نظرة سريعة للخارطة السياسية والبنيوية العراقية كافية لبناء رؤية عن مستقبل المناطق للبلاد والمجتمعات المتنوعة “عرقيا وطائفيا” الموزعة على ثلاث مناطق جغرافية رئيسية ، ( الشمال ، الوسط ، الجنوب ). إذ لا مجال للمقارنة بعد 13 عاماً بين الفرص للمنطقة الشمالية الكردية وبين المناطق الاخرى للبلاد .
الملاحظ من خلال رصد المستويان السياسي والوظيفي لكلا من حكومة إقليم كردستان وحكومة بغداد ، تزايد فرص الأكراد في تحقيق الأهداف القومية الكردية المتعلقة بتقرير المصير ، مقابل تراجع فرص الجانب العراقي فيما يتعلق ببناء مؤسسات للدولة والمحافظة على سيادة البلاد وتقديم الحد الأدنى من الحقوق للمواطنين .
تعتبر “هوية” الدولة من أبرز العناصر لقيام الدول وتدعيم أساساتها وتثبيت حضورها السياسي والدبلوماسي على المستويات الدولية والإقليمية، وقد نجحت القوى السياسية الكردية بمختلف توجهاتها الأيدلوجية في بناء الهوية القومية للشعب الكردي، وتثبيت الشعور بالانتماء للأمة الكردية في نفوس الأكراد بشكل لافت ، كذلك تمكنت القوى السياسية الكردية بما فيها الإسلامية والأصولية بالتمسك بالهوية الكردية رغم الخلافات الكبيرة بين تلك القوى الفاعلة ، لكنها أجمعت على تبني الهوية القومية والمناداة بالحق القومي للشعب الكردي.
السقف الأعلى للحق الكردي:
إجماع القوى الكردية بمختلف توجهاتها الإيدلوجية على صياغة هدف جوهري مصيري للشعب الكردي ،أي مصلحة قومية عليا تتساقط عندها جميع المصالح الثانوية وتتعطل الخلافات السياسية بين الفرق الكردية المتنافسة عند المساس بتلك المصلحة المقدسة من وجهة النظر الكردية ، ساهم قطعاً بخلق حالة من الشعور بالمسؤولية وبناء ( السقف الأعلى للحق الكردي ) المتمثل بحق تقرير المصير ، أي إنشاء دولة كردية قومية بنهاية المطاف. ذلك الخطاب المسؤول ساهم عملياً في تقديم المستوى السياسي الكردي للمجتمع المحلي والأجنبي كوحدة سياسية ناضجة متماسكة ومتناغمة بالاداء السياسي والدبلوماسي مع المصلحة العليا للشعب الكردي . إعادة إنتاج النموذج الكردي للغرب كحليف مناسب للحرب ضد الإرهاب وشريكاً محتملاً لحماية المصالح الغربية في المنطقة ، صورة وردية سوقت للعالم عن الأكراد وكانت فرصتها الحرب على داعش دون أدنى شك ،إذ أن المجتمع الدولي فضل التعامل مع الجانب الكردي كشريك موثوق به في هذه الحرب بدلا من الجانب العراقي الذي لدى واشنطن العديد من الملاحظات على سياسة بغداد لعدم إشراكها للعشائر العربية السُنية في شكل واسع بالحرب على داعش ، كما أن المتطوعين الأجانب للقتال ضد داعش توجهوا نحو الجبهة الكردية للإنضمام مع المقاتلين ، خاصة في معارك منطقة عين العرب “كوباني” بينما لم يتوجهوا لمعسكرات بغداد ودمشق! . فمن المرجح أن نشهد خلال المستقبل القريب فتح ملف القضية الكردية ومناقشة تفاصيلها التأريخية والسياسية والإنسانية على المستوى الدولي الرسمي والشعبي .
أما على المستوى الوظيفي الرسمي في مناطق كردستان فهو يسير وفق نمطية عمل دولة ، ينتهج القواعد الوظيفية والأسلوب الوظيفي المتبع عالمياً ، دون وجود مشاكل كما في حكومة بغداد ، فتوزيع المهام والمسؤوليات بين السلطات الرسمية في الإقليم من الأمور الغائبة في مؤسسات بغداد ( البرلمان ، الحكومة ) تضارب المصالح بين القوى السياسية في بغداد ، وفرض الأحزاب السياسية لأجنداتها على ممثليها في الوزارة عرقل أداء الوزارات والمؤسسات الحكومية ، فالوزير في حكومة بغداد وزيراً لحزبه وكتلته البرلمانية التي رشحته للمنصب ، بينما الوزير في حكومة كردستان وزيراً للإقليم! ، ناهيك عن أن تضارب مواقف المسؤولين الحكوميين في بغداد حول القضية الواحدة بحسب انتماءاتهم السياسية آثر سلباً على حياة المواطنين.
أزمة هوية وفقدان بوصلة :
على النقيض تماماً من الجانب الكردي الناضج فكريا وسياسياً ، لا تزال القوى السياسية والاجتماعية العراقية في وسط وجنوب البلاد مترنحة إذ وقعت فريسة للتأثيرات الخارجية ، فهي أدوات تحركها جماعات دولية وإقليمية لمصالحها حتى وأن إبتعدت عن المصلحة العراقية أو كانت على حسابها . أبرز أزمات تلك القوى السياسية هي ” الهوية ” ، إضطراب الخطاب السياسي والإعلامي المُسوق لهوية الجماعات السياسية الكبيرة ” جماعة الحكم ” أسس لظاهرة إجتماعية مضطربة و معقدة ، خلال فترات الانتخابات البرلمانية يتم التسويق لخطاب عنوانه “الوطن” ومضمونه “الطائفة” ، تلك الإزدواجية لم تأتي من فراغ ، إذ يعاني من إضطراباتها قادة الحكم أنفسهم ، تارة يتحدثون بلغة مملوءه بالوطنية وتارة يتحدثون بلغة تغلي طائفية . لربما تكون الكتل السياسية الحاملة لأسماء “وطنية” والمدعومة من المراجع الدينية خير دليل على مدى الإزدواجية السياسية – النفسية لدى جماعة الحكم ، خاصة إذا أدركنا أن رجل الدين في بلد مثل العراق لا يمكن أن لا يكون طائفياً!.
لذا فأن أزمة الهوية لدى القوى السياسية العراقية بإستثناء ” القوى السياسية الكردية ” أزمة حقيقية أدخلتنا بمزيد من الأزمات ، رغم أن الملاحظ عليها سلوكياً هو تغليب الهوية الطائفية السياسية على الهوية الوطنية أو القومية العربية.
الإزدواجية السياسية لم تنتهي عند ” الهوية ” وإنما ظهرت مراراً في العديد من المواقف السياسية ، نأتي على ذكر بعضها :
· إعتبرت القوى السياسية الحاكمة إحتلال العراق ” تحريراً” و تأريخه عيداً وطنياً للبلاد ، ثم عادت وإعتبرته إحتلالاً ،وظل قادة الحكم تارة يسمونه إحتلالا وتارة اخرى تحريراً ، بينما الأميركيون أسموه إحتلالاً!!.
· خلال الحرب على داعش تستخدم القوات الحكومية ” الجيش ” والقوات غير الحكومية “الحشد الشعبي” المحسوب على القوى السياسية الحاكمة ، أسلحة أمريكية الصنع ويتلقون مساعدات لوجستية ويستعينون بالطائرات الامريكية لضرب معاقل داعش وفي الوقت نفسه يتهمون أمريكا بدعم التنظيم الارهابي “داعش”!.
· أعتبر المستوى السياسي والاعلامي للقوى الحاكمة التوغل التركي داخل الاراضي العراقية “إحتلال” بينما يتجاهلون التوغل الإيراني الممتد طوال السنوات الماضية والذي تخطى الدور التركي إضعافا مضاعفة ، ويتجاهلون إقتحام الحدود العراقية من قبل مئات الالاف الايرانيين بحجة ” الزيارة ” الدينية للعتبات المقدسة ، في أكبر فضيحة يشهدها تأريخ العراق الحديث.
· أعتبر الخطاب الرسمي والشبه الرسمي العراقي النظام السوري عدواً داعماً ومصدراً للإرهاب إلى العراق طوال السنوات الماضية قبل بداية الحرب في سوريا ، وكانت القوى السياسية العراقية تتهم نظام بشار الأسد بإحتضانه للبعثيين والقاعدة للقيام بهجمات داخل العراق ، تبدلت الصورة تماماً بعد الحرب في سوريا وتشكل تحالفاً أمنياً وعسكرياً وسياسياً بين النظامين العراقي والسوري.
غياب الهوية أو تغليب الهوية الطائفية أدى لتأسيس سلطة فاسدة وخلق بيئة سياسية فاسدة أجهضت بدورها قيم المواطنة والإنتماء للوطن فأدخلت العقيدة والانتماء الطائفي والمناطقي على الدوائر الامنية والعسكرية والمدنية والتعليمية والقضاء فأنتجت مجتمعا مضطربا تائها ، تلك الحالة المأساوية عدمت روح المواطنة والانتماء للوطن العراق وكذلك إنتماء عرب العراق لهويتهم القومية ، بمعنى آخر أن التركيبة السياسية والسلوكية الجديدة أفقدت العراق بوصلته الوطنية والقومية.