19 ديسمبر، 2024 1:50 ص

شاهد عيان لتأريخ العراق في أواسط الستينيات

شاهد عيان لتأريخ العراق في أواسط الستينيات

محاولة “عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الثانية (30حزيران1966)
تـمــهـيــــد
في دراسة سابقة مطولة نـُشِرَت على صفحات موقع “كتابات” الأغر أسهبتُ من خلالها سرد وقائع محاولة “عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الأولى في منتصف (أيلول1965) والتي أخفق في تنفيذها بسبب مفارقات مُستغربة تشوبها الظنون والحيثيات الـمُبهمة، فغادر “بغداد” يوم (16أيلول) مع عدد من كبار قياديي كتلته الذين إستضافهم الرئيس “جمال عبدالناصر” في “القاهرة” بصفة لاجئين سياسيين حتى وقع ما لم يكن بالحسبان، فقد توفي الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” إثر سقوط طائرته المروحية مساء (الأربعاء13نيسان1966)، وتسنـّم “اللواء عبدالرحمن محمد عارف” -رئيس أركان الجيش بالوكالة- مقاليد الحكم خلفاً لأخيه بعد (3) أيام من مراسيم التشييع.

ولحداثة رئيس الجمهورية الجديد في إدارة شؤون الدولة وكونه في غاية الأدب والتسامح فضلاً عن الهشاشة التي أصابت الأوضاع السياسية بُعَيدَ غياب رئيس قوي منتبه مارس الحكم لسنوات وخبر الحياة السياسية وتعمق -بعض الشيء- في نفسيات الساسة، فقد تحركت الأحزاب والتنظيمات المناوئة -بل وحتى الصديقة- ذات الأطماع بكراسي السلطة اللعينة وأضحت تتأهب للقفز نحو القصر الجمهوري إبتغاء الإستحواذ عليه وباتت تـُرغـِّب هذا وذاك للإتفاق والتفاهم والتخطيط سراً لتحقيق تلك الغاية… وربما أراد “عارف عبدالرزاق” من منفاه الإخياري أن يكون سبّاقاً في هذا الشأن كي لا يسبقه سواه في هذا الطموح، فيما كان أتباع كتلته القومية/الناصرية من ضباط القوات المسلحة ما زالوا في الخدمة متبوئين مناصب جيدة لدى مؤسسات الجيش وتشكيلاته المدرعة والقوة الجوية، مضافاً إليهم تنظيمات مدنية كفؤة من شباب قوميين مثقفين وهم جاهزون لتنفيذ أوامره، وتدعمهم قاعدة شعبية عريضة في المجتمع العراقي تقدّس الرئيس “جمال عبدالناصر”، فضلاً عن أحساس “عارف عبدالرزاق” الشخصي بضرورة ردّ إعتباره ووجوب إعادة سمعة ذاته بعد أن تأثرت سلباً إثر فشله قبل أشهر في تحقيق محاولته الأولى، ناهيكم إحاطة معظم القادة العسكريين النشيطين من كتلته به في “القاهرة”، وذلك ما يسهّل التخطيط معهم سوية، وأن “مصر” لابد أنها ستؤيد سيطرة ضباط قوميين/ناصريين على

مقاليد الحكم حال نجاح الإنقلاب وستكون أولى الدول التي ستعترف بالحكومة التي يتم تشكيلها في “بغداد”.

ولكل ذلك لم ينتظر “عارف” طويلاً فقد ترك “القاهرة” مع من إلتجأ معه في (أيلول1965) متوجهين إلى “سوريا” بجوازات سفر مصرية تحمل أسماء مغايرة في طريقهم إلى العراق بمساعدة أفراد عشائر من نسب واحد تنتشر في بقاع حدودية متتاخمة بين العراق وسورية من تلك التي ينتمي إليها بشخصه، حتى إستقروا بمساكن مهيأة لهم مسبقاً في قلب مدينة “الموصل” وفقاً لتفاهم مسبق مع قائد فرقة المشاة/4 “العميد الركن يونس عطار باشي” الذي لم يُعرَف شيء عن إنتمائه لأي تنظيم سياسي من قبل، وأضحوا يبعثون توجيهاتهم إلى قادة الخلايا التي ظلت في غفوة مؤقتة طالت (9) أشهر فحسب.

حددت ساعة الصفر ظهر يوم (الخميس-30حزيران) وكانت من أولى الخطوات -وبمساعدة قيادة فرقة المشاة/4- هي السيطرة على “قاعدة الموصل الجوية” وتسليمها بين يدي “الرائد الطيار الركن ممتاز عبدالعالي السعدون”، بينما كان الإتفاق مُسبقاً مع “المقدم الطيار نعمة الدليمي” آمر قاعدة الحبانية الجوية بإعتباره أحد كبار أتباع التيار العسكري القومي، فيما تقتحم جماعة مسلحة معظمهم من صغار الضباط مباني المرسلات التي تبث منها الإذاعة والتلفزيون العراقي بالقرب من بلدة “أبي غريب” غربي “بغداد” قبل الإقدام على إذاعة البيان الأول للحركة.

بدء الحركة الإنقلابية

مثلما شاء قدري أن أُنتـَخبَ ضابطاً لدى الحرس الجمهوري قبل حوالي سنتين، فقد كُتِبَ على جبيني أن أعيش معظم تفاصيل المحاولة الإنقلابية الثانية التي أقدم عليها “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق الكُبيسي”، فمنذ أوائل شهر (نيسان1966) وحتى في أواخر (حزيران1966) ولثلاثة أشهر متتالية كانت جحفل سريتنا -بواقع (150) جندياً بقيادة “الملازم أول يوسف خليل أحمد” ومعه (3) ضباط- ما زالت بمهمة حماية مبنى ستوديوهات الإذاعة والتلفزيون في “حي الصالحية” وسط “بغداد”، حيث رحبنا مساء الأربعاء (29حزيران) فرحين بمقدم فخامة رئيس الوزراء “عبدالرحمن البزاز” ليتلو بياناً أسعد الشعب إلى جانب قواته المسلحة بحلول السلام في شمالي البلاد الذي شهد معارك دموية بين أبناء العراق طيلة سنوات إنقضت، معلناً الإتفاق مع قيادة “ملا مصطفى البارزاني” على وقف

إطلاق النيران المشتعلة بين الطرفين فوراً وعودة تشكيلات الجيش لمعسكراته الدائمية تباعاً وتخصيص مبالغ ضخمة للبدء بإعمار ما خلـّفته القتال.

كاد نهار يوم الخميس (30حزيران1966) أن ينقضي أسوة بباقي الأيام ونحن نتهيأ لتسليم مهمة الحماية في صباح اليوم التالي، فقد إنتهى الدوام الرسمي وودعنا آمر سريتنا “الملازم أول يوسف” مع “الملازم إسماعيل داود” متوجهين لمساكنهم، فيما ظلّ معي في الخفارة “الملازم عبدالجبار جسام” -المتديّن للغاية- الذي دأب طيلة الأشهر الثلاثة المنصرمات أن يترك الواجب على عاتقي ويغادرني إلى مسكنه الواقع في محلة “سوق حمادة” المتاخم للصالحية لأداء الصلوات وتلاوة المصحف الكريم حتى يعود قبل منتصف الليل فيستلم الواجب حتى الصباح لأخلد إلى نوم عميق بعيداً عن إزعاجات تفقد نقاط الحراسة والدوريات المحيطة بالمبنى.

لـمّا حلّت الساعة الثانية والنصف وقد جلستُ منتظراً وجبة الغداء طرق سمعي أزيز طائرات نفاثة عديدة تحلـّق في سماء “بغداد” على غير العادة، وبالأخص فقد إنتهى الدوام الرسمي ليوم الخميس والمفترض أن الجميع -وبضمنهم القوات المسلحة- أمسوا يتمتعون بعطلة نهاية الأسبوع… ولكني سمعت إطلاقاً للنار عن بعد وما أن هرعتُ نحو باحة المبنى حتى إنقضت طائرة لتطلق من مدفعها الرشاش وابلاً من الإطلاقات على مبنانا قبل أن تتبعها طائرة ثانية ميّزتها من طراز “ميك-17″… لم يكن هناك داعٍ للصياح وحرق الحناجر وإصدار الأوامر، فقد وقع الفأس على الرأس، فحمل جميع المراتب أسلحتهم وإستقر كلُّ في موقعه المحدد ضمن حضيرته وقاطع فصيله متأهبين للقادم المفترض أن يكون الأسوأ، ولمـّا إندفعتُ سراعاً نحو سطح المبنى العالي شاهدت إنفلاقات قنابل مدافع وصليات رشاشات مقاومة الطائرات وقد عمّت سماء القصر الجمهوري الذي إستهدف القصف الجوي بواقع (4) طائرات من الطراز نفسه العديد من مبانيه وثكنة فوجنا المتاخم له بشكل متواصل وأعنف، فتصاعد الدخان الأسود من أماكن عديدة، فيما رأيت “الملازم عبدالجبار” مسرع الخطى عائداً نحونا

أحدث المقالات

أحدث المقالات