23 ديسمبر، 2024 10:54 ص

5000 سنة من الديمقراطية

5000 سنة من الديمقراطية

تشابك مصالح الدين والسياسة،  موضوعا طالما شكل هاجسا لشعبنا العراقي حتى صار واحدا من اكبر أسباب الفوضى والخيبة السياسية في تاريخه المعاصر والقديم.  فتارة تحاول السياسة إلغاء الطابع الديني للدولة، وتارة أخرى تمارس التيارات الدينية تعسفا في الممارسة الاجتماعية ومسيرتها التنموية. وفي كلتا الحالتين تفشل السياسة وتنحرف خططها إلى التناحر والحروب، و يتراجع الدين لعدم تبنينا تعاليمه العظيمة بالشكل الحضاري الذي يجعل منه منظومة أفكار حامية للقانون والأخلاق واحد أركان الثقافة التي تميز مجتمعنا.

لذا لجأت الكثير من المجتمعات المتطورة إلى إنشاء مجالس متعددة داخل نظامها السياسي تمثل بها جميع الأطياف المكونة للمجتمع ولتختزل الأجزاء جميعها إلى كل واحد. فهناك مجلس شورى مثلا أو مجلس أعيان أو مجلس شيوخ إضافة إلى البرلمان الذي يحوي المكونات السياسية. الغرض الإداري من هذه المجالس هو احتواء الفصائل الأساسية والكبيرة و التي تمثل المكونات القوية للمجتمع، كالدين والعشيرة والقومية وغيرها، في هيكل سياسي رصين تسهل  فيه إدارة الدولة ويبعد عنها مخاطر الديكتاتورية و الفوضى في آن واحد.

في السياسية العراقية المعاصرة وللأسف، دخل الجميع تحت مظلة البرلمان بدواعي التكتل السياسي والديني والقومي والعرقي كلها على السواء، وداخل قبة واحدة. لذا أصبح التناقض والتضارب يأخذ أشكالا متعددة، فهو ببساطة ليس اختلافا سياسيا صرفا، أو صراعا دينيا فقط، أو عرقيا تحديدا أو غيره ، إنما هو صراع بين الكل حول الأحقية والتمثيل والصلاحيات داخل وجود متنافر غير منظم بإدارة حكيمة. هذه الصلاحيات المتنافرة لا تستطيع أن تأخذ شكلا واحدا في التصدي لمشكلة، أي مشكلة كانت، لأن هذه الكتل هي بالأساس متنافرة  وتبحث عن خصوصياتها و لا يجمعها في ذاتها شكلا تمثيليا واحدا، أي ببساطة إنها لا تعرف نفسها ولا تجد مكانها.
 و الأحرى أن تكون هذه المكونات المتعددة الأطراف والتكوين، متباعدة في تحديد صلاحياتها الدستورية. هذا التباعد يعني الاختصاص في الإدارة ويعني أن هذه المجالس تعلم تحديدا ماهو دورها ولماذا وجدت أصلا  ككيان له طابعا مميزا ومجالا للتحرك.

لذا تبرز هنا أهمية إنشاء مجالس رصينة داخل الدولة العراقية. المجلس الديني مثلا سيضم الطوائف الدينية برجالاتها ومراجعها، وسيكون له التمثيل المحدد، والصلاحيات التي يحب أن لا يحرم منها ولا أن يتخطاها. المجلس العشائري ويضم رؤساء العشائر في العراق اجمع. بالإضافة طبعا إلى مجلس النواب الذي ستدخل به الأحزاب السياسية فقط، بعد أن يقر له قانون الأحزاب.

كل مجلس له قانونه الداخلي الذي يتفق عليه أعضاءه والذي لا يتعارض مع الدستور. لكل مجلس صلاحياته في صنع القرار السياسي الأعلى، كل حسب صلاحياته و واجباته. ضمن هذا التكوين، سوف لن تدخل الأحزاب التي تملك صفة دينية أو قومية في نسيج الدولة وتفرض واقعا عنصريا أو طائفيا. ستصبح الوزارات تحت الإدارة السياسية المهنية. وبالمقابل سيكون هناك وزارات وصلاحيات وحقوق تصويت تابعة فقط للمجلس الديني، وصلاحيات وحقوق تصويت وغيرها تابعة فقط للمجلس العشائري وهكذا.

إن أمثلة هذه النظام كثيرة ومتعددة في برلمانات العالم المتحضر، ويكاد لايخلو نظام سياسي من هذه المجالس المتعددة. لكننا للأسف لا نعمل به في العراق. علما انه نظام عراقي أصيل طبق في الحضارات العراقية القديمة وفي بلاد الرافدين. حيث كان أول برلمان سياسي معروف في التاريخ الإنساني قد اكتشف في مدينة (كيش) وكان معمولا به في هذه المدينة العظيمة في حدود 3000 سنة ق.م. وكان هذا البرلمان مثله كمثل أرقى البرلمانات الحالية حيث كان مؤلفاً من مجلسين، مجلس الأعيان أي مجلس الشيوخ ومجلس العموم أي مجلس النواب. كما هو الحال في الدول الديمقراطية الآن، كما في بريطانيا مثلا ، حيث تتكون الحكومة من مجلس النواب ومجلس العموم المعينين من مجلس اللوردات بعد أن يحصل على الموافقة الملكية.

نحتاج نحن في العراق لوضع دراسة متكاملة حول موضوع شكل الدولة وكيفية تحديدها، وكيف نخرج بنظام من صنعنا نحن،  نستطيع في ظله ان نعيش بسلام. هذا النظام من سماته الأولى، تحديد هذه العلاقة الغير متكاملة بين الدين والدولة، والتي تنتظر رجال دين لايفكرون بطائفية، وكذلك إلى سياسيون أحرار.

إن قرار الاستقالة الحالي للسيد مقتدى الصدر، بغض النظر عن انعكاساتها والآراء المخالفة أو الموافقة لها. إلا أنها تعطي الفصائل الدينية الأخرى والتي انخرطت في السياسة، الفرصة الكبيرة لإنقاذ العراق وتصحيح مسار العملية السياسية التي لم يتجرأ احد على الأخذ بزمام المبادرة فيها ومجابهة المشاكل الكبيرة التي تعتريها والسير نحو تغييرها. كيف؟ ان قرار الاستقالة جاء بعد رغبة السيد الصدر الابتعاد عن السياسة، لأنه لا يستطيع مجاراتها كونها خارج ميدان اختصاصه العقائدي. ان السيد مقتدى يتجه الآن إلى لملمة تياره الديني وربما سيحافظ في المستقبل على إنجازه العقائدي فقط، وهو الرأي الاصوب والذي قد دفعته إليه الوقائع والأحداث السياسية المتوالية في العراق.
 نحن نهيب بعلمائنا وقادة الأديان والمراجع حرصهم على جعل المعتقد والدين في محله المترفع البعيد عن شوائب المصالح الذاتية. وعسى أن تتم  دراسة مقترح تأسيس مجلس ديني أعلى في البلاد يكون مفتاحا للحل السياسي وإبعاد كل تكتل أو حزب  يأخذ من الدين غطاءا لإعماله التي تظلم الإنسان وتشوه معتقداته. ويكون هذا المجلس هو الممثل للاطياف والرادع للتناحر الطائفي. ولانتمنى ان تنسحب القوى الدينية الى الظل، بل يجب ان تبقى عنصرا قويا فاعلا ضمن هيكل سياسي يحافظ على اتزان العلاقة بين الشعب والحكومة.

فقرة من مسودة لقانون الأحزاب المطروح حاليا في مجلس النواب
اولا :” لا يجوز تشكيل الحزب او الانتماء اليه على اساس عرقي او قومي او مذهبي او اثني او على اساس التفرقة بسبب الجنس او العرق او الطائفة او القومية او الدين والعقيدة”

[email protected]