تابعت في الأيام الماضية ، مثلما سنقرأ لاحقا، الكثير من وجهات النظر لأصحاب أختصاص مهني و باحثين و أراء ناقدة و مؤيدة لما جرى بين ثمانينات القرن الماضي، وكل شخص ينطلق من قناعات خاصة في تقييم الحرب بين العراق و ايران سلبا أو ايجابا، لكن في المقابل لم نتعرف عن الأسباب الحقيقية لهذا الطوفان وظروف الابقاء على وديان انتقام تحمل معها كل سيناريوهات الفتن المستعصية و المعقدة الحلول.
و لأني مهنتي في الطب متخصصة في “ماكنة الحياة ” وأقصد بها جراحة القلب و الشرايين، و لأني تابعت مجريات الحرب من زاويتين مختلفتين، العراق و أمريكا ، بحكم التواجد الجغرافي و الولاء الوطني، فاني سأطرق بابا مختلفا في التعاطي مع الطوفان المذكور، يتعلق بالأخطاء التعبوية و تقاطع المصالح الخارجية، خليجيا كانت أم غربية أو شرق أوسطية، و نقصد بها التعامل المصري الليبي في صفحات مختلفة، خاصة وأن هذه الحرب لم تنته بعد، فما يجري ” تقاسم غنائم” بعقلية غير انسانية يزعزع الأستقرار في العراق، ففي الأولى كانت صواريخ أرض ارض تحصد حياة المئات من العراقيين يوميا مقابل ” عويل” قومي يتبادل أدواره القذافي و جلود و النقيب عبدالله في الميدان الايراني.
وفي الصفحة الثانية من ” التخبط العربي” فقد لعبت مؤسسة الحكم المصرية دورين متناقضين في المعلن، لكنهما من طينة واحدة في السر، فالرئيس السادات فتح “عنابير” الأسلحة المصرية لدعم المجهود الحربي العراقي من قناعة تقول” نحن في خلافات مع نظام العراق لكن الحرب تمثل الخندق المتقدم في الدفاع عن مصالح العرب”، وأيست هي ” الدفاع عن البوابة الشرقية”، وهو ما يتطابق مع رأي خليفته حسني مبارك عندما قال لكتيبة متجهة الى الخليج، “مشاركتنا في حرب الكويت تهدف لمنع بغداد من حكم القاهرة مرة أخرى”، في اشارة الى تعليق عضوية مصر في قمة بغداد العربية عام 1975، و بالمحصلة طالما أن العراق هو الذي يدفع الفاتورة من موارده وأبنائه فلا بأس من تحويله الى محرقة للمصالح، الدرس الذي لم يستوعبه النظام العراقي الى الوقت الحاضر رغم تغير الوجوه والشعارات.
ولن ندخل في تفاصيل الموقف الدولي باستثناء المراهنة الفرنسية على الحاق انتكاسة في المعسكر الايراني بتأييد الماني و مساندة بريطانية، وهو ما عبر عنه قرار الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران عندما وافق و بقرار غير مسبوق في الدبلوماسية الفرنسية على ” تأجير” طائرات ميراج 2000 المتطورة، التي قطعت شريان الحياة في جزيرة” خرج ” النفطية الايرانية وعجلت بنهاية ” غير متوقعة” لحرب السنوات الثمانية الضروس ، التي كان ” دهاقنة ” الغرب يحددون اتجاهات رياحها و يعرفون المتحقق من عائدات في ” بيدر النفط” و الى متى، بينما تكشف القراءة المتأنية للأحداث أن ايران النووية هدفا ثانويا بالنسبة الى أمريكا و الغرب طالما النفط تحت السيطرة.
وفي هذا السياق فهناك سؤال تراجع ذاكرتي جميع مفرداته ” لماذا تخلصت واشنطن من نظام صدام ولم تمس شعرة من رأس ايران”، وهي قضية تحتاج الى تفسيرات عاقلة، لأن الرأي المجامل ليس بالضرورة صحيحا، فهناك جبال و وديان من الأسرار، والتي قد يساعد فك طلاسمها في التخفيف من حدة التناحر العقائدي المسيس مذهبيا في المنطقة، وعلاقة ذلك بانهاك العراق و تحييد دوره الأقليمي لتسهيل مهمة تصدرير ما يسمونه” مباديء الثورة الايرانية”.
كل شيء ممكن في القراءة البحثية و الاستقصائية لما جرى و يجري اليوم في العراق وليس ببعيد عنه، و لأن الحسابات الخارجية الاستراتيجية هي أسرار أمن قومي و مصالح انشطارية ليست للعرض حسب الطلب، فان الوقوع في الأخطاء التكتيكية هو القتل بأم عينه، و سأسوق مثلا واحدا على هذا الأنتحار، حيث يعتبر قرار تجفيف الأهوار الواصلة بين الأراضي العراقية الايرانية جنوب البلاد أخر مسمار في حرفية القرار العسكري و النفسي العراقي، فقد تسبب بكارثة اقتصادية متواصلة الى حد اليوم، لأنها قطعت شريان الحياة لالاف العوائل التي يقاتل أبنائها على خط التماس الأول مع ايران، أو ما يطلق عليه بالمهنة ” الحجابات المتقدمة” ” ما أوصل رسالة خطيرة الى هؤلاء المقاتلين في كيفية الثبات في الميدان و الأهل يداهمهم الموت الغذائي ،بعد أن فقدوا حتى وهم التعلق بخيط الشمس الذي تعكسه مياه الأهوار في صيف عراقي ساخن جدا!!و انتيجة معروفة.
نعم لقد كان قرار تجفيف الأهوار خطأ استراتيجيا فقد أوصل رسالة سياسية أكثر خطورها أن أهل الجنوب يتعاطفون مع ايران بحكم الأنتماء المذهبي لذلك قررنا “نقل” المعركة الى الحدود الخلفية، ما أسس نكبة داخل النفوس لا علاقة لها بحب ايران أو سواد عيونها بل من “رفض معدان” لتقزيم هويتهم العراقية، لذلك تجذرت الطائفية السياسية من ذلك الوقت، لكنها لم ولن تتحول الى معركة وجود ضد الأخوة العراقية، وهي النتيجة التي ترفضها ايران ومعسكرات المصالح الدولية في المنطقة، بينما هي شريان الحياة في العراق لذلك ،ففصائل دم العراقيين متشابهة و مزاجهم غير منغلق عكس سياسيين ” ضيعوا الخيط والعصفور” كما يقول أهلنا، وأن ا لعودة الى عراقيتنا أسرع عملية زرع شرايين وطنية لعودة الحياة الطبيعية في بلد أنعم الله عليه في كل شيء باستثناء قيادة عاقلة، وهي المحنة الواجب تجاوزها بحكومة مدنية تضع الدين في مكانه الصحيح!!
*اختصاص جراحة القلب و الشرايين- أمريكا