في كل الأحوال وبدون النظر في تفاصيل مسبباته ونتائجه وشرعيته من عدمها لا يمكن اعتبار دخول القوات الأمريكية إلى العراق عام 2003 وحسب توصيف الأمم المتحدة إلا احتلال عسكريا ومع ذلك فانه قد وفر للشعب العراقي فرصة تاريخية ربما لن تتكرر فقد غيرت أمريكا النظام السياسي بأكمله وبكل مفاصله وتم إملاء الفراغ السياسي الذي نتج عن ذلك بأحزاب وبشخصيات أخرى جديدة لها نظرياتها المختلفة جدا لكنها تفتقر إلى تجربة واقعية وحقيقية في إدارة الدولة وتحول العراق كأحد الإفرازات الجديدة من حكم الحزب الواحد إلى حكم ائتلافي شارك فيه الجميع وتم تشريع دستور جديد للبلاد كتب حسب معطيات الظرف الجديد ونتائجها يسمح بالتداول السلمي للسلطة وشكلت حينها الأحزاب الإسلامية الأكثر نفوذ بين قادة العراق الجدد حكومة ائتلافية جديدة لإدارة البلاد وهذا بحد ذاته ظاهرة صحية مهمة تسجل لصالح شعب العراق ووضعه الجديد لو استثمرت بالشكل الصحيح لأسباب كثيرة من بينها أنهم يحملون فكرا ومنهج لحكم البلاد وإنها تستمد نظرياتها وأسسها من الشريعة الإسلامية الحنيفة مع الوقوف عندها على أنها شريعة سمحاء لا تتعامل بالعنصرية ولا بالشوفينية وغير متطرفة وان معظم قادة تلك الأحزاب قد خالطوا لفترات ليس بالقصيرة المجتمعات الأوربية والأمريكية التي لها باع طويل في ممارسة الحكم الديمقراطي ” إذا لم نقر بالمطلق إن في الإسلام وشريعته أكمل النظم الديمقراطية قاطبة” إضافة إلى المجتمع الإيراني والمجتمعات العربية التي تعتبر بأي حال من الأحوال أكثر انفتاحا من المجتمع العراقي الذي يعد ضمن المجتمعات المحافظة نسبيا ولابد أنهم قد اكتسبوا عادات ومهارات وثقافات تلك المجتمعات المتقدمة والمتطورة في كل الصعد وما سينعكس على سلوكياتهم أثناء ممارستهم لحكم الشعب العراقي وهذا هو الأمر الطبيعي في نقل الخبرات والمعارف إضافة إلى الأحزاب العلمانية التي كان حضورها في التبديل اقل فالأحزاب الإسلامية وهي الأهم في كل هذه المفاصل كان لزاما عليها وضع نظرياتها في الحكم على محك التطبيق ونحن إذ نتشرف ونحمد الله على نعمة إسلامنا نتمسك بالكثير من تعاليم وأدبيات الحكم فيه ولنا تجارب في سيرة نماذجه التاريخية أو الحديثة أو المعاصرة ما يرتقي بنا عند استذكارها أو التقيد بتوجيهاتها في الاقتصاد وسياسة الرعية والعدل والإنصاف والتكافل الاجتماعي إلى مصاف الدول المتقدمة خصوصا بعد ما انتهجت المرجعية الدينية الرشيدة طرح رسائل الإمام علي عليه السلام إلى واليه مالك الاشتر كمنهج عمل للتعامل مع الرعية لكننا مع كل الأسف أهملناها وانتهجنا الأعراف اللبنانية في تقاسم المناصب السياسية على أسس طائفية رغم معرفتنا المسبقة بسلبياتها كما أهملنا التزاماتنا الدينية .
نعم لا ننكر ونعرف إن أحزاب سلطة العراق الجدد كانوا بحاجة إلى الأموال لإدامة زخم عملها ولاستقطاب الفئات الشعبية لبناء قواعدهم وترتيب أوضاعهم الجديدة التي ستمدهم بإمكانية الاستمرار والاستقرار في مواقعهم التي غنموها خصوصا بعد حالة التسابق للحصول على اكبر ما يمكن من المكاسب والمغانم المتمثلة بامتيازات كراسي السلطة وتحولت كل الجهود من بناء بلد أنهكته حروب طويلة متتالية وحصار اقتصادي ظالم وشامل لأكثر من ثلاثة عشر سنة واحتلال وسقوط نظام الحكم السياسي وحل كل أجهزته واستفحال ظاهرة التعصب الطائفي التي ساعدت على تنميتها سلطة الاحتلال وطريقة إدارة الحكومة … نقول في تلك الظروف انشغل المسئول عن بناء اقتصاد البلد وانشغل عن توفير الخدمات وتطبيق بنود الدستور الجديد لتعويض شعبه عن فترة الحرمان التي عانى منها واتجه إلى بناء الذات ومن ثم الحزب وعند التوسع إلى تعميق الطائفية فتبددت الأموال الهائلة من عائدات النفط وتوجهت إلى مشاريع لا تهم المواطن وبدلا من استثمار تلك العائدات لبناء اقتصاد متعدد المصادر وتطوير الصناعات المحلية التي كانت قائمة في عتباتها الأولى تركناها معرضة إلى سطوة العابثين وسرقة ونهب أجزائها المهمة وآلاتها وتهديم بناياتها في حالة من الانتحار الاقتصادي وكأننا سنهجر هذا البلد ولم نعد بحاجة إلى ما فيه أو كأن الأمريكان سيعيدون بناء البلد وسيجعلوننا بلد متطور صناعيا أكثر من اليابان وزراعيا يتفوق على الدنمرك أو البرازيل.
إن مشكلتنا في ساستنا المختلفين على كل شيء وتناسوا نظرياتهم الحزبية في قيادة الدولة ولم يعتبروا من تاريخ العراق القريب ولا من تجربة أي بلد لا مجاور ولا غير مجاور فتم تهجير وتصفية وإبعاد الكفاءات والخبرات الوطنية التي كانت تعمل في الداخل أو الخارج وعادت بعد عام 2003 على أمل تحسن الأوضاع وخدمة الوطن وبمختلف الاختصاصات وبدأت خطوات حثيثة تبدو كأنها مدروسة ومعدة مسبقا لتحويل الدولة من الاكتفاء الاقتصادي الذاتي إلى مستهلكة ومعتمدة في تدبير اقتصادها على تصدير النفط فقط رغم وجود الثروات الأخرى الهائلة والمهمة والمطلوبة عالميا كالكبريت والفوسفات مثلا والاعتماد على استيراد كل شيء من الخارج وحتى الاستثمار الخارجي الذي دعي إلى العمل في العراق إذا كان جادا وحقيقيا اتجه إلى مشاريع استهلاكية أو ترفيهية غير مهمة كالمتنزهات وملاعب الأطفال أو متاجر ومعارض للبضائع الأجنبية التي نافست الإنتاج المحلي واتجهنا إلى خصصة القطاع العام وتنامت بشكل مخيف ظاهرة هدر المال العام والفساد الإداري والرشوة وأهمل حتى الجانب الخدمي منه كالصحة والتعليم واتجهت الدولة إلى خصخصة مشاريعها وأصبح ما نأخذه في يدنا اليمنى من واردات النفط نعيده باليد اليسرى إلى الخارج فبرزت مشكلة أغفلها الجميع هي إن الدولة يجب أن تنفق وتدفع رواتب أجهزتها الإدارية مثلا في اقل تقدير وهي بحاجة إلى العملة المحلية وهي لا تملك باب لاسترجاعها بمعنى إن الدولة ليس لها باب تجمع من خلاله العملة المحلية لتغطية نفقاتها التشغيلية ونفقات الحرب ضد عصابات داعش الإرهابية ولأنها لا تملك ما تبيعه للمواطن فأصبحت مضطرة لبيع العملة الصعبة في ما تعارفنا على تسميته بمزاد العملة فمن يشتري العملة الأجنبية وكيف يتعامل بها وما تأثيرها على العراق شعبا وحكومة؟
وللحديث بقية إن شاء الله