15 نوفمبر، 2024 4:57 م
Search
Close this search box.

المثل الحقّ .. تفسير الموقف السياسي للسيد السيستاني

المثل الحقّ .. تفسير الموقف السياسي للسيد السيستاني

( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، هذه الآية من القران الكريم كانت دستور القيادة الربانية لدى الشيعة المحمدية الامامية طيلة الفترة الزمنية التي كان للإمام المعصوم من ال محمد عليهم السلام وجود ظاهريّ فيها . حيث يكون ( الامام ) قائداً دينياً ودنيوياً ، بالجعل الالهي ، وليس للأمة الّا الطاعة والتولّي ، ولا يمكن أنْ يجعل الله هذا المقام لظالم أبدا.

فَلَمَّا غاب المعصوم الرابع عشر – بظلم الناس – انتقل الامامية الى القيادة المرجعية النائبة ، حيث يختارون للدين والدنيا – انبسطت اليد ام لم تنبسط – من هو صائن لدينه من الفقهاء ، طائع لامر مولاه الحقّ ، مجانب لهواه.

حَتَّى طال العهد واشتدّ الظلم على الناس ، كما صار لهذا المقام عظيمَ شأنٍ ، واحتاج الى بعض عونه الظلمة ، انعزل قوم ، وسعى اليه – زوراً – اخرون . وبين تلك وتلك غلب عليه – بعد النطق – الصمت ، وعلته – بعد الربانية – الشأنية ، فصار بعض شخوصه سائراً في العموم ، لا مُسيّراً لهم ، او مهذّباً لسيرهم في أقلّ التقادير.

فكان لزاماً بعد قرون من الظلم والظلامات أنْ تصير نخبة أهل الوعي الى الإصلاح ، والعودة الى جادّة العصمة ، باتّباع اثر المعصوم ، لجعل الفقيه نائباً للامام في زمن غيبته ، قائماً بوظائفه وأمره ، لا وكيلاً للمال وحسب . وحين كانت المرجعية الدينية تخضع لرأي أهل الخبرة والمعرفة من خاصّة الشيعة اختلفت مصاديقها باختلاف أهل الرأي وعقولهم . ولاحقاً – حين تداخل المشروعان الصفويّ والبريطاني – تلوّثت النفوس ، ولم يعد الكثير من أهل الخبرة يملكون الورع الكافي للإنصاف ، حيث انفصل العلم عن العمل . ومن ثمّ ظهرت مرجعيات لو احسنا الظنّ بها لرأيْناها تخشى العوام ، ولا تصلح لهذا المقام . وعلى اثر ذلك الاختلاف في الفكرة والنية كان لابدّ من التشتت والشتات ، فاهتضمت الحقوق وابتلي الشيعة وزلزلوا زلزالاً عظيما.

فنهض أهل الإصلاح والصلاح من ورثة الأئمة وعماد الأمة ، وعملوا على اعادة الامر الى نصابه القيمومي الامامي ، للوحدة والتوحيد ، فرعاً عن توحيد الربوبية ، فكانت منهم نظرية ( ولاية الفقيه ).

ولبيان هذه النظرية يمكن الرجوع الى مباحث الفقهاء الذين قالوا بها ، مثل السيد الخميني ، ومثل الشهيدين الصدرين . وهم قد سعوا من اجل البرهنة والاحتجاج لإقامتها بما لا يجوز تناوله في اسطر.

لكنّ السبيل الاخر الذي عليه جملة من فقهاء الامامية وعلمائهم كان متمثّلاً في الاقتصار على مقام ( المرجعية ) ، والتي تلتزم الفتيا ، لا الحاكمية . مع اتفاق أهل النظريتين على ضرورة الرجوع الى الفقهاء العدول في امر الدنيا وأمر الآخرة ، وعدم جواز الاحتكام الى أهل الظلم من السلاطين ومدارسهم السياسية والفكرية.

غير انّ عنواناً غريباً ظهر في نهايات القرن العشرين الميلادي ، لا يمتّ الى ولاية الفقيه ، ولا يقتصر على المرجعية ، كان هو ( المرجع الأعلى ) . وقد سبقه في الظهور – تمهيداً له – عنوان ( زعيم الحوزة العلمية ) وهما لا شكّ عنوانان يبحثان عن ( مزايا الولي الفقيه ) من الطاعة والحاكمية ، ويهربان من ( مسؤولية قيادة الأمة ) نحو سبيل الرشاد ، بالجد والاجتهاد والتضحية . لذلك يمكننا القول – بضرس قاطع – أنهما وضعا للالتفاف والتمويه ، حيث ثبوت الحاجة الى حاكمية الولي الفقيه ، وهذا ما أثبتته التجارب العراقية والايرانية واللبنانية لاحقاً ، في الوقت الذي خشي أولئك الفقهاء على حياتهم ، حيث يستلزم القول بولاية الفقيه المواجهة مع الطواغيت في التقدير الأعلى ، وإصلاح المجتمع بعملية ومشروع واضح في الحد الأدنى.

وإذا كان أولئك الفقهاء الذين لا يستطيعون مجابهة المجتمع في انحرافه ، ويفتون بتقوائية اجتماعية تتجنب اثارة الناس ضدهم ، فيصمتون ، او يدورون حول الشأن المنحرف دوران المضروب في رأسه بآلة جارحة في فتياهم ، فهم أقلّ استطاعة عند تعلّق الامر بالسعي في إقامة حاكمية الله وسنّ قوانين الشرع ، حيث يواجهون الظلمة والمفسدين.

ولقد كانت هذه العناوين مثل ( زعيم الحوزة العلمية ) و ( المرجع الأعلى ) وليدة الحاجة السياسية لبعض الجهات الاسلاموية المعارضة، إبّان حكم طواغيت البعث ، وبعد الاحتلال الامريكي للعراق في ٢٠٠٣ م. حيث انهم يؤمنون بالولاية الفقهية في جمهورية ايران الاسلامية ، وبذلك هم يقولون بنظرية ولاية الفقيه ، لكنّهم في الوقت ذاته مضطرون للتعامل مع المرجعيات الكلاسيكية التقليدية صاحبة الدرس فقط في العراق ، والتي لا تؤمن بالعمل السياسي ، ليواجهوا بها المرجعيات العراقية القائلة بولاية الفقيه ، والتي يَرَوْن انها احقّ منهم في قيادة الشعب العراقي ، بل العالم الاسلامي ، نحو سبيل ال محمد والنجاة في الدنيا والاخرة . ومن هذه المرجعيات العراقية التي وقف ضدها قادة هذه الجهات الفئوية كان أولئك الناشئين في المدرسة الصدرية العظيمة . فابتكر أولئك الحزبيون عنوان ( زعيم الحوزة العلمية ) ، لتعظيم شأن ( السيد الخوئي ) سياسياً ، مع احترامنا لشأنه العلمي العظيم فعلا ، لكنّه ما كان أبداً كفواً ليقود الأمة زعامة وولاية . ثمّ اخترعوا

للسيد ( السيستاني ) عنواناً آخراً ، اكثر حداثة ، وأقرب الى مفهوم الولي الفقيه ، هو ( المرجع الأعلى ) . ليرتكبوا بذلك جناية علمية وعقائدية واجتماعية وسياسية ، لا ارى انّ الله تعالى سيغفرها لهم.

وهذه العناوين الملتفة لم تكن قائمة على أساس شرعي روائي عن المعصوم عليه السلام ، كما هو الحال مع عنواني ( المرجعية ) و ( الولي الفقيه ) . وليست تقوم على ترجيحات عقلية مقبولة ، حيث سيكون لازم الترجيحات العقلية القول بولاية الفقيه رأسا . بل هي فقط ( نص إعلامي ) باطل.

لكنّ هذه العناوين كانت مناسبة للّاعبين الدوليين والمحليين الكبار في العراق حين تمّ طرح هذه العناوين . فسلطان ( البعث ) الطاغوتي كان يرى في نفخ شكل هذه المرجعيات التقليدية ( جدار صدّ ) داخلي لدى الشيعة لمواجهة أيّ تحرك معارض اجتماعيا وحوزويا ، قد تقوده المدرسة الصدرية الولائية ، وبذلك ستستطيع هذه العناوين الرائجة سرقة الاضواء من المرجعيات الفاعلة والعاملة ، وبصمتها يصمت الشعب . امّا الأمريكان والغرب عموماً فكانوا يعدّون لمشروع تغريبي وتخريبي ، يفضي الى التقسيم والوهن والتمزّق في العراق ، ولن تعي خطواته الّا المرجعيات الرسالية ، كما هي المدرسة الصدرية ، التي يمكنها ان تقود الناس وتزيدهم وعيا ، لذلك كان من المناسب جداً وجود بدائل غير صالحة للعمل السياسي بتاتا ، الّا بنحو إعلامي ظاهري . فيما كانت الجمهورية الاسلامية في ايران تخشى من ظهور عناوين ولائية تنافس مقام الوليّ الفقيه في ايران . لكنّ الواقع انّ الجمهورية الاسلامية قد تمّ خداعها من قبل ( عائلة اميرية تلبس لباس الدين ) ، لعبت بمقدرات المعارضة العراقية ، لتعود من ثمّ للعب بمقدرات الشعب العراقي.

وإذا كان افتقاد هذه العناوين علمياً وواقعاً لمستند شرعي إسلامي يوجب أنْ تُوجِد لها مستنداً عملياً يدعمها اجتماعيا ، فالغريب انّ أولئك الحاملين لهذه الألقاب كانوا من أهمّ العقبات في طريق حملة رسالة الأنبياء من المراجع الإصلاحيين . فهم وَإِنْ اخذوا ما ليس لهم ، لكنّ حواشيهم لم تكتفِ بذلك ، بل راحت تهاجم كلّ مصلح ، وبأسم الدين ! . ومن ذلك المنطلق اصبح ( الصمت ) مقدساً ، بعد أنْ كان عيبا . وصار الشعب العراقي الثائر لقرون متطاولة يرى الثورة خروجاً على الدين والعقيدة.

لم تكن هذه العناوين قد أخذت شرعيتها من نص معصوم ، كما انها لم تسر بمبدأ ( الشورى ) حتى ، حيث يجتمع على تسميتها مجموعة من الفقهاء ، وبذلك هي خارجة على النصوص الشرعية للمدرستين الشيعية والسنية ، وليست سوى صدى لرغبة لا علنية لبعض النفوس في اعادة ظاهرة ( تقديس الإمبراطور ) .

ولو كانت هذه الزعامات قد اكتفت بالانعزال عن العملين الاجتماعي والسياسي – وهو مبناها النظري – لكان الامر يهون – من احدى جهاته – ، لكنها كانت تتصدى

مزاجياً ، ودون مشروع واضح المعالم ، بما يعيق عمل غيرها من المرجعيات الرسالية.

فحين كان لزاماً عليها نصرة المشروع الاصلاحي الصدري في السبعينات او التسعينات من القرن العشرين ، كانت تشيع حرمة ذلك المسلك النهضوي ضمنياً ، او مباشرة . وحين توجّب أنْ تتدخل في الشأن السياسي والثقافي بعد سقوط الصنم الطاغوتي بعد ٢٠٠٣ م ، فضّلت الصمت السلبي ، الخانق لمشاريع غيرها ، بل كانت تتدخل بطريقة تعيق سنّ القوانين الاسلامية ، بنحو غريب ، وذلك حين تجيب السائل ( المغرض ) عن شرعية إيجاد تلك القوانين بما يفهم منه القارئ انها ضد تلك القوانين ، او انّ الظرف والزمن غير مناسبين . حتى تفشّى الفجور والخيانة ، بما هو اعظم من قبل. ولستُ ارى انّ ( ظرفهم ) سيكون مناسباً الّا حين يظهر الامام الحجة عليه السلام ، وهو بعد ذلك سيكون له معهم شأن اخر.

وما أراه من خلال قراءة تاريخ مواقف هذه المرجعيات المعنونة انها تسعى لتكريس ( العلمانية ) في العراق ، وهذا ما تبناه احد وكلاء المرجعية – الشيخ حسين ال ياسين – فعلاً في احدى محاضراته ، من كون ( السيد السيستاني ) لا يريد قيام دولة دينية في العراق . ولستُ ادري هل هناك تفصيل سياسي أعمق من هذا الموقف الذي هو في صميم جوهرها ، والذي عمل على ترسيخه السيد السيستاني ومكتبه ، لكن بالسلب من الموقف الشرعي الصحيح ، ليأتينا البعض ويدعي انّ ( السيد ) لا يتبنى العمل السياسي ! . لكن يبدو أنّهم كانوا على الدوام يستغلون المستوى المنخفض للوعي التحليلي والتفكيكي والسياسي والديني الشرعي لدى الشارع العراقي ، الذي أنتجته سياسات البعث الطاغوتي الممنهجة ضد العقل السومري الشيعي ، والذي ساهم في تمرير هكذا مواقف تستند الى الالتواء . فالشعب العراقي الذي ذهب الى باب المرجعية يسألها دعمه للمطالبة بالاصلاحات واستنقاذ شيء من حقوقه المستلبة غفل تماماً انّ هذه المرجعية لو كانت جزءاً من الإصلاح لما تمت ( جولات التراخيص ) سيئة الصيت تحت ناظرها وبمساهمة من جائت بهم من رجالاتها.

بل يمكننا أنْ نقول – بعد التسامح الذي ابداه بعض أبناء الأديان والطوائف والأيدولوجيات الاخرى تجاه سنّ القوانين الاسلامية بمستوى معين ، وقد رفضت هذه المرجعيات ان تكون بمستوى تسامح هؤلاء امام تلك القوانين – انّ هذه المرجعيات تكرِّس واقعاً ( أتاتوركية دينية ) هجينة وغريبة في عراق الحسين وعلي والانبياء والصحابة والتابعين.

انّ الموقف الأخير لمرجعية السيد السيستاني الذي أعلنه وكيله من على منبر جمعة كربلاء من تخلي السيد عن الخطبة السياسية ليس غريباً على فهمي ، ولستُ أراه خلاف السياق المتوقع ، بل هو تتمة لمشروع ( محو العراق وزرع اخر ) ،

الذي كان على مراحل ، ووظائف ، منها ( التجهيل ) و ( التدجين ) ، ومن ثم ( التخويف ) ، و ( التجويع ) ، والآن ( الفوضى ) و ( كشف الظهر) .

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات