من أمامنا إلاّ بعد مسير شاق طال عشرات الأمتار، وإستمر لدقائق عديدة وعصيبة، وشاهدتُ خلالها شاباً وقد دهس الإطار الأمامي الايسر لسيارتنا ساقَيه، وأشخاصاً آخرين ضربتهم مقدمتها بقوة.
هل كان فعلاً محاولة خطف للجثمان؟؟
لم نستطع خلال تلكم الأيام أن نتيقن من حقيقة ما جرى في تلك الدقائق المعدودات، فيما لو كان إندفاعَ حُبٍّ ومشاعر ودٍّ لشخص “عبدالسلام عارف”، كما حلا للصحفيين وبعض مراسلي القنوات التلفازية عرضه في تقاريرهم التي نشرتها صحف العراق وبعض العرب والأجانب؟؟ أم كانت مؤامرة حقيقية إستهدفت خطف جثمان “عبدالسلام عارف” كما كان آمر فوجنا قد بلّغنا بها مسبقاً؟؟
أما ((إعتقادي الشخصي)) في حينه، وما يزال، ينصبّ على الإحتمال الثاني….. فالذي كان يحب شخص “عبدالسلام عارف” لم يكن مضطراً للإندفاع نحو نعشه بتلك القوة وبذلك الزخم الذي لا موجب له، ولم تكن حكومة العراق القائمة في حينها تقرّب المُتمَلِّقين والمُرائين والمُتَزلّفين حتى يعتقد أولئك الشباب أن مجرد ظهورهم على شاشات التلفزيون أو صفحات الصحف قد يفيدهم في كسب أموال أو تعيين في وظائف أو حصول على ترقيات أو درجات حزبية، كما كان عليها الحال أيام المدّ الشيوعي والمحاكمات الهزلية التي كانت تجرى في أروقة ما أُطلِق عليها تسمية “محكمة الشعب”…… فالذي جرى في “ساحة الشواف” حوالي الساعة الرابعة والنصف من عصر ذلك اليوم، ولفترة طالت حوالي خمس دقائق لربما كانت مؤامرة حاولتها جهة ما، ولكن دون خطة منتظمة وقيادة جيدة وسيطرة كفؤة وهجوم قوي مدبر ومتقن غير ساذج… فلو كان أحد أولئك قد أطلَقَ عدداً من العيارات النارية من أي سلاح لوقعت كارثة كبرى، حيث كان لا بد للجنود وأفراد الشرطة أن يفتحوا نيران أسلحتهم، فيسود الهرج عموم الساحة، أوآنئذ يمكن إستغلال تلك اللحظات للإطباق على النعش وخطفه… ولكن الذي أدى الى عدم تمكّن المنفّذين من تحقيق غايتهم المرجوة هو تلك الصلابة التي وقفها الجنود وأفراد الشرطة المسؤولون عن تأمين أمن “ساحة الشواف”. 
تنفّسنا الصعداء وقتما خرجنا من ذلك الزحام الهائل، وخفّت الجموع شيئاً فشيئاً كلما تقرّبنا من “معسكر الوشاش”، وصولاً الى “المحطة العالمية” و”مطار بغداد الدولي” سوى من مجاميع تقف هنا وهناك دون حراك يذكر مع تحيات وداع بالأيدي إعتاد معظم العراقيين أن يحيّوا بها أية “جنازة” تمرّ من أمامهم وفقاً للسيرة النبوية الشريفة، حتى بات موكب السيارات الضخم يسير بسرعة تزيد على (40) كم/ساعة، ولم نصادف في طريقنا مجاميع من البشر إلاّ قرب “مطار بغداد الدولي/المثنى، وجسر الخِرّ وتقاطع “المنصور” بحي اليرموك” ثم قرب “نفق مدينة الشرطة”، وبعض الجنود في مدخل معسكر “أبي غريب”.
في جامع الشيخ ضاري
إجتزنا “معمل الألبان”، حيث بانت أمام أنظارنا تلك البساتين والقرى المتناثرة في ذلك اليوم الربيعي الغائم كلياً، حتى قابَلَتنا بالبكاء والصياح والهتاف جموع غفيرة من البشر كانت قد تحشّدت على مقربة من جامع “الشيخ ضاري”، الذي أمر “عبدالسلام عارف” بتشييده خلال عام (1964) تخليداً لذكرى ذلك الشيخ -من أخوال”عبدالسلام”- والذي كان أحد قادة “ثورة العشرين” ضد الإنكليز عام (1920)… وإفتتحه بشخصه يوم (3/12/1964)، ولكن بعدما دُفِنَ فيه والده “الحاج محمد عارف” يوم (24/11/1964)، في حين كان “عبدالسلام” نفسه راقداً في “مستشفى الكرخ الجمهوري”، حيث أُجرِيت له عملية إستئصال اللَوزَتَين.
كانت شمس (السبت /26/ذي الحجة/1385هـ) الموافق (16/نيسان/إبريل/1966م) قد مالت الى المغيب في حوالي الساعة الخامسة والنصف، عندما كنّا نحمل نعش”عبدالسلام” لنضعه قرب حفرة مهيّأة من الأرض المحيطة بذلك الجامع، وقد إستقر على مقربة منها قبر والده، حيث رَكَنّاه تماماً إلى جانبه.
تولّى “الشيخ نجم الدين الواعظ”–مفتي الديار العراقية، والصديق الشخصي لعبدالسلام– تلقين روحه وفق الشريعة السمحاء، بعد أن كان أقرباء الفقيد -وليس ضباط الحرس الجمهوري- قد أودعوا جثمانه في مثواه الأخير… حيث عزف أحد أفراد “جوق موسيقى الجيش” اللحن الحزين المُسَمّى “بوق النوم” -حسب المصطلحات العسكرية المعتادة- فيما أطلق (21) جندياً (21) مجموعة من إطلاقات بنادقهم وداعاً لرئيس جمهوريتهم الذي إحتضنته الارض كما تحتضن أي إنسان آخر وفق جميع الأديان السماوية ومعظم الشرائع الوضعية.
كانت الساعة قد قاربت السادسة والنصف مساءً، حين إنتهى كل شيء، إذْ عُدتُ بالسيارة العسكرية نفسها إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، فيما إلتحق الضباط الآخرون كل إلى واجبه الأصل، وذلك وسط شوارع “بغداد” التي خلت من المارّة تماماً مع حلول السابعة مساءً، حيث كانت أوامر الحكومة قد قضت بحظر التجوال حتى الساعة السادسة من الصباح التالي. 
وهكذا إنتهت حياة (عبدالسلام محمد عارف) عن عمر حافل، وخصوصاً خلال سنواته الثمان الأخيرة، بعد أن ناهز (45) سنة و(23) يوماً.
مفارقة قَدَر عجيبة
لستُ من المؤمنين بمثل هذه الأمور… ولكن ((مفارقة عجيبة)) سجّلها القدر في ذلك اليوم، والتي قد لا يمكن إعتبارها مجرّد “صدفة”، أن “الملك فيصل الثاني والوصي عبدالإله”-وهما من “سلالة بني هاشم” التي ينتسب إليها الرسول الكريم محمد (ص)، قد قُتلا ودُفنا يوم (14/تموز/يوليو/1958)، والذي وافق يوم (26/ذي الحجة/1377). وحين إستشعر بعض الحاقدين على شخص “عبدالسلام عارف” وأعماله في تلكم الأيام إلى هذا ((التوافق الغريب)) بين التأريخَين الهجريّين المحددّين، عندئذ، باتوا يرّددون الآية الكريمة:-((وبشِّر القاتلَ بالقتل))

أحدث المقالات