17 نوفمبر، 2024 9:22 م
Search
Close this search box.

هل يحدد الحشد الشعبي مستقبل العراق السياسي

هل يحدد الحشد الشعبي مستقبل العراق السياسي

قصة الحشد الشعبي ستكون عنوان الصراعات في العراق في الأيام المقبلة، ونتمنى ألا تتحول إلى صراعات عسكرية خصوصا في ظل الانفلات الأمني والسلاح الهائل خارج نطاق الدولة.

لم يعد الحشد الشعبي في العراق وفصائله وتنظيماته قضية خلافية ما بين الأحزاب الشيعية والسنية داخل العملية السياسية، بل أصبح ذا أهمية سياسية ترتبط بالشأن العام المرتبك منذ سنوات، وعسكرية بسبب مهماته القتالية بعد فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها علي السيستاني في الثالث عشر من يونيو من العام 2014 بعد الاحتلال الداعشي المدبّر للموصل ومحافظات الأنبار وصلاح الدين وجزء من كركوك، رغم أن كثيرين يتوقعون أن تلك الفتوى بدوافعها وحاجتها التعبوية المباشرة ستنتهي بعد انتهاء قتال تنظيم داعش، وخصوصا بين أبناء مكون طائفي يخضع وينفذ تعليمات المرجع الشيعي الأعلى.

لا شك أن تلك الفتوى الشيعية خدمت قضية كل العراقيين في حربهم ضد تنظيم داعش، لكن بعد انتهاء هذه الحرب ستصبح قضية الحشد الشعبي واحدة من أهم علامات المشاكل والصراع السياسي ليس مع المكّون السني وإنما داخل المكون الشيعي نفسه، في ظل ظروف سياسية داخلية وإقليمية بالغة التعقيد في ما بعد داعش، أهمها التحولات الإستراتيجية للإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، حيث أن الأحزاب الكبيرة التي تدير السلطة حاليا لم تقدم لا لجمهورها، ولا لبقية الشعب العراقي رؤية سياسية وطنية واضحة وإجابات لاستحقاقات كثيرة في المرحلة المقبلة، التي من السذاجة أن تعيد فيها تلك الأحزاب نظرية المحاصصة الطائفية التي قدمت تجربة سياسية سيئة خلال أربعة عشرة عاما ما بين احتلال عسكري أميركي جثم على شعب العراق لثماني سنوات عجاف وبدعم من تلك الأحزاب أو معظمها، وثلاث سنوات من احتلال تنظيم متطرف لثلث أرض العراق، أضاف مآسي وكوارث استهدفت المحافظات العراقية الموصوفة بالمناطق السنية وهي جزء حيوي للعراق العربي.

لقد أدارت القوات المسلحة النظامية المهمات القتالية بجدارة لإزالة ذلك الوشم الأسود الـذي لحق بهـا في الهـزيمة العسكرية أمام فلول المئات من المتطرفين الذين اجتاحوا الجزء الشمالي الغربي من أرض العراق، إلى جانب مقاتلي الحشد الشعبي من أبناء الوسط والجنوب الذين اختلطت دماؤهم مع دماء أبناء الحشد العشائري لغرب العراق.

وهنا تصبح قصة التوظيف السياسي لتلك المعـركة الـوطنية من قبل قادة الحشد الشعبي هي ما يشغل بال عموم العراقيين، قبل الأحزاب الكبيرة القلقة على مستقبلها.

ويبدو أن هذا الارتباك السياسي العام قبيل نهاية تنظيم داعش قد دفع الأكراد لاستثماره لتقريب زمن الـذهاب إلى الانفصال عن العراق بـ“دويلة كردية” لا مستقبل واضحا لها في محيطها الإقليمي الرافض، ولن يعينها على الاستمرار في ذلك ما حصلت عليه من دعم دولي أميركي مرحلي غير موثوق به.

لا نريد الاستغراق في تفصيلات التسريبات الإعلامية الكثيرة التي يتم تداولها حاليا ولها علاقة بالموقف الأميركي المباشر من سياسة إيران في المنطقة، ومن مستقبل الوضع السياسي في العراق، وهي تسريبات غالبها ينطلق من احتمالات تغيير التركيبة السياسية الحاكمة في العراق، وقد يكون بعض هذه التسريبات يتم بسبب ضخامة الأزمة الشاملة التي حصلت في البلد، وفشل تلك الأحزاب في إدارة الحكم.

ومن بين تلك التسريبات ما يقال عن ضغط إدارة ترامب على حكومة حيدر العبادي باتخاذ إجراءات تبعد الهيمنة الإيرانية عن العراق ومن بينها حل فصائل الحشد الشعبي، وأعتقد أنه حتى لو صدقت تلك التسريبات لا يتوقع فرض الإدارة الأميركية قرار حل الحشد حيث سبق لتلك الفصائل أن تلقت دعما لوجستيا من القوات الأميركية المتواجدة بالموصل.

كما أن رئيس الحكومة العبادي لن يقدم على مثل هذا القرار مثلما صرّح بعد عودته من واشنطن، لكنه قد يسعى لإعادة تركيب الهيكل التنظيمي القيادي وفق القرار الذي اتخذه البرلمان.

مع ذلك فإن الأيام المقبلة ستشهد تحولات جدّية في الوضع العراقي من قبل إدارة ترامب في ظل غياب القدرة السياسية للأحزاب والفعاليات السياسية العراقية، وعدم الوضوح والانقياد إلى المواقف التعبوية والمتطرفة في بعض الأحيان، مما يغيّب التعامل الجدي والناضج والبعيد عن المصالح الحزبية الضيقة إزاء ما سيحصل في ظل هيمنة القرار الخارجي على الشأن العراقي، وأصرت تلك الأحزاب على عدم فتح فضاء المشاركة السياسية الواسعة لأطياف سياسية مهمة لم تتورط باللعبة الطائفية واعتقدت ومازالت تعتقد أن الحل الحقيقي هو في خيار المشروع الوطني العابر للطائفية.

ويبدو أن التأثير اللوجستي الأميركي الأخير في شؤون كل من سوريا والعراق في الحرب على داعش قد عجّل بردود فعل لدى بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، تبدو بعضها مرتبكة ومرتبطة بالموقف الإيراني من سياسة ترامب بعد إعلاناته المتواصلة لتحجيم دورها في العراق والمنطقة، ويفسر البعض هذه المواقف بأنها واحدة من أساليب الضغط التي تمتلكها القيادة الإيرانية معتقدة بأنها ستربك المخططات الأميركية معيدة بذلك الخطة الإيرانية السابقة حين ورطت أميركا في المستنقع العراقي مما أفشل مشروعها التوسعي لما سمي بـ“الشرق الأوسط الكبير” انطلاقا من عراق ما بعد 2003.

إلا أن هناك فصائل أخرى داخل الحشد نفسه بعيدة عن ذلك الارتهان أو لديها الاستعدادات للخروج من الانقيـاد للمواقف الخارجية، ومن المحتمل أن تستجيب لرؤى ومواقف أحزاب داخل العملية السياسية تعتقد أنها حريصة على عدم فقدان حضورها الذي اكتسبته داخل الوسط الشيعي خلال السنوات الماضية، ومن الممكن توظيف قدرات بعض تلك الفصائل في مرحلة الانتخابات في العـام المقبل، مع أنها مبكرة كقيام بعض مسؤولي قيادات الحشد بنشاطات سياسية وإعلامية داخل المؤسسات المدنية كالجامعات للترويج السياسي للحشد لدعم أدوارها الانتخابية المستقبلية، وهو ما أثار ردود أفعال تدعو إلى ضرورة إبعاد الجامعات عن التدخل المبـاشر، وهناك تنظيمات طلابية مهنية قادرة على التعبير السياسي الديمقراطي.

هناك عنصران أساسيان في فعالية الحشد الشعبي التي أصبحت مهمة في تحديد معالم العملية السياسية ذات جوانب تنظيمية وأيديولوجية. وكلاهما تثيران الكثير من الإشكاليات في القضية العراقية.

الجانب الأيديولوجي يرتبط بالإسلام السياسي الذي أصبحت تحوم حوله الشبهات من قبل إدارة ترامب الذي أعلن، صراحة، حربه عليه بطرائق وأساليب لا تتحدد في المجالات الجغرافية والزمنية لداعش، وإنما خارجها سواء في العراق أو المنطقة.

وهذا مما يثير القلق لدى الأحزاب الدينية في العراق والتي لا تستطيع التخلي عن خصوصياتها الأيديولوجية، ولا يمكنها الإعـلان بأنها ليست هي الحـاكمة في العراق.

مثلا معروف الإطار الأيديولوجي الديني لحزب الدعوة، بغض النظر عما يعتقده من مناهج خاصة قد تميزه عن ولاية الفقيه في إيران، إضافة إلى ما هو معروف حول الشعار الإسلامي الشيعي المعتدل لكل من مجلس الحكيم وتيار مقتدى الصدر، ولهذا لا يمكن استبعاد المحتوى الأيديولوجي الإسـلامي لدى فصـائل الحشد، بـل إن بعضها يعلن صراحة ارتباطه الصميم بمرجعية بـولاية الفقيه في طهـران، إلى جانب البعض الآخر المـرتبط بمرجعية السيستاني بالنجف، وهذه المنطلقات العقائدية هي التي تدفع بعض قيادات الحشد إلى شن حملة إعلامية ضـد أميركا وبأنها في حـرب معهـا على أرض العراق في ردود أفعال استباقية للمواقف والإجراءات الأميركية المقبلة، رغم أن الأميركان في الأيام الحالية يقودون تحالفا عسكريا يدافع عن العراق ويدعمه ويعمل على انتصاره على تنظيم داعش.

هذه المواقف الانفعالية من بعض مسؤولي فصائل الحشد الشعبي تحرج كثيرا واجهة الأحزاب والفصائل الإسلامية الشيعية المتمثلة برئيس الوزراء حيدر العبادي الملتزم بمنطلقاته الأيديولوجية الإسلامية، لكنه يشعر بأنه قادر على وضع مسافة تمكنه من عدم استفزاز الأميركان “الجدد”، أو ما يقال عن استجابته لمتطلباتهم في العراق.

في ما يتصل بالجـانب التنظيمي البنيـوي المؤثر في الحقل السياسي، فإن القدرات التنظيمية التي اكتسبتها الفصائل الكبيرة في الحشد، مثل تنظيم بدر وعصائب أهل وسرايا السلام، ستنتقل من ساحات القتال إلى ساحات الصراع والتنافس السياسي الذي سيتصاعد تدريجيـا، وهنـا تكمن مواقع الخطر السياسي على مكانة تلك الأحزاب التقليدية، فالشعار المستقبلي سيكون “من قدّم الدماء هو الـذي يستحق جـدارة الصـدارة في المشهد السياسي المقبل”.

ولهذا نلاحظ التناقضات والتقلبات في المواقف العلنية النقدية ضد الحشد الشعبي، والمطـالبة بحله في المرحلة المقبلة، ثم التراجع عن تلك المواقف، خصوصا لدى مقتدى الصدر أو رئيس الوزراء حيدر العبادي.

وفي تقديري فإن قصة الحشد الشعبي ستكون عنوان الصراعات في العراق في الأيام المقبلة، ونتمنى ألا تتحول إلى احتكاكات وصراعات عسكرية خصوصا في ظل الانفلات الأمني والسلاح الهائل خارج نطاق الدولة.

وهنا تبرز أهمية وجود حكومة عراقية قوية صارمة وقادرة على فرض القانون، وعلى منع حصول ما يزيد من آلام العراقيين الذين تعبوا من الحروب والتجييش.
نقلا عن العرب

أحدث المقالات