19 ديسمبر، 2024 1:16 ص

الحكومة العلمانية والدينية في تركيا وايران

الحكومة العلمانية والدينية في تركيا وايران

يحدثنا التاريخ المشترك بين تركيا وجارتها ايران عن حروب ودماء دامت لمئات السنين، حروب لها اسباب عديدة وخلافات تعددت اسبابها واشكالها، الا انها بقيت في اطار واحد وهو (توسع احدى الدولتين) على حساب الآخرى، فقد ارادت تركيا العثمانية ان تتوسع باتجاه الهند وارادت ايران الفارسية ان تتوسع باتجاه اوربا، وفي الطريقين يقع بلد كبير يجب ان يتجاوزوه، فكانت الخلافات قائمة، حتى ظهور الدولة الصفوية عام 1501 للميلاد في بلاد فارس، والاسرة الصفوية ترجع من اصول تركية او (تركمانية) ولكنهم دخلوا الحروب مع العثمانيين (الاتراك) هذه المرة بحجة الطائفية والمذهبية.

في مثل هذا الماضي المعتم، وفي مثل هذا التاريخ المؤلم، رحب رضا شاه بسقوط دولة الخلافة العثمانية على يد (مصطفى كمال آتاتورك) وكان اول زعيم في العالم يبعث ببرقية تهنئة عام 1923 عند تأسيس جمهورية تركيا على انقاض الدولة العثمانية، وكان رضا شاه آنذاك رئيسا للوزراء في بلده، وبعث بهدية الى اتاتورك عبارة عن (نسخة من القرآن الكريم) وسيف مرصع بالالماس.

الشاه الذي كان (جمهوريا) حين احتفل بنصر اتاتورك الجمهوري، عاد ليتفكر بعد ان اصبح ملكا، وقد وضع امامه التاريخ الدموي بين تركيا العثمانية وايران الفارسية، وهو يستقبل دعوة من اتاتورك لزيارة تركيا….فوعد بتنفيذها وكانت تلك الزيارة هي الرحلة الوحيدة التي خرج فيها رضا بهلوي رسميا من ايران ليبقى قرابة الشهر الكامل يجوب الاراضي التركية.

الشاه اراد ان يري قوته للجارة الحديثة التكوين، فشكل وفدا مرافقا كبيرا اغلبه من العسكريين وضم الوفد (باقر كاظمي وزير الدولة للشؤون الخارجية، وحسین سمیعی رئیس التشریفات الداخلية!!، وحسین شکوه مدير المكتب الخاص، وقره‌ گوزلو رئیس التشریفات، وقائد الجيش امان ‌‌الله جهان‌ بانی، والعميد عبدالرضا افخمی، والعميد صادق کوپال، والعقيد حسن ارفع، والرائد محمود خسروانی، والرائد حسینقلی اسفندیاری، والرائد عبدالله ظلی، والرائد علی‌اصغر مزینی، والنقيب محسن قدیمی، وعباس فروهر معاون التشریفات في وزارة الخارجية، وحسین قدسی امين سر وزارة الخارجية، ویوسف شکرانی موظف في الديوان الملكي، واسدالله ارفع رئیس قسم الرمز في قيادة الجيش).

تفاجأ الشاه بالاستقبال الحافل والحاشد الذي اعد له في تركيا الحديثة، حيث كانت كل الشوارع التي مر بها مزينة بالعلم التركي والايراني وبشعارات ترحيب، وقد وضعت الصحف التركية عناوينها الرئيسية تحت عنوان تركيا ترحب بالضيف الكبير (Buyuk Misafirimiz)، وقد بالغ الاتراك اعداء الامس في الضيافة، ولم يصدق الشاه نفسه!!

جال الشاه الايراني تركيا وشاهد التطور العمراني والحضاري بام عينيه، مما انعكس بعد ذلك على الثورة العمرانية والعلمانية التي نفذها بعد ذلك في ايران!

النائب في البرلمان عیسی صدیق الملقب (صدیق اعلم) وهو  سياسي ايراني مخضرم (1894-1978)، استلم وزارة الثقافة، وكان نائبا في البرلمان وكاتبا واديبا تسلم رئاسة جامعة طهران لفترة طويلة… كتب  نقلا عن (مستشار الدولة) الذي كان مرافقا للملك الفارسي في هذه الرحلة النص التالي: (كنا قد عدنا من دعوة فخمة اقيمت على شرف الشاه في قاعة الامة في مدينة انقرة، وقد انتصف الليل ولم تأخذ عيني الشاه النعاس، وكان يتمشى في القصر وهو يردد بصوت واضح (عجيب عجيب) وحين انتبه الى الركن الذي اقف فيه، قال: هل تصدق يا صادق ان هؤلاء الاتراك قد تطوروا الى هذا الحد، شخصيا لم اكن اصدق انهم نهلوا من اوربا كل هذا التقدم… الان ارى كم نحن متأخرون عن ركب التطور، هل رأيت كيف ربوا فتياتهم وبناتهم، يجب علينا ان نلحق بهم، نحن متخلفون!!، علينا ان نسرع الخطى باتجاه المدنية والحضارة، خاصة في امور النساء، يجب ان نعمل شيئا).

لقد نجحت تركيا في ابهار الشاه رضا، وقد لاحظ احد المرافقين حالة غريبة نشرها في مذكراته حيث يقول: (اين ما ذهب الشاه كان المستقلبون يرددون جملة واحدة هي: نحن جئنا لأستقبال رجل عظيم، ويجب علينا ان نطور الامة التركية كما طور هو الامة الفارسية، وقد عقدت ندوة للشعراء الفرس والاتراك في الفية الشاعر الفردوسي، وكان الاحتفال مركزيا حيث يشعر المتابع ان كل تركيا تحتفل بالفردوسي).

هذا الانبهار انعكس على شخصية الشاه رضا كثيرا، وقد يكون تسبب بقلبها رأسا على عقب، حيث تنازل عن بعض الاراضي المتنازع عليها بين الدولتين لصالح الدولة التركية، ونفذ الاصلاحات التركية (اصلاحات كمال اتاتورك) على الشعب الايراني، وقد خرجت تركيا حتى العام 1936، بعشرة اتفاقيات مع إيران وتشمل الاتفاقيات (الجوية والبحرية والهاتف ومعاهدة التلغراف، والمساعدة القانونية المتبادلة، والتجارة والخدمات البيطرية، وأمن الحدود والجمارك..)

وكانت هذه الرحلة دلالة كبرى على ان (علمانية الدولة) حتى وان كانت ديكتاتورية فانها تنتقل بسرعة الى الدول الاخرى، وهي كما يبدو عكس الدولة الدينية (المذهبية) التي ما ان ظهرت حتى فرقت بين الناس او تسببت بحروب.

الدولتان التركية والفارسية عادتا بعد 500 عام الى الحكم الديني مرة اخرى، وتنازعتا وتمذهبتا، بالرغم من تطور الزمان والمكان….

المصادر : 1

1-       محسنی، محمدرضا / پان ترکیسم، ایران و آذربایجان/ صفحه 233/جاب دوم / ناشر: سمرقند (باللغة الفارسية)

2-       صديق، عيسى / یادگار عمر (خاطراتی از سرگذشت مؤلف)/ جلد 2 / صفحه 17/ انتشارات امير كبير (باللغة الفارسية)

3-       والي ‌زاده، اسماعيل/ خاطره ها/ صفحه 77/ انتشارات مركز تحقيقات (باللغة الفارسية)

4-      Armaoğlu, Fahir / 20. Yüzyıl Siyasi Tarihi (1914-1995) / p65/ Yayınevi:  Dönem /  (باللغة التركية)