الانسانية طريق صاعد بين هاويتين، وهم العقيدة ووهم الحق، وفي مفهوم العقيدة انها قيود وضعت لنا فاعتنقناها واصبحنا عبيد لها دون حتى ان نسال انفسنا عما هو ابعد مما نراه، سواء كانت عقيدة سياسية او قومية او دينية وهي الاخطر، والانسان يولد لابوين من دين ما أو مذهب ما فيتخذه عقيدة له، تستعبده حد القتال والتضحية بدمه وحياته من اجلها، وفي مفهوم الحق، فاننا غالبا ما نعتبر ان مانؤمن به هو الحق، واي نقيض لنا هو الباطل.. تلك هي اسس الصراع بين البشر، ليس في العراق بل في العالم كله، ومهما حاول الوسطيون بالعقل والمنطق من خلق فسحة بين التناقضات العقائدية او اوهام الحق، فان بسطاء الناس لايمكنهم التوقف عن الاندفاع خلف ما يؤمنون به وللاسف دون سؤال واحد: لماذا؟..
قادة المجموعات سواء سياسية ام اثنية ام دينية، هم المستفيدون دائما من اندفاع البسطاء، وسواء ارتكب البسطاء اخطاءا قد تصل الى البشاعة في السلوك الفردي، ام انهم انتظموا في سياق سلوك سلمي او وحشي جمعي، فانهم المتضررون دائما، ضحايا كانوا ام مذنبين..
داعش والميليشيات، الصدر وانصاره، العبادي وحزبه وجوقته، مرجعية النجف والحزب الاسلامي، رؤوس تقطع، واجساد تحرق، وارواح تعذب، نازحون وبسطاء يتسولون المزابل، وكروش وعمائم تمتليء بالثريد والدولارات، اعناق تُزيَّن باربطة فرنسية وايطالية، اغبياء يضعون في ايديهم ساعات الرولكس، واغبياء يركبون سيارات الفيراري والبورش، واكاديميون حائرون بدفع ايجار بيوتهم، واصحاب شهادات لايحصلون على فرصة للعمل والابداع، مثقفون باعوا عقلهم وفكرهم في مزاد السياسة، كل هذه المتناقضات هي نتاج وهم العقائد ووهم الحق..
احد المثقفين العراقيين نشر على صفحته في الفيس صورا لجندي عراقي اسرته داعش قبل اعوام، الاسير ممد على الارض وتظهر في الصورة امرأة تضع قدمها على راسه، وتعليقه كان يقول هاهن نساء الفلوجة، ويدعو الى تدميرها.. وفي نفس الصفحة تجد فيديو اخر يقوم الدواعش فيه برمي اشخاص من سطح عمارة الى الارض مع التكبير باسم الله..
مثقف عراقي اخر، نشر على صفحته في الفيس ايضا، فيديوات عدة تظهر مجاميع من الحشد الشعبي وهي تعذب اسرى من ابناء الفلوجة، ولنفترض لاجل الجدال انهم من الدواعش..
في صفحات اخرى كثيرة، اشخاص يتوعدون ابناء الفلوجة بالقتل والدمار، واشخاص يتوعدون الشيعة بالقتل والدمار.. وعلى كل الصفحات والفيديوات والمنشورات المتضادة، الاف اشارات الاعجاب لهذا وذاك، الاف الشتائم والاف التوصيفات، اشخاص فرحون سعداء بتعذيب الدواعش والاف فرحون باهانة وقتل الاسير، معجبون كثيرون لكل شيء، حين نفقد انسانيتنا فاننا نسقط في هاوية ما، هاوية العقيدة، وهاوية وهم الحق..
مثقف اخر ينشر على صفحته ايضا دعاء الموصل، واخر ينشر دعاء الفلوجة، واخر ينشر دعاءا للنصر على الفلوجة وعلى الموصل، ادعية تدعو الله للانتقام من الله اخر، الاف المعجبين والاف المشاركات، كلها تبتهل الى الله لمحاربة نفسه.. كلنا نظن ان الله معنا فقط.. وهم الايمان بالحق..
لو كل مثقف ولا نقول كل انسان بسيط، فالبسطاء مثل الغاوين الذين يتبعون الشعراء، لو كل مثقف سال نفسه فيما اذا كان قد ولد في المكان الآخر، فهل سيكون منشوره او تعليقه كما هو الان؟.. الشيعي الذي نشر مطالبا بتدمير الفلوجة لو سال نفسه ان كان قد ولد في الفلوجة لابوين سنيين، هل سيدعو الى تدميرها؟.. ولو كان قد خلق لابوين مسيحيين، هل يمكنه ان يتخيل تعليقه وهو يرى حال المسلمين الان، وكذلك الامر مع السني سواء كان متعلما مثقفا ام جاهلا متخلفا؟..
لا ابالغ ان قلت ان المثقف الشيعي والسني سيكون جوابه (بنعم) مصرا على ايمانه بموقفه الشاذ، موهوما بالحق، فهو يعتقد ان هذا هو الحق، ان تسحق الفلوجة بكل ما فيها، ان نقضي على الشيعة عن بكرة ابيهم، بل الادهى ان كلا منهما لايمكنه ان يتخيل نفسه ان يكون في مكان الاخر، مع انه آمن بمذهبه دون ارادته وقبل فترة الوعي، كلنا نعتقد ان الحق معنا، وكلنا عبيد لمعتقداتنا.. وبين وهم الحق ووهم العقيدة سحقت انسانيتنا، اما بسطاء الناس من كل المذاهب، حين تساله ذات السؤال فانه يفغر فاهه مستغربا من السؤال..
حين يقوم الدواعش بارتكاب اعمال ضد الانسانية، جرائم بحق رجال ونساء الموصل مسلمين او غير مسلمين، الانسانيون في اوروبا واميركا واماكن اخرى، ينبرون لاستنكارها والتنديد بها، الحزب الاسلامي (الاخوان المسلمين) ومعهم المرجعية والاحزاب الشيعية تلزم الصمت، الحزب الاسلامي لايريد تخريب العلاقة مع اخوة العقيدة، والمرجعية والاحزاب الشيعية ترى ان بأسهم فيما بينهم، فهم على الجانب الاخر من وهم العقيدة ووهم الحق..
وحين تقوم الميليشيات او الحشد الشعبي او الجيش بارتكاب اعمال ضد الانسانية في حرب الفلوجة، ينبري الحزب الاسلامي للتنديد بها والمطالبة بمعاقبة مرتكبيها، ليس لان الضحايا عراقيين، بل لانهم اخوة في العقيدة والحق، وهو يسعى لكسب ود اخرين والحصول على دعم واموال العرب..
العبادي لم يعتقل من أطلق النار على المتظاهرين وتسبب بمقتل اثنين منهم، ولم يعتقل المتسبيين في سقوط الموصل والانبار وما تبعها من خسائر في الارواح، ومن عذابات للنازحين، ولكنه اسرع للاعلان ( ربما اعلاميا فقط وليس حقيقة) عن القبض على مرتكبي الجرائم في الفلوجة، ليس لان ابن مدينة الثورة وابن الجنوب هو ابن ( البايرة)، بل لان العبادي يسعى لكسب ود آخرين داخليا واقليميا ودوليا..
الجندي او المتطوع في الحشد او عضو الميليشيا الذي قام بقتل وتعذيب الضحايا، كان مندفعا بوهم عقيدته، لارضاء قادته في الميدان او السياسيين او مرجعيته في النجف او ايران، ومن ثم ائمته الاثنى عشر ورسول الله والله ايضا، والداعشي الذي قتل واحرق وعذب، كان يريد ارضاء قادته في الميدان ومرجعياته في السعوية ومن ثم رسول الله والله ايضا.. الخاسرون في وهم العقيدة هذا ووهم الحق، هم بسطاء الناس من كلا المذهبين، الضحايا والمذنبين، مجزرة سبايكر ومعها مجزرة الصقلاوية والتفجيرات هنا هناك هي اكبر
مثال على الاندفاع وراء وهم العقيدة، ناهيك عن مجازر كبيرة اخرى حدثت في اماكن متعددة من العالم لاختلاف العقائد قومية كانت ام سياسية ام دينية ..
حين اكتشف البشر في العالم المتحضر، ان دور العقائد قد تحول من رداء للوحدة كما كان سابقا، الى قوة للتفرقة، ووسيلة للتمييز، وان الجنة الموعودة يمكن صنعها هنا، بالقلوب المحبة والعقول المبدعة، نظموا شؤونهم بالقوانين، تخلوا عن مبدأ الحق والباطل لصالح مبدأ الصح والخطأ، فتعايش المسيحي مع المسلم مع اليهودي والبوذي في اسطنبول وباريس ولندن وبرلين وسيدني ونيوورك دون شعور بان كل منهم انما احق من الاخرين، والاسلام الذي يقول ان الناس سواسية وان لافرق بين عربي واعجمي، كان قاعدة اساسية في قوانين التحضر والعدل والمساواة، فلم يعد بامكان اي فرد هناك ان يجد نفسه مختلفا عن الاخرين من حيث الحقوق والحريات والواجبات.. الا اننا مازلنا في عالمنا القديم المتصارع، كل فرد منا مقادا بوهم عقيدته ووهم الحق، معتقدا ان الطريق الى الجنة يمر عبر قتل الاخرين.. [email protected]