تتميز منطقة الشرق الأوسط, بوجود تنوع ثقافي وديني وطائفي وإثني, نابع من وجود جذور بشرية وحضارية, ضاربة في عمق التأريخ لهذه المنطقة, مع وجود ديانات سماوية متعددة, جعل منها ساحة مكتظة بالأفكار الدينية, ساعدها وجود خزين بشري هائل, متمسك بهذه الأفكار التي أصبحت تمثل عقائد, انطبعت بها أنثروبولوجية تلك المجتمعات.
التطور العلمي والتقني والفكري (الحضاري), الذي وصل إلى أعلى مستوياته في القرن العشرين والواحد والعشرين, ونجح في خلق مفاهيم المدنية الحديثة, والمجتمع المدني الداعي إلى الإيمان بالحياة السلمية والتعددية الدينية؛ خلق منظومات فكرية (إنسانية), مثلت منافسا شديدا لأدبيات الفكر الديني, المسيطر بأدبياته الولائية (الاتباعية), بل وبدأت عند دخول العالم القرن الواحد والعشرين, تتحول إلى ثورة (سيكولوجية) مضمرة ضد التقيد الديني, عملت قيم القوى الكبرى (القيم الأمريكية أنموذجا), على تأصيلها وزرعها في نفوس الأجيال الناشئة!
لم يكن لهذه التحولات الجوهرية, أثرا هينا وبسيطا لدى أوساط الإسلام السياسي, بل أن ردات الفعل بدأت تظهر وبشكل متسارع في المنطقة, في محاولة لجعل مفهوم التقدم, في أساسه إسلاميا دينيا, فظهرت العديد من الأطروحات والمدارس التي تمثل الإسلام السياسي, أهمها المدرسة التي تؤمن بإقامة دولة الخلافة, من خلال خلق حالة انقطاع تام وكامل, بالضد من حالة التطور والتقدم الحضاري, والتي كانت تسير بسرعة جنونية, جارفة معها كل القيم والمبادئ الأخلاقية, كظهور مفاهيم العلمنة واللبرلة؛ فكانت ردة فعل المدرسة السلفية, تمثل انعكاسا روحيا ذاتيا (سلبيا) وإنكفاءا ونكوصا نحو الماضي.
المدرسة الأخرى, حاولت أن تمازج بين ما لديها من إشراقات إنسانية دينية, وخطاب يدعو إلى التسامح, مع ما هو موجود في المنتج الغربي؛ ولكنها تبنت مع ذلك, حالة الرجوع والانقطاع عن الحاضر, بل وجعلت من زرع قيم (الحرب المستمرة) ضد الشيطان الأكبر, منهجا ممارساتيا استراتيجيا مستمرا, في تعاطيها مع مفهوم الحكم, فنجدها تسعى دوما إلى عسكرة المجتمعات, ومحاولة خلق عدو وهمي (يتمثل عادة بالغرب), لمحاولة إعادة الشحن الروحي والعاطفي (الوجداني), لشعوب المنطقة الإسلامية.
كان للولايات المتحدة دورا كبيرا في التعاطي مع هذه المدارس, في محاولة منها لقص أجنحتها, وزرع نموذج القيم الغربية (الأمريكية تحديدا), فكانت تشتغل وبقوة وعلى مدى عقد من الزمن, على دعم بعض المجموعات الصغيرة – بإعتراف ديفيد شينكر, في مقاله الموسوم بــ: ما بعد الإسلاميين والمستبدين: آفاق الإصلاح السياسي ما بعد الربيع العربي- المؤمنة بالفكر العلماني الغربي, المعادي للدين ولمفهوم الإسلام السياسي, في محاولة منها لخلق بديل عن الإسلام السياسي, يكون مقنعا لدى شعوب هذه المنطقة, وتزامن ذلك مع ما عرف بـ (الربيع العربي), والذي كان مخيبا لآمال الغرب, حين تمكن الإسلام السياسي المتشدد (الوهابي والأخواني), من مسك زمام الحكم في عدد من الدول.
كان لظهور مدرسة الإمام السيستاني, المؤمنة بفكرة إقامة دولة عصرية, تؤمن بالقيم الإسلامية وتحترمها كثوابت, وتؤمن بالتسامح, وتنبذ العنف (السياسي- والديني: الطائفي) بكل أشكاله, مثل صدمة حقيقية لدى القوى الغربية؛ السيد السيستاني, بإظهاره نموذجا من التعاطي السياسي والفكري الديني, يؤمن بالأخوية بين
المسلمين, أو النظائِرية بين الخلق, قد حطم أكذوبة الغرب, التي ذهبت إلى أن الدين الإسلامي, هو دين قائم على القتل والقتال والعسكرة المستمرة, في محاولة منهم لتشويه مفهوم الجهاد في سبيل الله!
البديل عن الإسلام السياسي (ألعنفي) موجود في العراق, في نظرية سياسية جديدة وفاعلة, تؤمن في ظاهرها بإقامة الدولة العصرية العادلة, وحقيقتها تؤمن بالمدنية المساواتية والتسامحية والإيمان بالتعدد الديني والطائفي واحترامه, وهي امتداد, بل ومحاولة تطبيق عملية لأطروحة السيد السيستاني في الحكم؛ لذا نجد أصحابها والقائمين عليها, في كل خطاباتهم ولقاءاتهم ودعواتهم, يدعون إلى السلم والتسامح ونبذ العنف, والسعي لبناء دولة تحقق الرفاه والاستقرار للمواطن.
*ماجستير فكر سياسي أمريكي معاصر- باحث مهتم بالأيديولوجيات السياسية المعاصرة.