إن الزعامة لا تشترى بالمال، حتى لو كان مال قارون. ولا تورَّث ولا تُهدى، ولا تُكتسب. فهي ليست مهنة يأخذها الصبي عن أستاذه، ولا عِلما تُدرسه الجامعات فيحمل المتخرج فيها شهادة زعيم.
وحيدر العبادي، بما هو عليه أمس، وما هو عليه اليوم، ما هو عليه في قادم السنين، زعيمٌ رغما عنه. فحتى منصب وزير اتصالات الذي تسلمه بالمحاصصة في عام 2003، كان كبيرا عليه، فأعفاه منه مجلس الحكم بسرعة، وبعد شهور قليلة.
أما مقعده في البرلمان نائبا ضمن (حصة) حزب الدعوة، وبتزكية من السفارة الإيرانية، فلم يُميزه كثيرا عن مقعد مشعان الجبوري أو عن مقاعد أية (مغلفة) من مُغلفات المجس النيابي اللواتي ابتلانا بهن نظام المحاصصة الكسيح.
فهو نفسُه يعلم، وحزب الدعوة يعلم، وإيران تعلم، وأمريكا أيضا تعلم، بأنه لم يصبح واحدا من القادة العشرة البارزين في حزب الدعوة في ثلاثين عاما قضاها فيه. فلم يُعرف عنه، طيلة أيام اللجوء الإنساني في لندن، شجاعة وجرأة وظهور سياسي. بل ظل ثلاثين عاما في الظل، لا يمشي إلا في آخر الصفوف.
ويخطيء العراقيون، وخاصة منهم العلمانيين، حين يطالبونه بأن يخرج من حزب الدعوة ومن التحالف الطائفي ومن عباءة الولي الفقيه ويصبح مستقلا رئيسَ وزراء لجميع العراقيين. فالرجل سمكة من أسماك حزب الدعوة، فإذا خرج من مياهه يموت.
لقد أثبت العبادي، قبل غيره، خطيئة السفارتين العزيزتين، أو خبثهما، حين ألبستاه ثياب واحدٍ من العظماء الخالدين، وأوهمت العراقيين بأن له في القيادة والزعامة ما كان لهتلر وموسليني وديغول وغاندي ونلسون مانديلا والخميني وصدام حسين.
فالمخلوق ليكون جنديا يظل جنديا حتى لو صار قائد جيش الاسكندر المقدوني، وحتى لو تدرع بدرع خالد بن الوليد، وامتشق سيف الإمام علي.
إن كل موطن عراقي يعلم بأن بركات الاحتلالين الأمريكي والإيراني جعلت رئاسة الوزراء من حصة حزب الدعوة وحده، لا شريك له. فحين يخلو كرسي رئاسة الوزراء من رئيس (دعوتيٍ) فاشل فلابد من العثور على رئيس وزراء (دعوتيٍ) فاشل آخر، وكأن العراق أصابه العقم ولم يعد يلد غير الجراد والضفادع والثعابين.
بدأت الملحمة بإبراهيم الجعفري. وحين استثقل ظلـَّه الجميع، ومل من ثرثراته الوزراء والنواب، إسلاميين وغير إسلاميين، يمينيين ويساريين، عربا وكوردا وتركمانا وصابئة، تقرر ترحيله والبحث عن بديل.
يقول السفير الأمريكي زلماي خليل زادة إنه كان مغتما وحزينا لأنه لم يجد من كل حزب الدعوة من يصلح للقيادة. ولكن مسؤول المخابرات الأمريكية في السفارة دخل عليه، ذات صباح، وأخبره بأن لديه رئيس وزراء دعوتي يصلح لأن يكون البديل. وفي أقل من ساعة حصل زلماي خليل زادة على مباركة سفارة إيران. وهكذا التقط الأمريكيون والإيرانيون نوري المالكي، بالمصادفة، من صفوف المرافقين وأجلسوه على العرش، دون تحقيق وتدقيق.
ثم لم تمض إلا بضع سنوات حتى كره العراقيون والعرب والعجم والأمريكان والفرنسيون والبريطانيون وجيبوتي والصومال هذا المخلوق الغلط المسمى
نوري المالكي، بعد أن أفسد الأخضر واليابس، لا على العراق والمنطقة فقط، بل على طائفته الشيعية كلها، وعلى إيران ومصالحها وطموحاتها، وعلى حزب الدعوة، ذاته، قبل سواه.
وحين أصبح رحيله لازما للحفاظ على ما يسميه الأمريكيون (ديمقراطية)، ويسميه الإيرانيون (ولاية)، فَتشوا في الرفوف العالية والواطئة لحزب الدعوة عن واحد لا يهش ينش، تتغير مواقفه وخطاباته حسب اتجاهات الريح، وحسب تذبذب درجات الحرارة، فيوما مع أمريكا ويوما ضدها، وساعة ما مع إيران وأخرى ضدها، ومع المحاصصة وضدها، ومع نوري المالكي وضده، ومع عمار الحكيم وضده، ومع مقتدى وضده، ومع أياد علاوي وضده، مع مسعود وضده، مع معصوم وضده، فوجدوا أن هذه الصفات (القيادية) المطلوبة في الوقت الراهن، لا تتوفر إلا في ساعي البريد (الالكتروني) حيدر العبادي. فزينوه، ولمعوه، وكبروه، وعظموه، واستوزروه من أجل ألا يفعل شيئا، ولكي يُخيب آمال محبيه وكارهيه، سواء بسواء.
وهكذا كان. فقد أثبت بالدليل القاطع أن معطف رئاسة الوزراء فضفاض عليه، وثقيل جدا على كتفيه. لا يدري ما يفعل، وماذا يقول. لا ناصر ولا نصير.
فالشعب العراقي لم يعذره، ولم ترحمه المرجعية، ولا أمريكا وإيران ومقتدى ونوري المالكي وابراهيم الجعفري وعمار الحكيم وهادي العامري وقاسم سليمان والولي الفقيه وصالح المطلق ومشعان الجبوري وأسامة وأياد وتجمع النواب السنة والكورد، أجمعين.
أراد منه العراقيون المنتفضون يريد منه أن يكون شجاعا وهو غير شجاع. والمرجعية أرادته جريئا وهو غير جريء، وأمريكا ذكيا وهو غير ذكي، وإيران وكيلا لها وحدها وهو لا يستطيع.
حتى حكومة التكنوقراط التي ظن أن تكون بوابته إلى الهواء الطلق تحولت إلى شبكة عنكبوت. وها هي خيوطها تمسك بخناقه، وتداوره ذات اليمين وذات الشمال.
لقد دوخوا هذا المسكين. جعلوه ريشة في مهب ريح. فهل يجد في نفسه بعضَ شجاعة، فيحزم أمره فينتحر، مثل عبد المحسن السعدون، أو يخاطب شعبه مثل مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق قبل أن يترجل عن القيادة، فيقول: “أنا أخوكم حيدر العبادي، تعبت، واختنقت، فتسلموا مني رايتكم، ولا تقبلوا بَعدي بأي زعيم، وكونوا أنتم هو الزعيم”.
فهل يلتقط الشعب العراقي رايته من أفشل رئيس وزراء شهده العراق في كل تاريخه الطويل؟