علينا جميعا كتابا ومؤسسات، أن نختار إن كنا نريد أن نمضي في القرن الحادي والعشرين ببنية ثقافية قد تصير معها بلداننا أشبه بمشتل شماعات بدل أن تكون حديقة أفكار.
خلال عقود عديدة، كان على الثقافة العربية أن تبني نفسها وأن تشيد بنياتها في الوقت الذي انشغلت فيه الدول ببناء مؤسساتها. وكانت لهذا المسار المحفوف بعزلته ضريبتُه أيضا. فقد خاض العديدون حروب مواقع وهمية، وتنازع البعضُ حقلا رمزيا كان من المفروض أن يسع الجميع. وفتح ذلك البابَ لإحساس مفرط بالإقصاء، تزايد مع تزايد عدد المثقفين ومن شابههم، وأيضا لأحاسيس تأخذ طعمَ الأوهام حينما تصير مشتركَة وجماعية.
وتشكل الكتابة الأدبية ومشهدها صورة بليغة عن ذلك. وأجد شخصيا من الطريف أن يتحدث كاتبٌ ما عن كون كِتابه لم يحظ بالإقبال فقط لكونه لم يوزع جيدا. ولعله يقف عند وجه المشكلة الذي يناسبه. فالتوزيع يشكل فعلا إكراها حقيقيا أمام الكتاب العربي، ولعله الحلقة الأضعف في مسار صناعة الكتاب بالعالم العربي.
ولكن يبدو مخالفا للصواب اختزال أسباب عدم رواج عمل ما في التوزيع فقط. وقد يحتاج الكثير من الكتاب أن يكونوا صريحين مع أنفسهم قبل أن يكونوا صريحين مع القراء. فتسعون في المئة (ولا علاقة للنسبة بأرقام وزارات الداخلية وإن كانت صادرة عن انطباع) من دواوين الشعر ومن المجاميع القصصية، على سبيل المثال، لن يفوق متوسط مبيعاتها مئة نسخة من كل عنوان، حتى لو عُرضت في كل مكتبات البيع.
أما عدد العناوين التي وصل إليها الإنتاج السنوي لجميع الكُتاب المغاربة، على سبيل المثال، في مختلف صنوف المعرفة والأجناس الأدبية، فقد تجاوزه الفرنسيون ثلاثة قرون بالتمام والكمال قبل ذلك، وبالضبط سنة 1700، في الوقت الذي كان على المغاربة أن ينتظروا أكثر من قرن ونصف القرن للتعرف على تكنولوجيا جديدة اسمها الطباعة، مع ما رافق ذلك من دهشة ترجمها بإخلاص عالم مراكشي اسمه محمد بن إبراهيم السباعي الذي حسم المشكلة من خلال رسالته «في الحضِّ على الاعتناء بالتآليف الخطية والتحذير من الكتب المطبوعة وبيان أنها سبب في تقليل الهِمَم وعدمِ حفظ العلم ونسيانه» (هكذا!).
ولا ترتبط محدودية الإنتاج فقط بما يُفترض أنه أزمة قراء. وذلك وهم آخر. فإذا كانت هناك أزمة فمن يقرأ ما نستورده من أوروبا ومن المشرق ومن لبنان أساسا الذي تتجاوز إيراداتنا منه، على مستوى المطبوعات، بأربعين مرة ما نصدره إليه.
الكتابة مشتل يجمع كل المتناقضات، حيث يتآلف التواضع والغرور، الأنا الجماعية والأنا المفرطة في التمركز حول ذاتها. الوعي بمسؤولية الكتابة وهاجسُ السرعة بحثا عن نجومية ما. وحده الكاتب الحقيقي من يستطيع أن يدبر كل ذلك.
لا أضع كل الكرات في ملعب الكاتب، وذلك تجنبا لإعادة اختزال المشكلة من جديد. فالمشكلة أكبر من ذلك. وعلينا جميعا، كتابا ومؤسسات، أن نختار إن كنا نريد أن نمضي في القرن الحادي والعشرين ببنية ثقافية قد تصير معها بلداننا أشبه بمشتل شماعات بدل أن تكون حديقة أفكار.
نقلا عن العرب