قبل الدخول في صلب المقالة يجب علينا القول بان ما يجري الآن من تظاهرعفوي سلمي حضاري في معظم المدن العراقية ما هو إلا ثورة اصلاحية حقيقية كما وردت معانيها في المعاجم السياسية ، ودعونا نعترف بأنها أولى الثورات التي حدثت في العراق منذ إنبثاق الدولة العراقية الحديثة في آذار 1921م ولحد كتابة هذه السطور دون التقليل من اهمية ما سبقتها من انتفاضات للشعب العراقي ، ولنا أسبابنا في ان نعدها الثورة الأولى للشعب العراقي حيثُ ان ” الثورة ” بمفهومها المصطلحي تعني وبشكلٍ مبسّطٍ قيام الشعب بكل فئاته بمحاولة التغيير الجذري لواقعٍ مزرٍ يعيشه من خلال الإنتفاض عليه وحيثُ تبدأ الثورة من القاعدة الشعبية وليس من هرمها . فنرى الآن ومن خلال متابعتنا لشاشات التلفزة وحدة المَطالب من مختلف شرائح المجتمع وبفئاته العمرية المتباينة ، فالعامل والفلاح والطالب وربة البيت والطبيب والمهندس والمحامي والطفل والشاب والشيخ والعجوز والفنان والمقاتل الذي يقاتل الإرهاب جميعهم يطالبون بتوفير الخدمات الأساسية والقضاء على الفساد المستشري منذ الإحتلال الأمريكي في العام 2003م ولحد الآن وبفصاحةِ لسانٍ لا نستطيع التمييز من خلاله من ان المُطالب هو عراقي اكاديمي ام انسان بسيط انطلق لسانه بمفردات اللغة الجميلة للمطالبة بحقه في العيش الكريم ، إذ خرج الشعب بتظاهراتٍ عفويةٍ غير مسيسة ساعدته وسائل الإتصالات ومواقع التواصل الإجتماعي المتطورة على بلورة مطاليبه واعلان ساعة الصفر التي بدأت شرارتها الأولى من مدينة الفيحاء البصرة الخالدة وسرعان ما إنتشرت نيرانها حتى وصلت الى قرى وقصبات عراقية لم نسمع بها ولم تؤشر مواقعها على خارطة العراق الجغرافية من قبل فأثبتت وجودها بثورتها وأجبرت وسائل الأعلام على تسجيل إنتفاضتها وإيصال صوتها الى أبعد نقطة من بقاع العالم .
ان ما يطالب به الشعب اليوم ليس بالمطلب التعجيزي والمستحيل ، حيثُ ان مطلبه لا يتعدى الخدمات الأساسية في اي مجتمعٍ يعيش في القرن الواحد والعشرين ومن الممكن تحقيقه لو ان هنالك أنظمة وقوانين وإدارة للدولة ونظام سياسي مبني على اسس وطنية صحيحة ودستور وطني خالي من المطّبات المذهبية والفئوية التي حشرها البعض كقنابل موقوتة تنفجر بوجه من يحاول العبور عليها لمصلحة الشعب برمتهِ .
ولو راجعنا تاريخ العراق الحديث منذ نشوء الدولة العراقية لوجدنا ان ما اطلق عليه ” الثورات ” لم تكن إلاّ ” انقلابات عسكرية ” قام العسكريون بها وطالبوا الشعب باسنادهم من خلال الخروج الى الشارع بتظاهرات غالباً ما دعمتها الأحزاب الأيديولوجية التي كانت تتسيد الحراك الشعبي والوطني حينذاك وبأجندات حزبية موجهة غير خافية على أحد ، فالانقلاب العسكري لبكر صدقي في 29 تشرين الأول 1936م وحركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة في الأول من نيسان 1941م وثورة ( إنقلاب ) الرابع عشر من تموز 1958م التي خطط لها العميد الركن عبدالكريم قاسم ونفذها العقيد الركن عبدالسلام عارف وثورة ( انقلاب ) الثامن من شباط 1963م ضد الزعيم عبدالكريم قاسم والحركة التصحيحية التي قادها عبدالسلام عارف ضد البعثيين في 18 تشرين الثاني 1963م مروراً بثورة ( انقلاب ) السابع عشر من تموز 1968م وحركتها التصحيحية في الثلاثين من الشهر ذاته ضد رئيس الجمهورية العراقية حينذاك عبدالرحمن عارف والإنتفاضة التي أطلق عليها فيما بعد بالإنتفاضة الشعبانية بعد حرب الخليج الأولى في العام 1991م والتي انطلقت شرارتها من البصرة أيضاً حيثُ كانت مجيّرة لجهة معينة وكان لها اسبابها السياسية إذ رافقتها بعض الأعمال الفوضوية بحكم الظرف اللحظي حينذاك والتغيير الذي حصل بعد الإحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003م وسيطرة سياسيي الصدفة على مقاليد الحكم تحت خيمة الأحزاب الدينية المسيسة كل تلك التغيرات لم تأتي من واقع الشعب وقاعدته وإنما جاءت من اعلى الهرم ومن مواقع النفوذ العسكري أو الخارجي المدعوم بتأييد قادة بعض الأحزاب ولمنافع سلطوية بحتة ، لذا لا يمكننا اعتبارها ثورات لشعب وجد نفسه مجبراً أخلاقياً على تأييدها لظروفها اللحظية حيثُ ارادت له الأحزاب الأيديولوجية والعسكر ان يكون ( شعب الثورة ) المسيّر متى ما ارادو له ذلك وعلى العكس مما نشاهده الآن فان ( ثورة الشعب ) قد ولدت من رحم المعاناة لأكثر من ثلاثة عشر سنة من الحرمان والجوع والقتل المجاني وإنطلقت بجماهيرها الغفيرة التي انظوت تحت مظلتها طبقة رجال الدين من مختلف الأديان مدعومة بتأييد المرجعيات الدينية الناطقة بالحق والعدل الذي بشر به الأنبياء والرُسل ، وكلمة أخيرة للمتظاهرين لأخذ الحيطة والحذر من المندسين الذين سيحاولون إجهاض ثورتهم وتسييسها ، وهنيئاً للعراق بثورته وثوّاره وسيكون النصر حليفهم حتماً.