17 نوفمبر، 2024 8:28 م
Search
Close this search box.

ثقافة الموت كحل وجودي في رواية (قياموت) للروائي نصيف فلك

ثقافة الموت كحل وجودي في رواية (قياموت) للروائي نصيف فلك

(ما دامت القيامة لم تأتي ..نحن نذهب إليها)
الرواية في الكثير من جوانبها الفكرية هي انعكاس( إيديولوجي) تعكس وجهة نظر كاتبها الذي بدوره يتأثر بانعكاسات الواقع النفسي والاجتماعي والسياسي المحيط   به ويمثل مادة اشتغاله عبر ما يسميه (هيدكر)  الانهماك في الواقع وهو انهماك وجودي يرتبط بالقلق من العالم والوجود ،هو تجلي واعي لثنائية الوجود او العدم عند (سارتر ).
تمثل رواية قياموت للكاتب( نصيف فلك ) واحدة من الروايات الأكثر إنهمام وانهماك في إشكاليات الواقع اليومي وفي أكثر  تفاصيله تأثيرا وحضورا في الرواية العراقية وهو الواقع السياسي والثقافي  بكل تصدعاته واختلالاته  الاجتماعية والنفسية  .
يفتتح الكاتب الرواية بتمهيد ثيمي يكشف فيه عن هذا الانهماك  الوجودي المرتبط بعمق تراجيديا الضياع والوجع العراقي الذي يمهد  الدخول عبر تصدعاته  الى فضاء الروي  ( الى علي السومري: عجبت كيف لا تسعك كل البيوت ،مشرد مع سبق الإصرار والترصد) ص5 وهو خطاب يعكس وجهة نظر الكاتب كانتماء إيديولوجي   موجه الى جهة معينة  تعمد الكاتب في الإعلان عنه في مقدمة الرواية لكشف حجم الانكسار والحيف الذي وقع على فئة كبيرة من المجتمع العراقي وهم أهل الجنوب والوسط .
تبدأ تباشير الموت كوجود تعلن عن نفسها منذ الحظه الأولى في فقرة  (شاشة مسدس ) حيث يمثل الموت حبل النجاة الوحيد من واقع مزري متعفن يخنق الحياة والجمال وكل شيء يقول على لسان الراوي العليم ( أعض لساني حنقا وافضح الجميع واكشف عورة الأولين والآخرين )ص7 ، تبدأ الرواية بصوت القيامة و  الموت الموزع بشكل مدروس وممنهج على اهالي بغداد (قامت القيامة ..انقلبت الدنيا.. حل يوم الحشر)ص7.
يضعنا الكاتب في قلب الإحداث التي يمسرح مشاهدها الدامية بدقة وواقعية مفرطة في واقعيتها وذلك عبر الاقتراب من الواقع والغوص في أبشع صور الحياة فيه ليضعنا في تحدي حقيقي أمام أنفسنا ومع الواقع( صدمة التلقي) مستعرضا كل أسماء فرق الموت من زمن النبوة الأول الى يومنا هذا في دلالة واضحة على تجذر ثقافة الموت في اللاشعور الجمعي الذي ورثناه بفعل الصراعات السياسية والدينية(جيوش على مد البصر من عفاريت الأوس والخزرج يصطفون على باب نومي يطرقونه بسيوفهم :جيش العرش وجيش السماء وجيش الذباحة وجيش العلاسة وجيش الصكاكة وجيش الخلفاء وجيش الحلفاء وجيش الجلفاء )ص8 لتتحد هذه الأسماء وتتشكل كمارد للقتل والاستلاب في (جماعة الثقوب السود) هذه الجماعة التي يعتقد الكاتب أنها اختصار لتاريخ طويل من الجماعات وجيوش الموت المعلنة والغير المعلنة ،أنها  اختزل تاريخي لكل طرق وتقنيات الموت والذبح ،و تقطيع الاجزاء،وصلب،و حرق ، الخ من أشكال الموت في عصرنا الحالي .
اللغة في الرواية هي خليط مابين   المحكي والمكتوب اي لغة تحاول تحقيق التماس المباشر مع الواقع لان ،وهنا بكل تصدعاته ووحشيته من خلال استخدام اللغة الشعبية الدارجة بكل بذاءتها واللغة الرسمية الفصيحة بكل جنونها وخيالاتها  لذلك عمد الكاتب الى كسر رتم الواقعي بالسحري عبر هذه اللغة لتحقيق قدر من الفنية السحرية المتخيلة والأدبية في النص رغم شدة تماسها مع الواقع ، ففي مشهد نغولة العقيدة يتضح هذا التماس مع الواقع  (لا يخلو قميص من خارطة بول القفا ، مبقعة ظهورنا من عرق الحر وبول البعير ، الحر والصحراء من أهم أسباب الإرهاب ) لذلك نجد ان هذا التلاعب بالألفاظ هدفه تفجير المعنى ألقيمي والديني لتسنى للكاتب إعادة إنتاج سيل من الكلمات والمعاني ذات الوقع النفسي المؤثر في عملية التلقي .
الزمكان في الرواية حضور قوي ومؤثر في  بناء الإحداث والشخوص لأنه زمكان مثقل بالانكسارات ويحمل دلالات رمزية ودينية وثقافية وسياسية تفرض نمط من التوجهات والأسماء للدخول الى فضاء المكان السردي ، فحي الحسينية تتبدل دلالاته الاسمية مع كل تحول وتبدل سياسي وثقافي واجتماعي  (حي الزهور  ،الحسينية ، حي القبور ) فهذا التحول في الأسماء ونمط العيش هو تحول مرتهن بيد  من هو أكثر قوة وقدرة على إيقاع اكبر عدد من القتلى والاستحواذ اي تحول محكوم  بزمن دائري يبدأ من الولادة الأولى حي الزهور بكل ما توحي به الكلمة من دلالة على ،الجمال، والحياة وهو زمن الانفتاح،  والحسينية وهو زمن إيديولوج حي القبور هو زمن الموت والشيخوخة والعقيدة والانغلاق وإقصاء الحياة وهو ما يعكس وجهة نظر الكاتب حول هذا الواقع الخرب  .
تقوم ثيمة الرواية على فعل القيامة والموت كما يصرح  عنوان الرواية ( قياموت ) وهي ثيمة مركزية تنتقد بجرأة وشجاعة موضوع الثقافة الدينية والسياسية احد أهم عوامل التراجع والقتل الممنهج ما بعد التغيير حيث يعلن الكاتب منذ الحظة الأولى عن توجيه سهامه النقدية للمنظومة الدينية والسياسية بكل انتماءاتها الطائفية والسياسة التي لم تنتج سوى  ثقافة الموت والأصوليات كمنتج أصيل عبر تاريخها الطويل المثقل  بالعنف والإقصاء  وهو اتهام بالتواطؤ التاريخي مابين الديني والسياسي  كونهما سلطة ونفوذ وثقافة سائدة أنتجت ما يسميه فوكو بملاذات  الموت الآمنة والقتل  التي تبيح فعل القتل والموت (النظام اللاحق  لا يختلف قيد أنملة عن النظام السابق وكأنهما توأم )ص60 لذلك عمد الكاتب الى تفكيك وتعرية لهذه الملاذات من خلال كشف آليات تشكلها الفكري والسياسي الداعم لنموها ، ففي حوار مابين برعم الراوي العليم والمشارك واحد أبطال الرواية وعناد اخو برعم يفضح هذا التعاقد مابين الديني والسياسي يقول ( الفرد يعبد الله الواحد ، أما العقيدة فهي تلغي الفرد وتذوبه داخل الجماعة .وهؤلاء يقدسون العقيدة وينسون الله ،فالعقيدة هي العشيرة والقبيلة وهي النفوذ والسلطة والمكاسب والاستحواذ)ص96. توزعت الأحداث في الرواية على مشاهدها  العشرين التي تبدأ من شاشة مسدس وتنتهي عند مسيرة القيامه.  اعتمد فيها تقنية الوصف الدقيق والروي من خلال مسرحة الأحداث التي في الكثير منها أحداث قتل مكررة وفق نفس الأسلوب مع اختلاف الذرائع لدى القاتل لذلك كانت مشاهد القتل مشاهد  حقيقة صادقة تعتمد تقنيات فنية سينمائية في صنع أحدث مؤثرة اكثر عنفا، حيث تعتمد هذه المشاهد على جعل الحدث أكثر صدقيه  وتعبير مما يحدث في الواقع اي إخراج هذه الأحداث من بعدها الديني المقدس الظاهر الى بعدها النفعي المدنس المضمر الذي اخفي تحت ستار المقدس ، لذلك كل أحداث القتل التي  تتخذ من الإطار  الديني تبريرا  لفعل القتل مثل (قناص جامع الفرقان الذي يقتل كل المارة  وجامع النبي ايوب الذي تحتشد فيه الجماهير الباحثة عن الموت ومشهد العثور على  الهندي الحلاق  بعد ان تختطفه جماعة الثقوب السود ووضعته داخل كيس ابيض كل هذه  المشاهد هدفها  سعي هذه الجماعات لتقوية وجودها وتعزيزه بدلالات ورمز دينية  لنشر العنف والترهب لكل من يحاول الاحتجاج على الواقع اليومي(شعرت بأيادي البشر جميعهم تمتد مع يدي وامتلأت أذني بأصوات كورال سماوي وحفيف أجنحة ملائكة تحوم فوق ساحة الطوبى)ص53 حاول الكاتب سحب النص الى مجال المتخيل الأدبي للتخفيف من واقعية الأحداث وبشاعتها عبر مزج هذه الأحداث بأسلوب الواقعية السحرية ابتداء من أسماء الجماعات و الأشخاص )برعم ، الهندي الحلاق ، دخان،ونوس ، صعاليك القيامة ،طيور القيامة ،الثقوب السود ،نغولة السلطة  ،) والأماكن(حي القبور ، سوق القيامة ،) وحتى الأحداث( مسيرة القيامة ،التشاؤم من الولادات ، وبلاسم الذي أصيب بالجلطة ولم يمت ) وصولا الى اللغة والروي ( شطحات لفضية وشتائم وأحلام رعب).توزع الروي مابين الشخصيات رئيسية (برعم ، عناد اخو برعم ، الهندي الحلاق راهي .حاول الكاتب إعطاء  حرية أكثر  لشخوصه  التي كانت ادوارها غالبا ما تقتصر على  الروي ومتعة المشاهدة  لذلك لم تكن فاعلة بالقدر الكافي لأنها اكتفت بالمشاهدة والوصف  رغم شكل الحرية النسبي المتاح .اتخذا الكاتب من أسلوب تحليل للإحداث طريقة مباشرة  للتدخل الواضح الذي يعزز وجهة نظر الكاتب من خلال برعم الراوي او المؤلف الضمني  (لقد تفجرت جميع البالوعات المرئية وغير المرئية فلا تنفعنا اليوم سفينة نوح ولا جبل عاصم)ص171.
الرواية في مجملها تروي أحداث ما بعد التغيير وما صاحبها من عنف بطريقة الأرشفة و التوثيق  للإحداث  التي حصلت في ما قبل وبعد التغيير  تحاول الرواية الكشف عن أسس ثقافة الموت كحل وجودي عند العراقيين  لذلك تبدأ الرواية بالموت وتنتهي بالموت وبالتالي  يكون بطل الرواية الحقيقي هو الموت نفسه ،تحاول الرواية تسليط الضوء والإجابة عن أسباب استشراء ثقافة الموت في مجتمعاتنا بأسلوب مباشر وصريح في محاولة من الكاتب الى لفت انتباهنا  الى  مراجعة منابع الثقافة والتاريخ التي شكلت حياتنا ووعينا فالصراع هو صراع طائفي لكن صراع ممتد على طول مساحة تاريخنا وثقافتنا لذلك تصنف هذه الرواية ضمن تيار روايات الواقعية النقدية الجديدة  ( إذا أردتم أن تكشفوا ثقافة شعب وأخلاقه انظر الى حيواناته )ص57او في فقرة أخرى( هل نحن نعشق الدم ونشبع غريزة همجية متعطشة للفتك بالأخر )ص83 .
تظل رواية قياموت شاهد إدانة لكل طرق وأساليب الموت المعلن والغير معلن وهي اتهام صريح  لطبيعة الثقافة السائدة التي ساهمت الى حد كبير في تدمير كل إشكال الحياة واقصد الثقافة الدينية العقائدية التي أنتجت كل هذه الجماعات والأصوليات القاتلة والرافضة للأخر المختلف فاغلب أحداث القتل كانت تنفذ من جامع او جماعة دينية او باسم الطائفة وبالتالي تحول العراق الى ساحة قتل مجاني بسبب سذاجة عقولنا والصمت عن الحقوق  لذلك لم نجد غير الموت كمنتج أصيل   .

أحدث المقالات