يؤكد مؤلف الكتاب (قراءة آرامية وسريانية للقرآن) انه وضع جانبا كل النظريات السابقة الصادرة عن مستشرقين او عرب في محاولاتهم العديدة لتفسير القرآن إنطلاقا من عربية سيبويه وما بعده التي ليست بعربية القرآن ، مستندا فقط إلى علم اللسان الذي يقضي بقراءة النص وفهمه في إطاره الزمني مجردا من المؤثرات اللاحقة.
ولإن المفسرين اعتمدوا على النقل الشفهي اللاحق دون المبالاة باللغة طبقا لإطارها التاريخي ، وقعوا في الخطأ ونتج عن ذلك ما يعرف ب ” المقاطع الغامضة ” ، وهناك نصوص اخرى في القرآن غير مشكوك في صحة فهمها العربي حتى الآن ، بيّن البحث انه ينبغي إعادة قراءتها على ضوء علم اللغة الموضوعي. وقد سلك لوكسنبرغ في بحثه هذا منهجية تتلخص بخطة تدريجية قوامها خمسة هي:
1) يراجع لوكسنبرغ في خطوة اولى تفسير الطبري تقديرا منه بأن التقليد الإسلامي بما احتفظ بالشرح الصحيح دون ان يأبه به المفسرون داعما ذلك بألأدلة اللغوية. وإلّا فيلجأ في خطوة ثانية إلى موسوعة لسان العرب لإبن منظور ( 1232 – 1311 م ) ربما يعثر فيه على الشرح المناسب ، سيما وأن الطبري لم يرجع في تفسيره إلى اي قاموس عربي وكان معتمدا على النقل الشفهي دون سواه ولو انه استشهد في بعض الحالات بالشعر العربي مع بعده عن لغة القرآن وكثيرا ما يؤدي هذا التحقيق إلى نتيجة إيجابية.
2) فإن لم يكن ذلك ، عمد لوكسنبرغ إلى قراءة الرسم القرآني قراءة سريانية أعطت النص في عدد من الحالات معناه المنطقي.
3) وإن لم يكن ذلك ، باشر لوكسنبرغ في محاولة اولى بتغيير نقط الحروف التي ربما وضعت عن عدم إلمام المحقق العربي بمفهوم نص القرآن في قراءته العربية. وقد ادت هذه الخطوة في حالات غير قليلة إلى نتائج إيجابية.
4) وإن لم يكن ذلك ، شرع الباحث في محاولة ثانية بتغيير نقاط الحروف بهدف إيجاد مصدر لقراءة سريانية ، وقد ادت هذه المحاولة في حالات عديدة إلى قراءة تعيد للنص معناه الحقيقي.
5) وإن فشلت جميع هذه المحاولات وكان التعبير كتابة وقراءة عربيا لاشك فيه وإنما دون ان يعطي معنى مناسبا للنص ، لجأ الباحث حينذاك إلى محاولة قصوى تكمن في ترجمة التعبير العربي إلى السريانية لإقتباس مفهوم هذا التعبير من معاني مرادفه السرياني. وقد بين البحث بأن هذه الخطوة تتجاوز الخطوات الاربع السابقة اهمية ، إذ كثيرا ما يعطي مفهوم التعبير السرياني النص القرآني العربي الغامض معناه المنطقي الجلي.
وفي سياق تطبيقه اللغوي المفصل لهذه المنهجية تطرّق لوكسنبرغ لبعض التعابير وألآيات القرآنية معتمدا في ذلك بإنتظام على المراجع العلمية عربية كانت أم سريانية ، نعرض منها نموذجا مبسطا لكل من الخطوات المذكورة أعلاه:
أ) من جملة الآيات غير المشكوك في فهمها إلى يومنا هذا الآية 64 من سورة الإسراء. وموضوع هذه الآية أنّه تعالى طرد إبليس من الجنة لرفضه السجود لآدم ، فإستأذن منه إبليس أن يسمح له عز وجل أن يجرّب الناس إلى يوم الدين ، فأذن له تعالى وأردف بقوله ما يلي :
( وأستفزز من أستطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في ألأموال وألأولاد وعدهم وما يعدهم ألشيطن إلّا غرورا ).
شرح الطبري هذه الآية بألمفهوم التالي : ( أستفزز ) بعنى أفزع بصوتك ، مع أنّ هذا المفهوم يناقض المفهوم القرآني القائل بأنّ إبليس ( يوسوس في صدور الناس ) ( سورة الناس ،ألآية… 5 ).
ويشير لوكسنبرغ إلى ان لسان العرب يشرح أستفزه بمعنى ختله حتى اوقعه في مهلكة ، وهو المفهوم الصحيح لهذا التعبير المطابق للمفهوم القرآني.
ويشرح الطبري ( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) بمعنى الهجوم على الناس بجلبة لتخويفهم بالخيالة والمشاة ، وهذا المفهوم يخالف ايضا المعنى القرآني. فيقرأ لوكسنبرغ إعتمادا على اللسان ( أخلب ) عوضا عن ( أجلب ) بمعنى إحتل أو أنصب عليهم.
ولمّا تعسّر الإحتيال على الناس بالهجوم عليهم بجلبة بالخيالة يرى لوكسنبرغ أنّه من الانسب قراءة بحبلك ( بمعنى حبالك أو حيلك ) بدلا من (خيلك ) ودجلك بدلا من ( ورجلك ) ، مما يتوافق وألمنطق القرآني.
أمّا ( وشاركهم بألأموال وألأولد ) فيعجب أهل التفسير من سماحة تعالى لإبليس بمشاركة الناس بألأموال والاولاد مع علمهم بأنّه عز جلاله هو الذي يرزقهم إياهم ، فيرى الطبري الحل بشرحه هذا المقطع بمعنى مشاركة إبليس الناس بمال الحرام وأولاد الزنى ، بينما يشير لوكسنبرغ إلى ان مصدر (سرك ) بالسريانية مشتق من الشرك وألأشراك بالعربية والمقصود منه مصدر شرك بمعنى أغرى ، مستشهدا لذلك بالحديث النبوي الشريف القائل ( أعوذ بك من شر الشيطان وشركه ) (شركه في الحديث جاء بمعنى فخه).
والمفهوم القرآني ان إبليس يغري الناس بوعده الكاذب إياهم بالمال والبنين وليس بمشاركته إياهم بهم ، ويتضح هذا المفهوم من نهاية الآية : ( وعدهم وما يعدهم الشيطن إلّا غرورا ). ( أنظر كتاب لوكسنبرغ ص 216 – 220 ).
وتعطي هذه ألآية لوحدها خمسة أمثلة نموذجية عن نقاط المنهج رقم 1 و 2 و 3 ألمذكورة أعلاه.
في المقالة القادمة سنتطرق إلى بقية أمثلة المنهج.