لم يسبق للولايات المتحدة أن تحدثت عن حزب الله بالحدة التي تحدثت فيها سفيرتها في الأمم المتحدة نيكي هايلي، فقد فاق وصفها للحزب الأوصاف التي درج العالم على وصف «داعش» بها. في هذا الوقت كان حزب الله يُنظم رحلة غريبة للصحافيين إلى الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، وكان واضحاً أن مضمون الرحلة- الرسالة أن القرار الدولي 1701 الذي ينص على ابتعاد حزب الله عن هذه الحدود وتسليمها لقوات أممية، صار بحكم الملغى.
قبل ذلك بأسابيع بدأت تتسرب تفاصيل مشروع قانون سيعرض على الكونغرس يتضمن عقوبات مركّبة تشمل حزب الله وحركة أمل، وحلفاء لبنانيين للحزب أشار إليهم القانون ولم يسمهم.
الإسرائيليون ليسوا بعيدين عما يجري، فخطاب «الهلع» من انتشار حزب الله على الحدود السورية- الإسرائيلية يُغذي النوايا بحرب وشيكة، والجميع في إسرائيل يقول إن ساعة الصفر اقتربت. ومن دروس حرب تموز (يوليو) 2006 أن المبادر يُحدد شروط الحرب ووجهة استثمارها.
هذا الكلام ليس تهويلياً، ولا ينطوي على مبالغة، فلم يسبق لحرب أن مُهد لها بهذا الوضوح. فالقصة بدأت فور انتخاب دونالد ترامب، والرجل أعلن منذ اليوم الأول أن الحد من نفوذ إيران أولويته. وانعدام خبرة الرجل يُضاعف احتمالات الحرب، ذاك أن أول من استثمر في ضعف المعرفة بالمنطقة وبأهلها هو بنيامين نتانياهو.
لا يبدو أن ميزان القوى في هذه المواجهة لمصلحة حزب الله، ذاك أن الأخير يقاتل في سورية، وعودته منها للقتال في لبنان ليست بالأمر اليسير. الرحلة التي نظمها الحزب للإعلاميين مؤشر على ذلك أيضاً، فهي جاءت للقول «نحن مستعدون»، ومن يشعر بالحاجة إلى قول ذلك يجيب حاجة لا يبدو أنه متمكّن منها.
في محيط ترامب جنرالات في مواقع سياسية وتقريرية. وزير الدفاع جيمس ماتيس جنرال سابق، ومستشار الأمن القومي هربرت رايموند ووزير الأمن الوطني جون كيلي جنرالان سابقان. والثلاثة يكنون للنظام في طهران ضغينة ترتبط بدور الحرس الثوري الإيراني في العراق. لكن الثلاثة أيضاً يُمثلون الفشل الذي لحق بالولايات المتحدة هناك، والمؤشرات تدل على أن أسباب الفشل ما زالت قائمة.
الأميركيون يبحثون في العراق عن «شريك شيعي». هذا الوهم يراود الإدارة في واشنطن. زيارة رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي واشنطن اعتبرها البعض هناك «اختراقاً» لنفوذ طهران في العراق، فيما تبحث مراكز الدراسات المقربة من الإدارة في إمكان تحويل المرجعية الشيعية في النجف إلى مركز استقطاب للشيعة العرب في مواجهة «المد الفارسي». الوعي الذي يقف خلف هذا الاعتقاد لا يقيم وزناً لحجم الاستثمار الإيراني في التشيع العراقي. ومن الشقاء والجهل تصور أن العلاقات البينية والاستتباعية يمكن تغييرها أو بناؤها بقرار يصدر عن حكومة.
في سورية يدير نتانياهو دفة الموقف الأميركي. نقاط انتشار حزب الله على الجبهات الأهلية السورية تحددها المراصد الإسرائيلية. والأميركيون عندما يتحدثون عن حزب الله في سورية، لا يقيمون وزناً لدور الحزب في حماية نظام يقتل أهله، إنما يتحدثون عن انتشار حزب الله في نقاط قريبة من الحدود السورية- الإسرائيلية.
لنتانياهو دور كبير في هذا، ذاك أنه يُدرك أن الحزب ليس في موقع المبادر، وأن تحركاته على الحدود مع إسرائيل مضبوطة بالسقف الروسي، وهو على رغم ذلك يرى أن وصول ترامب فرصة للانقضاض على الحزب.
التوازن الذي أقامته تل أبيب على حدودها مع سورية يفوق في دقته وفعاليته التوازن الذي تشهده الحدود مع لبنان. فهي تنفذ في سورية غارات ساعة تريد، وهو أمر غير متاح لها في لبنان، وهي أيضاً تقيم علاقات تخابرية مع الروس هناك، وفي الجنوب السوري جبهة مضبوطة بخيوط دولية لا تتيح لأي طرف من الأطراف، وبينها «داعش»، التحرك خارج حدود اللعبة. وكل هذا يعني أن الحرب المحتملة هي فرصة نتانياهو، قبل أن تكون وجهة أميركية.
لبنان من بين الدول الثلاث (العراق سورية ولبنان) لا يبدو أن للحرب حسابات فيه غير حساب حزب الله. فالأخير يُمسك بناصية القرار على مختلف المستويات. الزيارة التي نظمها الحزب للصحافيين تكشف أن الحزب هو كل شيء في هذا البلد. والحزب إذ يأخذ الصحافيين إلى الحدود إنما يفعل ذلك ليُذكر بأن الجبهة هنا في مقابل الجبهة هناك. ويقول للعالم إن «الحرص على تجنيب لبنان ويلات حرب في سورية» أمر غير واقعي.
الأرجح أن حصة لبنان ستكون العقاب الاقتصادي، إلا في حال قرر حزب الله المبادرة. لكن العقاب الاقتصادي هذه المرة سيكون مريراً، ذاك أن أي نشاط اقتصادي صار بالإمكان ربطه بحزب الله أو بحلفائه، وهذا إذا ما أضيف إلى هشاشة الوضع السياسي والأهلي، لن تقل نتائجه عن نتائج الحرب المباشرة.
الوقائع لم تعد تحتاج إلى تحليل. الوضوح الذي تجري في ظله الوقائع غريب ومريب. وما ليس واضحاً حتى الآن أن الحرب المزمع مباشرتها ستتداخل مع حروب أخرى تشهدها المنطقة، وهذا ما يُولد احتمالات تُغري بالتخيل. ماذا سيحل بلاجئي هذه الحرب؟ وأين موقع «داعش» منها؟ وكيف ستجري في ظل النفوذ الروسي؟
يمكن للمرء أن يجيب عبر تمارين ذهنية. فالمواجهة إذا ما كانت في لبنان ستعفي الأميركيين والإسرائيليين من احتكاك مع الروس، لكنها لا تؤمن كل الأهداف، ذاك أن الدور الإقليمي لحزب الله هو في سورية وليس في لبنان. أما إذا كانت المواجهة في سورية فذلك يفتحها على احتمالات مصير بشار الأسد مع ما يرافق ذلك من انعدام البدائل وصعوبات حرب تحف بالوجود الروسي. العراق أبعد الاحتمالات، ذاك أن ميزان القوى فيه راجح لمصلحة طهران، ولن تفيد هذيانات الإدارة حول إنتاج بديل شيعي.
لا حلفاء فعليين لواشنطن في العراق، فالأخيرة بددت أرصدة كثيرة في ذلك البلد. الأكراد لن يكونوا حليفاً مخلصاً، ولا قوى سنية يُعتد بها، أما الشيعة ففي طهران.
الحرب تحتاج إلى حدث حتى تبدأ. ويبدو أن الحرب العتيدة عالقة عند هذه العقدة. فمن سيتطوع ليؤمن لها هذا الشرط؟
نقلا عن الحياة