الحديث عن الفساد في العراق يفوق قصص الخيال التي وردت في حكايات ألف ليلة و ليلة. فشهرزاد لم تسكت عن الفساد المباح و لم تعد تخاف من سلطة السياف طالما أن الكل شريك في الجريمة. و قد أدى هذا الفساد الأسطوري إلى انهيار كبير في الاقتصاد العراقي انعكس سلباً على معظم مفاصل الدولة العراقية بما فيها الجانب الأمني.
لكن آخر فصول الحكاية كان توقيع العراق لما يعرف باتفاق التدابير الاستعداديةStandby Arrangement مع صندوق النقد الدولي و هو برنامج يشرف عليه الصندوق بمساعدة البنك الدولي لمساعدة البلدان الأعضاء التي تواجه عجزاً في ميزان المدفوعات في ظل الأزمات المالية. و من خلال هذا البرنامج يتم إقراض الدول بشروط ميسرة و لكن وفق تعديلات هيكلية في اقتصاداتها تسمح لها بتجاوز الأزمات و التمكن من السداد.
و بموجب هذا الاتفاق حصل العراق على قرض مبدأي يبلغ 5.4 مليار دولار هو جزء من قرض يبلغ قرابة 16 مليار دولار سيتم منح ما تبقى منه على دفعات و بفائدة 1.5 بالمائة. و لمن يتساءل فهذه ليست المرة الأولى التي يقرض فيها صندوق النقد الدولي العراق ، لكن الحقيقة المؤسفة أنها المرة الأولى في التاريخ التي يتم تطبيق برنامج إقراضي على دولة نفطية ، فكيف إذا كانت هذه الدولة من أغنى دول العالم كالعراق الذي بلغ دخله منذ 2003 أكثر من 855 مليار دولار.
البرنامج الذي تمتد مرحلته الثانية من نوفمبر 2015 إلى ديسمبر 2016 يرتبط بإرﺳﺎء ﺳﺟﻝ ﻟﻸداء يتم من خلاله مراقبة ﻣﺻﺎدﻗﻳﺔ الحكومة العراقية في تطبيق سياساتها الاقتصادية و المالية. و يعتبر هذا دليلاً واضحاً على أن صندوق النقد و المؤسسات الدولية بدأت تشكك في مصداقية السياسات التي اتبعتها الحكومات العراقية المتعاقبة طيلة السنوات السابقة بعد 2003.
و لا عجب في أن كل ما جرى من فساد مالي و إداري في الماضي كان أبرز أسباب إهدار أموال العراق و ثرواته و سقوط أراضيه بيد داعش و من ناصرها. و هذا دعى الشعب العراقي للخروج بمظاهرات احتجاجية كبيرة و غاضبة في جميع أرجاء العراق منذ آب 2015 و ما تزال مستمرة ما أجبر رئيس الوزراء حيدر العبادي على القيام بعدد من الإجراءات التي لم تصل لمستوى طموح العراقيين.
كما أوضحت الحكومة العراقية للخبراء الدوليين في نوفمبر من العام الماضي أنها قامت بإجراء تعديلات في مشروع موازنة هذا العام 2016 لتتماشى مع الإطار المتفق عليه مع المؤسسة الدولية.
و كعادتها وعدت اﻟﺣﻛوﻣﺔ العراقية بإجراء إﺻﻼﺣﺎت ﺗﺗﻌﻠق ﺑﻣﻛﺎﻓﺣﺔ غسيل اﻷﻣواﻝ لكن يبدو أنها عجزت لغاية هذه اللحظة عن القبض على أي حوت من حيتان الفساد التي تكلم عنها السيد العبادي نفسه.
فوضى و فشل حكومي بامتياز:
و قد ساهم هذا الأمر في ارتفاع عدد الفقراء في العراق لأكثر من 10 ملايين إنسان في حين أن البلاد تعاني من موجة نزوح كبيرة تتجاوز الـ 4 ملايين عراقي يعانون من انعدام الخدمات أو أي فرصة للعيش الكريم.
أما على الصعيد المالي فقد ساهم انخفاض أسعار النفط و الاستمرار في النزف المالي للقطع الأجنبي من العراق في ارتفاع الهوة المالية بين النفقات و الإيرادات إلى 50 مليار دولار بحسب مصادر حكومية عراقية.
كما سجل ﻣﻳزان اﻟﻣدﻓوﻋﺎت ﻋﺟزاً يتم تمويل قسم منه باستخدام الاحتياطي الاجنبي الذي اﻧﻛﻣش بـنسبة 13% في نهاية سبتمبر 2015 بحسب صندوق النقد الدولي و إقرار الحكومة العراقية.
و بلغ احتياطي النقد الأجنبي للبنك المركزي العراقي نهاية أكتوبر2015 ما قيمته 59 مليار دولار مقابل 67 مليار دولار نهاية 2014. أما التقديرات فتتوقع أن يتراجع هذا الرقم إلى43 مليار دولار في هذا العام 2016.
و هذا دفع الحكومة العراقية إلى إصدار سندات بقيمة ملياري دولار و ذلك من خلال عرض ترويجي في بورصتي لندن و نيويورك بعد حصولها على تصنيف ﺳﻳﺎدي لوكالة ﻓﻳﺗش ﻟﻠﺗﺻﻧﻳف اﻻﺋﺗﻣﺎﻧﻲ (-B).
لكن ما لم تعلنه الحكومة حينها هو أن عدم رغبة المستثمرين في الشراء و القلق من مستقبل العراق الاقتصادي في ظل عدم وجود إدارة حكيمة لموارد الدولة و ارتفاع سعر الفائدة البالغ 11.5% تسبب في تأجيل هذا الطرح ، أو فلنكن أكثر صراحة إذا قلنا أنه فشل.
و لا يبدو هذا غريباً فقد لاحظ خبراء صندوق النقد الدولي عدم وجود انضباط في المالية العامة للدولة العراقية في حين أنهم عبروا عن خيبة أملهم كون أن عملية تخصيص الموارد النفطية تتم على أساس اعتبارات سياسية و ليس على أسس اقتصادية علمية.
و تستمر عملية الفوضى لتصل إلى القطاع المصرفي الذي يسيطر عليه ثلاثة مصارف رئيسية هي الرشيد و الرافدين و المصرف العراقي للتجارة و اللتي تساهم بـأكثر من 89% من الأصول المصرفية للدولة.
لكن هذه المصارف الكبيرة في الاسم و الحجم تعاني بحسب خبراء صندوق النقد الدولي من نقص شديد في رأس المال. فمصرف الرشيد لديه نصف الحد الأدنى لرأس المال الإلزامي البالغ 250 مليار دينار عراقي أي 214 مليون دولار أما الرافدين فلديه الخمس.
أما المصارف الإسلامية و البالغ عددها 6 مصارف فهي تعمل بدون قانون مصرفي إسلامي خاص بها. و على الرغم من أن عدد المصارف في العراق يبلغ 56 مصرفاً فلا يوجد أي تبادل للمعلومات فيما بينها حول ما يتعلق بالمقترضين الحاليين أو المحتملين.
أغرب ما في الأمر هو أن هذه المصارف العراقية و بعد 13 عاماً من التغيير الذي حصل في العراق فإنها لا تمتلك رقم تعريفي دولي أو ما يعرف بـ IBAN . و يعتبر هذا الرقم من أبسط أصول التعامل المصرفي إلا أن رغبة الفاسدين في عدم ربط النظام المصرفي العراقي و اندماجه مع النظام المصرفي العالمي قد ساهم في تأخير هذا الأمر لتسهل عمليات غسيل الأموال و تمويل الصفقات المشبوهة من دون الاهتمام بتأثير هذا الأمر سلباً على تطور القطاع المصرفي و تراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية.
اللافت للانتباه أن صندوق النقد الدولي لاحظ وجود إهمال كبير في إحصاءات الاقتصاد الكلي و التي تعاني من سنوات من الإهمال و ضعف الخبرات. لذلك فإن معظم الحسابات القومية التي يتم إعدادها ينقصها الجودة نتيجة نقص البيانات المصدرية الشاملة عن الأنشطة و فئات الإنفاق في الناتج المحلي.
إجراءات صندوق النقد الدولي:
و بحسب صندوق النقد الدولي يتوقع أن تصل إيرادات العراق النفطية إلى 5 ترليون دينار في 2016 و 12 ترليون دينار في 2017 ، أما الدين العام فإنه سيرتفع إلى 66 بالمائة من مجمل الناتج المحلي هذا العام 2016 .
و أمام هذا الواقع المتخلف للاقتصاد العراقي و عدم ثقة المؤسسات الدولية بالإدارات الحكومية التي تعاقبت على العراق بعد 2003 ، ناهيك عن الصورة المستقبلية الغير مشجعة للاقتصاد العراقي فقد فرض صندوق النقد الدولي عدة شروط ليوافق على منح العراق أية قروض و اتفق مع الحكومة العراقية على جملة من الإجراءات الضرورية.
فقد وجه الصندوق باعتماد مشروع جديد لقانون اﻹدارة اﻟﻣﺎﻟﻳﺔ و تطبيق “ﺣﺳﺎب اﻟﺧزاﻧﺔ اﻟواﺣد” و ذلك من خلال إعداد ﻗﺎﺋﻣﺔ بحسابات جميع اﻟﻣﺻارف اﻟﺗﻲ تخضع ﻟﻣراﻗﺑﺔ وزارة اﻟﻣﺎﻟﻳﺔ و تحديد ﻛﻝ اﻹﻧﻔﺎقات اﻟﻔرﻋﻳﺔ ﻓﻲ اﻟﺣﻛوﻣﺔ اﻻﺗﺣﺎدﻳﺔ.
و اشترط الصندوق الكشف عن حجم المستحقات للمقاولين المحليين و تقديم حسابات تفصيلية عن الرعاية الاجتماعية و البطاقة التموينية. و بالنسبة للتعيينات فقد فقد اشترط صندوق النقد الدولي التوقف عن أية تعيينات جديدة باستثناء قطاعات الصحة و التعليم و الأمن.
كما وجه الصندوق بتشديد الرقابة على غسيل الأموال مطالباً هيئة النزاهة بالتحري عن أصول ﻛﺑﺎر اﻟﻣﺳؤوﻟﻳن لتحسين اﻟﺣوﻛﻣﺔ وﺗﻌزﻳز ﺟﻬود ﻣﻛﺎﻓﺣﺔ اﻟﻔﺳﺎد.
و في بلد أحوج ما يكون للاستثمارات فإن البنك الدولي سيقوم بمساعدة وزارة التخطيط للقيام بعملية إصلاح “إدارة الاستثمار العام”. لذلك وجه خبراء الصندوق بإنشاء وﺣدة ﻣرﻛزﻳﺔ ﻹدارة اﻻﺳﺗﺛﻣﺎر اﻟﻌﺎم لفحص اﻟﻣﺷروﻋﺎت ﺑﻧﺎء ﻋﻠﻰ دارﺳﺎت ﺟدوى لتأسيس ما يسمى بـ “مصرف المشروعات المتكاملة” بإدارة وزارة التخطيط و ذلك لزيادة الإنفاق الاستثماري و تحقيق نمو خارج القطاع النفطي.
و بينما تتغنى الحكومة العراقية بما قامت به من إصلاحات لم تكن مقنعة فإن صندوق النقد الدولي شدد على خفض النفقات الجارية و الأجورالمرتفعة و توسيع القاعدة الضريبية للأجور ، مؤكداً على ضرورة حماية الاستثمارات النفطية لأهميتها في تمويل معظم الإنفاق العام مشدداً على ضرورة دفع مستحقات شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق.
و لخلق بيئة متطورة من النظام المصرفي سيقوم صندوق النقد الدولي بتدقيق الكشوفات المالية لمصرفي الرشيد و الرافدين بالإضافة لإجراء عملية إعادة هيكلة للمؤسستين و رفع متطلبات رأس مال المصارف إلى 214 مليون دولار كحد أدنى.
كما سيشرف صندوق النقد الدولي على ديون العراق و يخضعها للرقابة بالإضافة لتدقيق رواتب الموظفين لمنع حالات التلاعب فيها و الدفع المتكرر أو الدفع لما يسمى بـ (الفضائيين).
و في الوقت الذي يعاني فيه العراق من نقص حاد في الخدمات و بخاصة الكهرباء و الماء فسيتم زيادة تسعيرة الكهرباء لمن يستهلك أكثر من 600 كيلو واط شهرياً.
كما اقترحت وزارة المالية فرض ضرائب على رواتب الموظفين منالدرجة الثانية صعوداً من 7.5 – 15 بالمائة على إجمالي الراتب ما عدا رواتب العسكريين. و تقليل الراتب التقاعدي من خلال احتساب الراتب الأسمي على أساس السنوات الـ 7 الأخيرة بدلاً من احتسابه على أساس السنوات الـ 3 الأخيرة.
الإصلاح الحقيقي:
و استجابة لمطالب الصندوق فقد قام البنك المركزي بحملة لغلق عدد من مكاتب الصيرفة و التحويلات في العراق و ذلك في محاولة منه للسيطرة على بعض المضاربين في السوق السوداء و لحماية سعر الصرف من المتلاعبين.
محاولة قد يبدو للوهلة الأولى أنها كافية لوقف نزيف القطع الأجنبي في العراق لكنها لمن يدقق في سياسات البنك المركزي تتجاهل عملية المزاد التي تساهم في استمرار ذلك. ففي شهري كانون الثاني و شباط من هذا العام 2016 بلغت إيرادات العراق المالية 3.269 مليار دولار في حين أن البنك المركزي باع دولار لغرض استيراد سلع استهلاكية بقيمة 5.821 مليار. ما يعني أن الفرق البالغ 2.552 مليار دولار تم تغطيته من خلال السحب من احتياطي القطع الأجنبي.
من هنا يتضح أن عملية إصلاح النظام الاقتصادي و المالي في العراق لن تكون ذات جدوى إذا كانت من دون إرادة سياسية و حماية قانونية و قضائية لها. الأمر الأكثر أهمية هو دور منظمات المجتمع المدني المستقلة و التي تحول قسم منها للأسف إلى دكاكين تابعة لبعض الأحزاب و جعلها مسيسة.
هذه الحقائق تجعل الشارع العراقي أمام حقيقة واحدة و هي أنه الرقيب الأول و الحقيقي لما يتم التصرف به من مقدراته و ثرواته التي تعود أولاً و أخيراً له و للأجيال من بعده.
الأمر الآخر ضرورة مطالبة أي حكومة بالإفصاح عما تقوم به من اتفاقيات دولية بصورة واضحة و شفافية كاملة لأن الملاحظ مؤخراً أن الأداء الحكومي مع الشعب فيه غموض كبير في حين أنه مع المؤسسات الدولية يتسم بالكثير من التبريرات.
و يخلق هذا الأمر فجوة بين الفريقين الحكومي و الشعبي حتى أنه ينعكس بشكل واضح في أروقة مجلس النواب الذي يغيب في كثير من الأحيان عن التفاصيل حاله حال الشارع المغلوب على أمره.
و حقيقةً ، فإنه من المعيب أن تجد تفاصيل مهمة لدى المؤسسات الدولية في حين أنها تغيب عن وزارات الدولة العراقية و مواقعها الإلكترونية المتخلفة.
و أخيراً يجب أن نقول بأن هيبة الدولة التي يتباكى عليها من أضاعها لا تتمثل بالشكليات من قبيل بناء حكومي أو شخصية سياسية و إنما تعتمد على احترام الدولة لمواطنيها و توفير سبل الحياة الكريمة لهم.
أما سياسات التسويف و الوعود و ذر الرماد في العيون من دون محاسبة كبار الفاسدين فإنها حتماً لن تضمن أي إصلاح و ستكون أول من يحطم الدولة برمتها فلا يكون لها لا هيبة و لا وجود أصلاً و هذا ما لا نتمناه للعراق بكل تأكيد.