استعاض عبد الخالق كيطان ب ( المبهم) كعنصر أساسي بنى عليه هيكل أبياته
عالج الغائب باستذكار الأشياء والأماكن وعبر ( الألم والوجع )
يؤطر عبد الخالق كيطان تاريخه بفيض من المحبة ، المحبة لكل شيء ولا شيء ، حتى الهواء في عرفه يحتاج لذلك الفيض من المحبة ، فيبدأ بالوصف الذي ضمنه قصيدته ( واحد وثمانون) والتي حفلت بالمتناقضات الدلالية الوصفية لتقريبها من ذهن القارىء ، ومن باب السلام يلج كيطان متسارعاً على هضابه ليضفي على خطابه الوداعة التي عرف بها، ومثله (صعاليك) بغداد الوادعون المسالمون الحالمون ، مستخدماً الوصف المباشر للتعريف بتلك الهضاب التي قال عنها ( مليئة بالشجن) ، ثم ليرد على لسانه سلام أخر لعيون جاد عليها بوصف ( مضاءة بالقلق) ، وليختم مطلع قصيدته ب ( رغبة بالطهر أو الخلاص) وهي حالة الهروب من شيء الى لاشيء ، أو ربما من لاشيء الى لاشيء ، تناقض الصورة التي كرسها عبد الخالق كيطان بتصوير مشهد أو مطلع قصيدته ب( سلام ، طهر ، خلاص) تشي بتناقض الحالة التي يعيشها الجمهور ، فقد اعتاد كيطان قراءة ما وراء فكر الشارع ، ومن ثم تجسيده على الورق بإبداع كلماته ، وعمق تصوره وقدرته على جمع المتناقضات في هيكل القصيدة ، ومن ثم الخروج بحصيلة دالة عبر الوصف لتأخذ مديات منظورة في أفاق القصيدة النابعة من عمق معاناة تجارب الجمهور ، وفيض محبة كيطان لما حوله .
تلك المشاعر التي حولها عبر المنهج الوصفي الى أبيات يملئها الشجن والرغبة في الطهر من التقلبات النفسية (أحاسيس الحب والخير ، ونوازع الشر) ،تلك التي تؤجج مشاعر الإنسان ومن ثم يبني عليها مواقفه طاهرة كانت أم إنها تدخل في باب الخلاص الأبدي على طريقة كيطان، فلا منطقة وسطى مابين الطهر والخلاص .
ربما قصد عبد الخالق كيطان أن يصف خلجات نفسه تجاه من يحب، وإذا به يجرد وصف حبيبته على غرار ما أراد هو للصورة التي ظهرت عليه أبياته التي جاءت عميقة في دلالاتها، وحادة في تدرجات القلق المرسوم بحذر بين الشجن والقلق ، هي صورة من أراد أن يخلق ازدواجية الإحساس بتناقض الشكل الذي يبني عليه رؤى التكوين المنفرد في صورة الجمع الذي يعبر عن معنى تسامي الفكرة وانصهار المعنى في شكل الحرف الذي ينتقيه كيطان ، ويكون منه سيرة القصيدة ،وشكلها الدرامي ، ( مليئة بالشجن ، مضاءة بالقلق ، نفر من الطهر، رغبة بالخلاص) ، استخدام المفرد والجمع للتعبير عن حالة واحدة أي المفرد( يعطي التفخيم ومن ثم التعميم ) وكلاهما يدخل في التميز والتفرد ، لكي لا تعمم الحالة وتحتسب على الجمع فيضيع المعني الضمني الذي يقال عنه ( في قلب الشاعر) ، وهنا ذهب كيطان ليستخدم (وكنت بين الحشد تبتسمين)، وعبر الخيال الذي يطلقه كيطان معبراً عنه ( بالبخور والبصائر) وهي من رموز الغيبيات التي أراد أن يضفي من خلالها على قصيدته بعداً غامضاً لا يشعر به سوى المحبين ، هنا جاء عبد الخالق ليكرس الإيحاء في رسم الصورة الشعرية ونجح ، فكانت الحصيلة التي ذهب إليها أن ( تساقط من حولك الرؤوس الحائرة) وهذا التوظيف باستخدام المبني للمجهول هو ما قصده كيطان لإضفاء قدسية الجمال في تعبيره على صورة المرأة التي قصدها ، وأجاد في تعبيره عن صورتها ، كما في آلهة الحب عند الشعوب التي كانت سائدة وبادت.
السلام على الهضاب المليئة بالشجن
السلام على العيون مضاءة بالقلق
وعلى نفر من الطهر أو الرغبة بالخلاص
وكنت بين الحشد تبتسمين
ترتلين على الجموع حديثاً بالبصائر والبخور
تنهض في الوديان صروح من الجمال
تسّاقط من حولك الرؤوس حائرة
وكلمة بعد أخرى
يهفو إليك قلب وجل في حافة العالم
وفي الفقرة الثانية من قصيدة ( واحد وثمانون) استعاض عبد الخالق كيطان ب ( المبهم) كعنصر أساسي بنى عليه هيكل أبياته ، مستعيضاً به عن الوصف ، الذي كان أساس المطلع ، فأستخدم ( ياء النداء) وعلى الرغم من إن ذلك المنادى وفق قواعد اللغة ( للمذكر) ، إلا انه كان مبهماً بامتياز ، فمن أولئك السادة الذين تدور حولهم الآلف الأسئلة التي ضمنها قصيدته ، ومن هم الذين يأكلون العشب والورق ، ولماذا الورق اصفر ، ولماذا فارقته الخضرة، ولماذا يصر كيطان على مخاطبة أولئك السادة بعيداً عن فطرة الخلق التي أوجدها الله، وكرستها نواميس الكون ، هي تعبيرات مجازية أراد منها كيطان تصوير الحياة التي ترافقها المعاناة ، وربما فارقها أولئك السادة الذين خاطبهم ب( ياء النداء) تعبيراً عن التواصل الروحي مع من ذهبوا ، وانتشرت قبورهم ربما وكما أشار حين نبتت على تلك القبور وروداً ، بعد سنوات العناء التي ضمنها كيطان خطابه لهم ، وتعاقبت الأحداث والأزمان ، فكانت تلك المساحة التي تحتوي أجساد المخاطبين طريقاً تتخلله الزهور مر من خلاله جنود ليحنوا احدهم على تلك القبور برشة ماء بارد.
عبد الخالق كيطان دخل من المبهم في حواره مع أصحاب القبور ، ومر بالواقع عبر الفطرة ، ومن ثم ختم فقرة ناضجة من القصيدة بالوصف الذي أعاده لما بدأ في مطلع أبياته ، إذا هناك تحول في المفهوم يتقلب بين الوصفي والإبهام لإضفاء التشويق ربما ، ولا نريد أن نقول المقدس في الحوار الذي دار مابين المخُاطب والمخَاطب ، لتظهر الصورة وفق ما أراد لها كيطان أن تكون محببة لدى المتلقي ، والذي لا يخرج من صورة تقديس هذه الأجواء ، كونها تمثل لديه عوالم غيبية ،بخاصة ما يتعلق بموضوع القبور والموتى ، والجوانب الدينية والإنسانية الأخرى.
أيها السادة الذين يأكلون العشب والورق الأصفر
يا من تركتم من وراءكم ألواح الفطرة واليأس
فزرعتم في البساتين وروداً
بعد هذه السنوات العصيبة
يمر الجنود على بقاياكم
فيرشون عليها الماء البارد
عالج عبد الخالق كيطان الغائب عبر استذكار الأشياء والأماكن ، أي كرس معالجته عبر ( الألم والوجع ) ما يعني انه استخدم الوجداني في عملية إضفاء الوصف النفسي على تراتيب المكان، حتى وإن كان ذلك المكان يشكل جوهر ذلك الاستذكار ألا وهو العقل ، فجاء بالرمز كدلالة واضحة لا تحتمل الغموض للإشارة الى مكان أو امرأة أو حتى ذكرى عابرة تركت ألقها في حيز الذاكرة .
ولتكون كلماته ثابتة مجسدة في ذهن القارىء، ذهب الى توصيف حدث معين قصده بعينه دون سواه، فأطلق عليه الليلة الرهيبة، وهذه من المؤكد لا تنسى، أي أن كيطان اشتغل على خيوط الذاكرة الثابتة ( الحقائق) رغم إن ( مازندران) لاتزال في عداد المبهم من الأشياء أو الأشخاص ، إلا إن تأويله بهذه الصورة يحتمل الصورتين دون تفريق ، وهنا يكون انشطار المعنى وفق التصور المذكور يحرك ربما ما قد يوصف بالجمود في ثنايا القصيدة، وينقلها الى الفعل المباشر بعيداً عن التخيلات التي أراد لها الشاعر أن تكون قالباً لرسم شكل القصيدة ، وليخرج منها الى القارىء بتصور عالي ينشأ من خلاله دلالات المعنى عبر الشكل السردي وتوازن الأثر الموسيقي الدرامي لبناء الأبيات .
إلا أن كيطان يعود الى البوح بكل صراحة ليقول للقارئ ، ها أنا أعود بك للحقيقة وانقلها دون رتوش ، هي مجرد حلم ، أراد الشاعر أن يذهب بذهن المتلقي الى تصور ملحمي عبر استخدامه لعبارات مثل ( أسرار، حكايا، أساطير، ليلة رهيبة) وكأن عبد الخالق كيطان يصف لنا حادثة من العصور القديمة ، وما كنا نسمعه من عصر السحرة والمردة والمجهول.
إلا إن كل ذلك كان مجرد حلم ، ورغبات مكبوتة، وجهنم أخرى ، نستشف من كلامه بان هناك جهنم أولى عاشها أو من ناداهم وخبروا طرقها، وأوصافها ليعود ويصف لهم عبر ذلك الحلم ، تلك الجديدة التي احتوت ليلة الفزع ( الليلة الرهيبة).
مازندران
يا قبلة الأسرار والحكايا والأساطير
هل تتذكرين الفزع في الليلة الرهيبة؟
كيف يسطع في قلبك كمان وحيد
وبضعة منشدين؟
لم يكن غير حلم
رغبة مكبوتة في الصراخ
لم يكن سوى جهنم أخرى
يذهب إليها الرجال بعافية
وامرأة تريد النبوءة
عبد الخالق كيطان خرج بقصيدة ( الصمت والذكرى) هذه كما يحلوا لي تسميتها ، بدلا من ( واحد وثمانون) ، ليجسد علناً عملاً ، اقل ما يقال بحقه هو عمل مبدع ، خرج من الذكرى الى عالم المجهول، استخدم الوصف ، وعالج المبهم، وتناقل بين عناصر القصيدة بكاملها، لم يتجاوز المكان ، وأصر على الشكل بصورة منطقية معبرة، وظف الزمن بشكل أنيق، وزاد أن دخل في الغيبيات بصورة متقنة وخرج بسلاسة منها ، ليعود ويكرس للقارئ الحقيقة كما هي عبر تذكير المتلقي بأنها لا تعدوا كونها (حلم) .ولم ينسى كيطان عبر الوصف تنقلاته الشيقة مابين الغزل والحب ، والتلاشي والانبهار والاستذكار ، والأشياء والأماكن ، ولم ينسى الموروث من العادات ، وحكايات الحراس على طرقاتهم، والخوف الذي يلف المدائن من ذكرى عبرت خلال زمن قاهر.
واحد وثمانون ، هي للذكرى جسدها عبد الخالق كيطان محطة استذكار مخيفة، جميلة، شاعرية ، مستوفية ، مرهونة بعبق الماضي ، متداخلة عبر الأحداث مع الحاضر ، بغياب شخوصها ،إلا إنها دالة المعنى.
من ينسى عطر الورد؟
المنديل الحريري يلقمونه فمك
والبئر والحجارة؟
من ينسى سيدة ترفع رأسها
ثم تلقى في المحو الطويل؟
جال الحراس في الطرقات
وكعادتهم يكسرون الجرار ويحرقون الصغار
كلنا نبصر ذلك
ومن قرن إلى آخر
تموت النباتات البرية تحت السرفات
ولا يبقى بعدها غير ذكرى