البشرية عرفت في مسار الزمن، ثلاثة أنظمة عقلية على التوالي، ثلاث تصورات كبرى للعالم:
التصور الإحيائي (الميتولوجي)، والتصور الديني، و ألتصور العلمي. في هذا الجزء من البحث سنتناول ضمن التصور الإحيائي (الميتولوجي) أنواع السحر، وبالتحديد سحر التماثل.
إذا حللنا مباديء الفكر التي يقوم عليها الساحر وجدنا أنّها تنقسم إلى نوعين : ألأول أنّ المنتشابهات تولد المتشابهات أيضا أو أنّ تأثيرا معينا يشبه مسببه، والثاني هو أنّ الأشياء التي يتصل بعضها ببعض يبقى تأثيرها المتبادل مستمرا من بعيد بعد إنقطاع الإتصال المادي بينهما.
ويُطلق على المبدأ الأول أسم قانون التشابه، وعلى الثاني أسم قانون الأتصال أو التجاور، فمن القانون الأول اي قانون التشابه، يستنتج الساحر أنّ بإستطاعته أن يُحدث التأثير الذي يريد من خلال محاكاته وحسب. ومن الثاني يستنتج أنّ ما يفعله بجسم مادي سيحدث التأثير ذاته في الشخص الذي كان الجسم على إتصال به في السابق سواء أكان جزءاً من جسمه أم لا.
السحر نظام زائف من القوانين الطبيعية ودليل خاطيء للتعامل، إنّه علم زائف وفن مبتسر، فإذا نظرنا إليه على أنّه نظام من القوانين الطبيعية، أي بيان بالقواعد التي تحدد تتابع الأحداث في العالم، أمكننا تسميته بالسحر النظري، أما إذا نظرنا إليه على أنّه مجموعة من المباديء التي يطبقها البشر بهدف تحقيق أهدافهم، أمكننا تسميته بالسحر العملي، وفي الوقت ذاته لابد من أن نأخذ في الحسبان أنّ الساحر البدائي لا يعرف من السحر إلا الجانب العملي منه :
فهو لا يقوم بتحليل العمليات العقلية التي تقوم عليها ممارساته ولا يفكر على الإطلاق بالمباديء المجردة التي تدخل في أعماله، فالمنطق بالنسبة إليه، كما هي الحال بالنسبة إلى معظم الرجال، كامن وليس صريحا، فهو يفكر بالطريقة نفسها التي يهضم بها طعامه أي في جهل مطبق بالعمليات الفكرية والفيزيائية الضرورية لهذه العملية أو تلك.
وبإختصار، فإنّ السحر عنده فن على الدوام، وليس علما على الإطلاق، وفكرة العلم في حد ذاتها لا وجود لها في عقله المتخلف.
إنّ المبدأين الكبيرين ما هما إلا تطبيقين مختلفين خاطئين لترابط الأفكار، فالأول هو الترابط بالتماثل، والثاني الترابط بالتجاور.
فالأول يُخطيء في إفتراضه أنّ الأشياء التي تشبه بعضها بعضا متماثلة، في حين أنّ الثاني يُخطي حين يفترض أنّ الأشياء التي كان بعضها متصل ببعض تبقى على إتصال دائم، فسلسلتا التفكير كلتاهما بدائية ومغرقة في البساطة في واقع الامر، ولا يمكن أن يكون الأمر عكس ذلك، على إعتبار أنّهما معروفان بالشكل المادي المحسوس، لا بالشكل المجرد بالنسبة إلى الذكاء الفطري لا عند البدائيين وحسب، بل عند الجهلة والبلهاء في كل مكان.
ويفترض كلا فرعي السحر أنّ الأشياء يؤثر بعضها في بعض من بعيد من خلال تناغم سري، فالنبض ينتقل من واحد إلى الآخر من خلال ما يمكننا أن نتصور أنّه نوع من الاثير غير المرئي ألذي يفترضه العلم لهدف مماثل تماما، ألا وهو تفسير تأثير بعض الأشياء ببعضها ماديا عبر فضاء يُخيل إلينا أنّه فارغ.
ولعل أكثر التطبيقات المعروفة لدينا للمبدأ الذي ينص على أنّ المتشابهات تولد المتشابهات هي محاولة الكثيرين في مختلف العصور إلحاق الأذى بالعدو أو القضاء عليه من خلال أذية صورته أو تدميرها، إعتقادا منهم أنّ الرجل يتألم كما تتألم الصورة، وأنّه حين تتعرض صورة الرجل للتلف فإنّه يفارق الحياة بالتأكيد.
وهكذا نسمع بأنّ الهنود في أمريكا الشمالية يعتقدون أنّه من خلال رسم صورة شخص في الرمال أو الرماد أو الصلصال، أو من خلال إفتراض شيء معين أنّه جسمه ثم طعنه بعصا حادة أو إلحاق أذية أخرى به فإنّهم يلحقون أذية مماثلة بالشخص الذي يمثله، فعلى سبيل المثال إذا أراد أحد الهنود من قبيلة أوهيبواي ” من أكبر قبائل الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين في شمال المكسيك ” إلحاق الضرر بأحدهم، صنع دمية خشبية صغيرة لعدوه ثم غرز أبرة في رأسها أو قلبها، أو أصابها بسهم لإعتقاده أنّ عدوه سيشعر بألم حاد في جسده في مكان غرز الأبرة في الدمية أو أصابتها بالسهم.
أما إذا كان يريد أن يقتل عدوه لجأ إلى إحراق الدمية أو دفنها في الرمال وهو يتمتم بكلمات معينة. أما هنود البيرو فيصنعون صورا من الدهون الممزوجة بالحبوب لتمثل الشخص الذي يكرهونه أو يخشونه ثم يحرقون الدمية في الطريق الذي يتوقع من الضحية المطلوبة أن تمر فيه، وهذا ما يدعونه بإحراق روحه.
من بقايا هذه الممارسات السحرية التماثلية في عصرنا إحراق الجماهير الغاضبة في التظاهرات لدمية تُمثل ملك أو رئيس جمهورية أو زعيم سياسي أساء إلى جماهير شعب أو أحتل بلدهم كما حصل في العراق بعد إحتلال ألولايات المتحدة الامريكية حيث أحرقت الجماهير المتظاهرة دمية تمثل الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش.
وفي نفس السياق يقوم بعض المتظاهرين بإحراق علم بلد معادي من أجل إلحاق ألأذى بالبلد من خلال رمزه.
من ضمن مناسك الحج في الأسلام يقوم الحجاج في اليوم الرابع: (أول أيام التشريق ، ثاني أيام النحر) في مِنى برمي الجمرات الثلاث في هذا اليوم, وحسب السنّة النبوية يكون البدأ بالجمرة الصغرى, ثم الوسطى, ثم الكبرى (العقبة)، يرمي الحاج بسبع حصيات على أنصاب تُمثل الشياطين، والحكمة في ذلك إهانة الشيطان وإذلاله وإرغامه وإظهار مخالفته، إنّ هذه المناسك هي من بقايا الممارسات السحرية التماثلية.فبالرغم من أنّ الدين مرحلة تالية للسحر نلاحظ بعض التداخل بين المرحلتين، وسنتناول بالتفصيل هذا التداخل في مقالة قادمة بعنوان ” السحر في القرآن “.
إذا كان سحر التماثل، أي العمل من خلال الدمى والصور يُمارس عادة لتحقيق هدف شرير وهو التخلص من المشاكسين فإنّه أُستخدم ايضا ليحقق نوايا طيبة مثل مساعدة الاخرين، أي أنّه أُستعمل لتسهيل عملية الولادة وفي مساعدة العاقر على الإنجاب.
وهكذا نرى في أنّ العاقر في قبيلة الباتك ” مجموعة عرقية تسكن المرتفعات شمالي سومطرة بإندونيسيا ” التي ترغب في الإنجاب تصنع دمية من الخشب على هيئة طفل وتحتضنها إعتقادا منها أنّ هذا سيحقق رغبتها.
أدى مبدا التخيّل ذاته المحبب لدى الأطفال بشعوب أخرى إلى إستخدام تمثيل الولادة كشكل من أشكال التبني، وحتى كوسيلة لإرجاع الموتى إلى الحياة، فإذا تظاهرت بأنّك رُزقت بمولود ذكر، و حتى برجل له لحية ليس في عروقه نقطة دم واحدة من دمك، كان ذلك الولد أو الرجل في نظر الفلسفة والقانون البدائيين أبنك فعليا مهما كانت الأهداف والنوايا.
وهكذا يخبرنا ديودوروس أنّ زيوس ” يُلقَّب عند الإغريق بـ أب الآلهة والبشر” حين أقنع زوجته الغيورة هيرا بتبني هيركليس أستلقت في السرير وضمت بطلها الضخم إلى صدرها، ثم دفعت به تحت ملابسها وتركته يسقط على الأرض لتحاكي الولادة الحقيقية، ويضيف المؤرخ أنّ البرابرة في زمانه كانوا يتبعون طريقة تبني الأطفال ذاتها.
أما اليوم فيقال إنّها ما زالت تتبع في بلغاريا وعند ألأتراك البوسنيين، فالمرأة التي ترغب في تبني طفل تاخذه وتسحبه أو تدفعه من تحت ملابسها، بعد ذلك يُعد ذلك الطفل كما لو كان طفلها الحقيقي ويرث كامل أملاك ابويه بالتبني.
ولسحر التماثل دور كبير في الإجراءات التي يتخذها الصيادون للحصول على صيد وفير، فبحسب أنّ المتشابهات تولد المتشابهات يقوم الصياد وأصدقاؤه بكثير من الأفعال التي تحاكي النتيجة التي يسعى لتحقيقها، لكنهم من ناحية أخرى يحرصون عل الإبتعاد عن كثير من الأشياء الاخرى لانّها تشبه إلى حد ما اشياء تجلب الهلاك.
ولا يقتصر نظام سحر التماثل على المباديء الإيجابية وحسب، بل يضم أيضا عددا كبيرا جدا من المباديء السلبية، اي النواهي، فهو لا يأمرك بالواجبات، بل يحدد لك النواهي، فالمباديء الإيجابية هي ممارسة السحر، واما السلبية فهي النواهي، فعقيدة النواهي بأكملها، أو جزء منها تبدو في واقع الامر تطبيقا خاصا من السحر التماثلي بقاعدتيه الكبيرتين وهما التشابه والإتصال.
إنّ هذه المباديء السلبية التي نسميها النواهي لا تقل عبثية وسخفا عن المباديء الإيجابية التي ندعوها بالشعوذة، فالامران يمثلان طرفين أو قطبين لفكرة خاطئة مدمرة واحدة.
نلتقيكم في مدارات تنويرية أخرى.
مصادر البحث:
– الطوطم والحرام …………. سيجموند فرويد.
– ألغصن الذهبي……………. جيمس جورج فريزر – دراسة في ألسحر وألدين.
– دين الإنسان ……………… فراس السواح.