عند عودة الميجَر للقرية سائراً على قدميه شاهدهُ صاحب سيارة حمل توقف وسأله عن المكان الذاهب اليه فأخبره قال له السائق اركب معنا نحن في نفس الاتجاه كان حمل السيارة عبارة عن أثاث ومستلزمات زواج بسيط يسمونه ” حَملَة عرس ” أُم العريس راكبة في نفس السيارة بعد سؤاله عن العريس وابوه عرفهم الميجَر وعرّفهم بنفسه فقالت المرأة ” سامعين بِيك ” كان يَعرِف ان زوجها متوفي عند وصولهم دار المرأة المجاور لمقهى قرية نهر الشيخ القريبة من قرية السادة بادر بالتعاون معها ومع السائق لأنزال المحتويات أستغربَ الميجر من الهدوء الذي يسود الحالة لأن مثل هذه المناسبات ترافقها الزغاريد وأطلاق العيارات النارية أبتهاجاً قال الميجَر ” وين عمامكم ” ردت المرأة ” ديره مابيها خير وآنه حرمة بليا والي ” تأثر الميجَر كان يحمل مسدس ألماني يسمونهُ ” بَرَبَير ” وأخذ بأطلاق النارفي الهواء طالباً من المرأة ان تزغرد قائلاً بصوت عالي ” هلهلي هلهلي ” فأخذت تزغرد عند هذا الحال المبهج خرجت نساء الدار والجيران وتعالت الزغاريد وأخذت المرأة بالهتاف وبصوت عالي هازجة ( الميجَر من أهل السادة والميجَر من اهل السادة والنساء المتجمهرات يرددن نفس الأهزوجة ) ام العريس كانت قاصدة هذا الكلام نكاية بأهل قريتها نهر الشيخ على موقفهم السلبي , الميجر انفعل لذلك كان في نيته أن يطلق عدة اطلاقات تكريماً للحالة فشعر بالزهو وقال ” تستاهلين شاجورين ” يعني مخزني عتاد وكان العتاد غالي الثمن نفّذ ما قاله بالفعل , أشتهرت هذه القصة فكان الميجر كلما يأتي الى حفل عرس او ختان يهتف الحاضرين باهزوجة ( الميجَرمن اهل السادة والميجر من أهل السادة والميجر ) فيضطر لأطلاق النار ابتهاجاً . يتردد على القرية رجل مجهول فيهِ شيء من الجنون يلقب نفسه ” أبو حبيبة ” يعتاش على صدقات الآخرين كان في اغلب الاحيان يقف على ضفة النهروسط القرية ويتكلم بصوت عالي مع نفسه مخاطباً شخوص يجهلونهم اهل القرية وبعضهم يعرفهم المثقفين , واضح من كلامه أنه على قدر من الثقافة أعتقد اهل القرية ان لهذا الرجل كرامات فيجلّونه لذلك ويزورونهُ في محل اقامته كوخ على نهر خراسان خارج القرية .
حدث انقلاب عبد الكريم قاسم سنة 1958 وقتل الملك فيصل الثاني رحمة الله عليه حزن اهل القرية رجال ونساء مستنكرين ذلك كونه سيّد هاشمي ومن نسبهم وَقتُلِت نساء العائلة الملكية وهذا الحادث مرفوض بشكل قاطع عند اهل القرية لأنهم يتعاملون بمبدأ ” الحرمة بشارب الخيير ” وَقُتِلَ خال الملك عبد ألأله الوصي سابقاً ونوري السعيد الشخصية المعروفة محلياً وعالمياً رئيس وزراء العراق شغل هذا المنصب أربعة عشر مرة ” يُلقّب بالداهية العجوز”, هو والوصي خال الملك بطريقة بشعة لا انسانية تم تقطيع جثثهم بالكامل من قبل ناس موتورين يجهلون الرحمة وألأعراف الأنسانية أثارت استنكاروأستهجان كل العقلاء والمدركين لبشاعتها , يرجع التمثيل بجثة الوصي خال الملك ورئيس الوزراء نوري السعيد الى قناعة العراقيين بأنهم وبريطانيا وراء مقتل الملك غازي ولم يقتنعوا بأدعائهم بأن الحادث كان نتيجة اصطدام السيارة التي كان يقودها الملك بعمود الكهرباء بل تعرض للأغتيال من قبلهم , العراقيين كانوا يحبون الملك غازي لشجاعته وصراحته وصدقه كانت له أذاعته الخاصة يتواصل من خلالها مع الشعب يكره الانكليز يميل للألمان أتفق معهم لشراء السلاح في صفقة سرّية , سرقت وثائق الصفقة فأحس الملك غازي بخطورة الموقف لذا كان حريص على حمل مسدسه بشكل دائم كان يعبر عن هواجسه وما يشعر به من خلال أذاعته الخاصة التي كان يديرها بنفسه , عند اعلان وفاته تم الحزن في جميع انحاء العراق وقيام مجالس الفاتحة الشعبية في كل مكان وقيام التظاهرات المستنكرة لأغتياله وادى ذلك الى قتل القنصل البريطاني في الموصل كان المتظاهرين يرددون الأهازيج الحزينة مثل ” الله وأكبر يا عرب غازي أنفكَد مِن داره * أنهزّت أركان السِمه من دَعمَت السيّاره ” . والنظام الملكي عادل وحريص على بناء الدولة العراقية والعراق بشكل عام يسوده الاستقرار والأمان والقانون بعيد عن التعصب والطائفية , كان لجدتي أم ابي قوري شاي مكسور تحتفض بقطعة منه مرسومة عليها صورة الملك فيصل الثاني تخرجها بين فترة واخرى تشاهدها وتبكي وتدعُ الله للأنتقام من قاتليه بعد الانقلاب بدأت الامور العامة تسوء وتخرج خارج سياقاتها المعتادة بروز الشيوعين وقيام صراع بينهم و بين القوميّن والاسلاميّن الغير منسجمين , خرج بعض مؤيدي الزعيم يوماً وبشكل مفاجئ ليلاً الى شارع القرية مع عزف على الطبل يستخدمه المدعو ” أحمد مسّو ” مرددين ” شوفوا الزعيم بالگُمَر ” تجمهر الناس وبعضهم يؤكدون ذلك . وللطريفة كان بينهم رجل اعمى أسمه ” الملّا جْلِيل ” يحب الملك ويكره الزعيم يؤكد على صورة عبد الكريم قاسم في القمر ساخراً منهم , سألوه اين الصورة رد عليهم ” أنتم شنو عميان متشوفون ” عادوا للنظر الى القمر والتمعن فيه للبحث عن الصورة أنتبه احدهم وقال ” اكلك ملّا يعني ايصير اعمه يدلي مفتحين … صدك احنه قشمره يا تصوير يا زعيم ياقمر ” تسائل البعض كيف يمكن ظهور صورة الزعيم في القمر… ؟ فنّد بعضهم ذلك , وقال البعض بأن الروس هم من وضع الصورة عند وصولهم القمر ….! وللملّا جليل شأن في قرية السادة حاله مثل حال اسماعيل الأعمى , يعم الفرح اهل القرية عند بداية نضوج التمر يكون ذلك في عدد محدود ونادر من النخيل أحد الشباب المبصرين صعد على نخلة نوع ” بربن ” طويله جداً يسمونها على طولها ” العِيطَه ” فقطف منها تسعة رطبات عَرَضَها على الجالسين في المقهى فتعجبوا وأثنوا عليه وأكد على قطفه لكل ما فيها , طلب الملّا جليل الأعمى من احد الشباب أن يدله على نخلة البربن هذه فصعدها وتمكن من جمع أربعة عشر رطبة منها وأتى بها الى المقهى صائحاً بصوت عالي من الاعمى أنا ام هو فكانت نادرة يتحدثون بها اهل القرية ولقّبوا الشاب المبصر بالأعمى فأنطلى عليه اللقب واصبحت مشكلة لمن لايعرف قصته اذ يستغرب المُتعامِل معه لماذا يلقبونه بالأعمى وهو مبصر . كان الملّا جليل الأعمى وأسماعيل ألأعمى يتاجران بالتمر يحملان اكياس التمر على ظهورالحمير الى محطة القطار في بعقوبة مركز محافظة ديالى ويذهبان بها الى الشمال مناطق ” قرة تبّه وكفري وخانقين ” لمقايضتها بحبوب الحنطة وبيعها لأهالي القرية كان هذان الرجلان يعرفان طرق البساتين والمقاهي والمسجد ويتواصلان معها دون دليل ويصعدون النخيل لتلقيحها وقطف عثوقها وقطع سعفها وكربها يعملان بجد ولا يقبلان صدقة من احد . في مرة حدثت عاصفة ترابية قوية غير مسبوقة , في المدرسة تم تحذير الطلاب وحثهم على وضع قطعة من القماش على انوفهم والتنفس من خلالها بغية تحاشي ضرر التراب الموجود في الجو والحال ازداد سوءاً فكبّر مؤذن المسجد طالباً بالتجمع للدعاء فتجمهر الناس وأخذوا بالدعاء سائرين ذهاباً واياباً بشارع القرية الرئيسي مرددين بصوت عالي دعاء ” يا قريب الفرج عالي بليا درج ” ثم أنتهوا للمسجد لتأدية الصلاة ” صلاة الفَزَع “
أبرز ما شغل اهل القرية بشكل خاص والعراقيين بشكل عام ” محكمة المهداوي ” كان قسم من اهل القرية يذهبون الى قرية بهرز البعيدة في الجانب الآخر من مركز مدينة بعقوبة لمشاهدة المحكمة ليلاً من خلال جهاز تلفزيون في احدى مقاهيها يعمل على كهرباء تولده مضخة ماء , من ابرز ما تداوله اهل القرية المشاهدين للمحكمة ما قاله المهداوي على احد المتهمين من النظام الملكي الواقف في قفص الاتهام مخاطباً الجلوس ” أنظر لتلك البقرة كيف نمت من كالةٍ وكيف صارت قندره ” أنزعج المتهم ورد على الفور ” يسقط قاسم العراق يسقط المهداوي ” ضج الحضور بالضحك اخذ المهداوي بالطرق على المنضدة مخاطباً المتهم ” انچب طايح الحض اذا ما تسكت أكسّر راسك بهذا الجاكوج ” ورفع الجلسة .
قرية بهرز مكان سائد لشيوعي محافظة ديالى , تطور موضوع الصراع بين الشيوعين والقومين شمل كل مساحة العراق ومنها ديالى , قام الشيوعين بتنظيم مظاهرات واحتفالات يناصرون من خلالها ” الزعيم الاوحد عبد الكريم ” يرددون هتافات وشعارات وأغاني مثل ” ماكو مؤامرة اصير والحبال موجودة ” يقصدون سحل المعارضين وأيضاً ” جمال يا جمال يابو الدسايس بيش اتخوفنه بالبعث الخايس ” يقصدون الرئيس المصري جمال عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي و ” يلي تسأل على نوري صار بالمرحاض بوري وهذا بن كنّه إجانه زمال مربوط من أذانه صدك صايرلي وزير هل حقير ابن الحقير ” و ” نزيهة صارت بالحُكم موتو يبعثيّه ” بالمقابل كان المعارضين للزعيم عبد الكريم قاسم يتظاهرون ويرددون الهتافات والاغاني والاناشيد المضادّه منها ” نزيهه بالت علجسر وأتزحلك المهداوي ” يقصدون الوزيرة نزيهه الدليمي في وزارة عبد الكريم قاسم والمهداوي رئيس المحكمة التي حاكمت أعضاء النظام الملكي . ونزيهة الدليمي ناشطة شيوعية طبيبة أول وزيرة عراقية وعربية عُيّنت وزيرة للبلديات ومن ثم وزيرة بلا حقيبة . في نفس هذه الفوضى المعارضين للشيوعيين يمزقون كل لون احمر من ورق وقماش حتى بلغ الامر قيامهم بحرق باصات نقل الركاب الحكومية “باصات المصلحة ” كونها مصبوغة باللون الاحمر مما اضطر الدولة في ديالى بصبغها باللون الازرق تلا فياً للمشكلة , هذا الحال ادخل القرية في متاهات سياسة الانقلابات العسكرية ومشاكلها التي عمت العراق وأدت الى عدم استقراره .
مدير المدرسة الابتدائية الاستاذ نوري وزوجته مديرة مدرسة البنات كانا يحتفضان بصور للملك فيصل الثاني والملك غازي والوصي عبد ألأله خال الملك معلّقة في غرف ادارة المدرستين بأمر رسمي , طلب مناصري عبد الكريم قاسم رفع الصور وتمزيقها رفض مدير المدرسة حجته انه استلمها بكتاب رسمي وتعتبر ذمة لا يجوز التصرف بها الا بكتاب من دائرة الارتباط , قام مناصري الزعيم برفع الصور وتكسير زجاجها وتمزيقها ومحاولة ضرب المدير والاعتداء عليه أسرع المدير هارباً من الموقف بأتجاه مدرسة البنات الابتدائية لتحذير زوجته ورفع الصور المعلّقة في الادارة كي لا تمر بنفس الحال والثائرين يَجرون ورائه ِأعطاهم صور مدرسة البنات رغم ذلك قامو بضربهِ اضطر للجوء والدخول مستجيراً الى بيت ابو حاتم مدحت محمود العبدالله المجاور للمدرسة ” كدخيل ” طالباً الحماية وللدخيل شأن كبير عند اهل القرية كان ابوحاتم رجل معروف وله شأن ومحترم من قبل الجميع يهابونهُ ويحسبون حسابه , خرج على الثائرين حاملاً بندقيته نوع ” البَرنَو” في وضع التأهب لأطلاق النار متحزّم بنطاق عتاد البندقية ” مشلح الفشك ” واضع خنجره أمام صدره , طلب منهم الانصراف وعدم المساس بالمدير وزوجته لأنهم في حمايته , ” ذوله بحمايتي الي يندك بيهم ميلوم الا نفسه انتو لوما فاشلين وساقطين بدراستكم مچان سويتو هيچ بيه عيب عليكم يلّه كلمن إيروح إلحاله يلّه ” أذعنوا له وانصرفوا بعدها اصطحب المدير وزوجته واوصلهم الى دارهم في مركز المدينة بعقوبة . …. بعد ايام عمل المدير وليمة للذين أعتدوا عليه من اهل القرية لكسب رضاهم ودعى إمام وخطيب المسجد والمختار ووجهاء القرية حتى ينهي الموضوع ويتمكن من مزاولة عمله بأمان . تحدث ابو حاتم مخاطباً ومأنباً الشباب الذين أعتدوا على مدير المدرسة قائلاً ” أنتو شبلاكم وشراح إيفيدكم الزعيم هيَّ لك لك الملك هاشمي منكم وبيكم وأحنه باليوم خمس مرات إنكول اللهم صلي على محمد وآل محمد ونكتل بآل محمد سوو بيه مثل ماسوو بجدنه لحسين وحوبته عند الله جِبيره متروح بلاش ” كان يقصد قصة المثل المعروفة أن مجموعة من الحيوانات اخبرت الثعلب مبتهجين أن الشط قد فاض فرد عليهم لا فرق ان زاد الماء او قل فطريقة شربه واحدة ( لَك ) ” بعدها ساد القرية ما ساد العراق من قلق ومشاكل سياسية واجتماعية وامنية وأدخلَ مرغماً في غمار الحرب الباردة وصارشعارهم الذي تداولوه ” الخلف بالله على الراح وعلى الجاي ” ….
شكري وتقديري العالي لمن نشر المقال وقرأهُ وعلّق عليه واعجبَ به .. وألى لقاء قريب فيموضوع آخر إن شاء الله