18 ديسمبر، 2024 3:01 م

تونس و’الديمقراطية العاطفية’

تونس و’الديمقراطية العاطفية’

لا يمكن للبلاد أن تخرج من أزماتها الاجتماعية والاقتصادية في ظل هذه الديمقراطية العاطفية التي يراد بها تحقيق مصالح الأحزاب والمنتمين إليها قبل تحقيق العدالة الاجتماعية.

قد ثارت ثائرة الجهات في البلاد التونسية هذه الأيام فانطلقت الاحتجاجات والاعتصامات بصورة فيها من الاضطراب ما يذكّرُ بما عرفته البلاد من انفلات بعد أحداث ديسمبر 2010 ويناير 2011. والأسباب متعددة لكنها تتلخص في المطالبة بتغيير الوضع الاجتماعي وخاصة في المناطق الداخلية، في الشمال الغربي وفي الجنوب شرقيه وغربيه خاصة. ولا شك أن لهذه الجهات الحق في أن تطالب بتغيير وضعها فتنتقل من وضع المناطق “الريفية” التي تعاني من شظف العيش إلى وضع المناطق الحضرية التي تتمتع بمظاهر التحضر ورفه العيش. وليس وضع المناطق وحده هو الذي يثير الاحتجاجات بل هو وضع الأفراد أيضا وخاصة العاطلين عن العمل. فقد كان التفاوت بين الجهات طيلة نصف قرن على الأقل بعد الاستقلال السمة الغالبة على سياسة الدولة الاجتماعية، فكانت المدن الكبرى وخاصة المناطق الساحلية تزداد تقدما وتطورا بتركيز المشاريع التنموية الكبرى فيها وكانت المناطق الداخلية تزداد تخلفا نتيجة ضعف الاهتمام بالتنمية فيها.

وقد كان كثيرون من التونسيين في هذه المناطق يحمّلون الطبقات السياسية المتعاقبة مسؤولية ما يصيبهم لكن نمط الحكم في البلاد كان يفرض عليهم الرضا بالواقع؛ وكانت أي منطقة من تلك المناطق الداخلية إذا عُيـّن منها وزير في إحدى الحكومات تبتهج الابتهاج كله لأن في ذلك إيذانا بالاهتمام بها بتأثير من الوزير، لكن من تلك المناطق ما لم يُعيّن منها أي وزير في حكومات دولة الاستقلال المتعاقبة، فكانت معاناتها لذلك مضاعفة.

وقد اعتقد الناس سنة 2011 أنهم انتقلوا من مرحلة كانت فيها سياسة البلاد تفرض عليهم قبولَ التفاوت بين الجهات في التنمية وفي توزيع الثروات إلى مرحلة جديدة يستعيد فيها المهمّشُون في السابق ما كانوا قد فقدوه. لقد كان الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع هاتفين مطالبين بالشغل والكرامة يعتقدون أنهم سينالون ما كانوا قد حُرِمُوا منه من حقوق. وقد بشّرهم السياسيون منذ أوائل سنة 2011 بتحقيق الشعارات التي رفعوها وبالانتقال بهم من عهد القمع والدكتاتورية إلى عهد الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. على أن العدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا إذا تحققت الديمقراطية في المجتمع. ولكن الديمقراطية ديمقراطيتان: أولاهما ديمقراطية “عقلانية” تنسحب على السياسي الحاكم وعلى المسُوس معا: هي سلوك سياسي جماعي تضبط مساراتِه قوانينُ يتقيدُ الجميع بتطبيقها والخضوع لها، وتراقب تطبيقاتها هيئاتٌ دستورية تتصدى للمخالفات ولمرتكبيها، يدعمها قضاء مستقل استقلالا حقيقيا سواءٌ في سير الجهاز بعدم التدخل فيه أو في ضمائر القضاة بعدم ميلهم إلى أهوائهم. فإذا تحقّق ذلك انقاد رجل السياسة للسلوك الديمقراطي انقيادا وكان الحَكَـمُ بينه وبين الآخرين في المجتمع الخضوعَ للقانون. والديمقراطية الثانية ديمقراطية مفتعَلة نسميها “ديمقراطية عاطفية”، وهي التي يستجيب فيها السياسي الحاكم والمواطن المسوس معا لأهوائهما في سلوكهما السياسي. وهذا الشكل من الديمقراطية هو الذي يطبّقه التونسيون اليوم. والظواهر الدالة عليه كثيرة نخص منها بالذكر ثلاثا مؤثرة تأثيرا سلبيا بيّنا.

أولاها اكتشفها التونسيون أثناء حكومتي الترويكا. فقد أوصلت الأحداثُ ثم الانتخاباتُ الديمقراطية إلى السلطة جماعةً من الناس منهم من جاء إلى البلاد من الفجاج البعيدة ومنهم من خرج لتوّه من السجن. وقد أظهرت الجماعة من البداية من حبّ الذات والرغبة في الغنيمة والإخلافِ للوعود ما كان ذا عواقب كارثية على البلاد وعلى العباد معا مازالت آثارها قائمة إلى اليوم. وقد وصلت الجماعة إلى السلطة ديمقراطيّا لكن وصولها كان لأسباب عاطفية في المقام الأول. فقد صوتّت لها جهات بعينها بحكم العصبية الجهوية وإحياء لخلافات سياسية قديمة بين البورقيبية واليوسفية، وصوت لها أناس بعينهم بحكم العصبية المذهبية الدينية إحياء لوشائج قديمة قد تكونت في حلقات الدعاة بالمساجد والاجتماعات السرّية. وما إن وصلت الجماعة إلى السلطة حتى سارت فيها حسب هواها، فلم تفكر في البلاد ومشاكلها وفي مطالبات الناس وخاصة الشباب بالشغل ومطالبات الجهات بالتنمية بل فكرت في قادتها وأتباعها فكان لهم التوظيف وكانت لهم التعويضات على ما اعتبروه نضالا، وبقيت الوعود بالتنمية مجرد مشاريع على الورق. وكان هذا أول مظهر للديمقراطية العاطفية وأول خيبة للديمقراطية العقلانية في البلاد.

والظاهرة الثانية يمكن تسميتها “الآفة الحزبية”. فقد فُتِح البابُ واسعا منذ كانت الترويكا في السلطة لجماعات كثيرة قد تصغر وقد تكبر بتكوين الأحزاب، فكان “الانفجار الحزبي” الذي جعل عدد الأحزاب المسموح لها بالنشاط يتجاوز المئتين في شعب يبلغ عدد سكانه بضعة ملايين. ومازال الانفجار متواصلا لأننا ما ننفك نسمع ونقرأ أن فلانا الفلاني الذي كان شبه نكرة قبل يناير 2011 يُعِدُّ العدة لتكوين حزب جديد. ووراء هذا الانفجار غايات ذات منطلقات عاطفية محض، أهمها اثنتان:

الأولى وهي الأظهر هي حبّ الزعامة والجري وراء كرسي الحكم. وكل من تخيّلُ له نفسُه أنه سياسيّ عبقريّ ينتابه الطموح وتركبه الرغبة في القيادة ويسعى إلى تكوين حزب جديد. ولو عجنتَ البرامج التي أعلنتها الأحزاب التي تكونت جميعا وأمعنتَ النظر في المبادئ الفكرية والمذهبية التي تقوم عليها لما وجدتَ أكثر من ستِّ نزعات أو سبْع تجمعها ثلاثة اتجاهات كبرى يمكن أن تمثل خيارات للمواطن يَقْصدُ من أجلها صناديقَ الاقتراع: يسارٌ ويمينٌ ووسطٌ، ويمكن لليمين أن يكون منه محافظ معتدل وأن يكون منه أيديولوجي متطرف، كما يمكن لليسار أن يكون منه حداثي معتدل وأن يكون منه أيديولوجي متطرف؛ وأما الوسط فقد يكون منه وسط إلى اليمين أميلَ ووسط إلى اليسار أميلَ، ولكنها جميعا تنويعات خفيفة لا تدل على اختلافات جوهرية بين أصحاب الاتجاهات في ما بينهم.

والغاية الثانية خفية، وقد كانت فيما يبدو لنا من مقاصد الجماعة الإسلامية. فهي تعلم منذ وصلت إلى السلطة أنها الجماعة السياسية الوحيدة المنظمة المخضعة لمبادئ سلوكية صارمة تنظم علاقة السائس بالمسوس وتحميها من تصدّع الصفّ، وهي لذلك مطمئنة على إخلاص أتباعها لها، وهو إخلاص لا تتصوره موجودا في بقية الأحزاب، وقد أثبتت التجربة في السنوات الخمس الماضية أنها على حقّ في تصوّرها. وليس ما عُرِفَ بـ”السياحة الحزبية” في المجلس التأسيسي ثم في مجلس النواب وما ارتبط به من تجارة بالأصوات إلاّ دليل على ذلك، وهذه السياحة تُعَدُّ من أكبر الأدلة أيضا على غلبة الفهم العاطفي للديمقراطية لدى المتحزبين. ومثل هذا الوضع يساعد الجماعة على تصدر نتائج الانتخابات بكل أنواعها وفي كل المناسبات، إذ كلما كثرت الأحزاب تشتت توزيع الأصوات عليها وقلت حظوظها من الفوز بالمراتب الأولى.

والظاهرة الثالثة يمكن تسميتها “المعارضة المراهقة”. فإن من ميزات المعارضة في المجتمعات التي تمارس فيها الديمقراطية العقلانية أن تعترض على اختيارات الأغلبية الحزبية الحاكمة إذا هي خالفت توجهاتها؛ وقد تتدخل تدخلات إيجابية بناءة لتعديل برامج أو مخططات أو مشاريع تعرضها تلك الأغلبية وتريد تنفيذها. فهذه معارضة دستورية ناضجة تدافع عن توجهاتها الفكرية وعن مصالح المنتمين إلى أحزابها دون أن تسقط في الغوغائية. أما المعارضة عندنا فهي معارضة عاطفية مازالت في معظمها سجينة لتصوراتها ومواقفها أيام كان القائمون بها شبابا طالبيّا في أروقة الجامعة. فهي تعارض السلطة الحاكمة معارضة مطلقة، ومعارضتها المطلقة تبيح لها أن تسب رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيا ورئيس الحكومة مثلا وأن تقذع لهما القول علنا كما رأى الناس ذلك أخيرا في مشهد ناقد لرئيس الحكومة دال على مراهقة سياسية حقيقية؛ ومعارضتها المطلقة تسمح لها أيضا بأن تشجع على عصيان السلطة وأن تحرض عليها المتظاهرين والمحتجين مهما تكن غاياتهم ومهما تختلف انتماءاتهم بل تسمح لها بأن تدعو إلى تقسيم البلاد ترابيّا! ومن أغرب ما رأينا هذه الأيام أتباعُ حزب شريك في الائتلاف الحاكم يشاركون في الاحتجاجات بتطاوين ويرفعون شعار رابعة الإخواني معبرين عن موقف عاطفي خالص، خلافا لما يفرضه عليهم التزام حزبهم بالاختيارات التي شارك الحكومة في إقرارها؛ بل رأينا الحزب الذي يعتبر نفسه أغلبيّا يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال في مواقفه من الحكومة ومن رئيسها الذي ينتمي إلى الحزب نفسه، تدفع المسؤولين عنه في كل ذلك عواطفُهم السياسية لأنهم لم يجدوا من رئيس الحكومة ما كانوا يطمحون إليه من تلبية لرغباتهم؛ وهم مستعدون لتنحيته من منصبه مثلما نجحوا في تنحية رئيس الحكومة السابق لأنه كان عصيّا عليهم في بعض ما أرادوه منه.

ولا يمكن للبلاد أن تخرج من أزماتها الاجتماعية والاقتصادية في ظل هذه الديمقراطية العاطفية التي يراد بها تحقيق مصالح الأحزاب والمنتمين إليها قبل تحقيق العدالة الاجتماعية.
نقلا عن العرب