يصف (( الجبرتى )) فى كتابه ((عجائب الآثار)) الأوضاع العامة قائلًا : (( كان الوقت فى هدوء وسكون , والأحكام فى الجملة مُرضية , والأسعار رخيّة , وفى الناس بقية , وستائر الحياء عليهم مرخية )) , ثم يذكر بيت شعر عجيب يقول: (( ما الدهر فى حال السكون بساكن.. ولكنه مستجمع لوثوب )) , ويبدو أن الجبرتى أراد أن يرمى بهذا الاستدعاء الشعرى للتقلبات العاتية التى سوف تشهدها مصر, بعد فترة الاستقرار القصيرة التى قضتها فى ظل حكم (( محمد بك )) , والحقيقة هذه أبيات عميقة الأثر في نفسي , تملأ جوانحي بخواطر فلسفية يُمكن قنصها في أحرف , وتملؤها زوابع يصعب التعبير عنها بوضوح : (( نحاذر أحداث الليالي وقلما * خلا من توقيهن قلب أريبِ , ونرتاب بالأيام عند سكونها * وما ارتاب بالأيام غير أريبِ , وما الدهر في حال السكون بساكن * ولكنه مستجمعٌ لوثوب )) , بما يعني أن الدنيا أو الزمن لا يستقر تمامًا , بل يتجمع لتقلبات أو حركات مفاجئة , لقد تعوّد الجبرتي في تاريخه أن يعلق بهذه الأبيات على السنين التي يهدأ الشارع فيها , برغم سوء الأحوال وإمعان المماليك في الظلم والملعنة .
يعبر بيت الجبرتي عن أن الزمن ليس جامدًا أو ساكنًا أبدًا , بل هو دائم التغير والتحول , ويحمل في طياته استعدادًا للقفزات والتغيرات الكبيرة, إنه يصف حركة الدهر المستمرة , حتى ان كان في ظاهره السكون , فهو يخبئ بين طياته الاستعداد للوثوب والتغير, ومثله قول أبو العتاهية , الذي يعبر عن تقلب الدهر وتغير الأحوال وعدم ثباتها : (( إنما الدنيا فناءٌ * ليس للدنيا ثبوتُ , فتبارى في المعالي * فكفى بالموت قوتُ )) , وللزبيري (معاصر) , قوله (( دوام الحال من المحالِ * ومن لم يمت لابد أن يتقلبَ )) , فهذا الشطر الثاني تحديدًا (( ومن لم يمت لابد أن يتقلب )) يعبر عن فكرة جوهرية , وهي أن التغير والتقلب سنة كونية لا مفر منها , حتى وإن لم يأت الموت , فالأحوال تتبدل , وهو ما يتفق مع فكرة أن الدهر ليس ساكنًا.
فعلًا , إنها لأبيات عميقة الأثر تحمل في طياتها حكمة بالغة تتجاوز الأزمنة والأمكنة, هذه الخواطر الفلسفية التي قنصتها من أبيات الجبرتي لا تقف عند حدود مصر في عصره , بل تمتد لتلامس واقعنا المعاصر في العراق , وتلقي الضوء على طبيعة الأحوال فيه , يظل العراق , هذا البلد العريق بتاريخه وحضارته , محط أنظار العالم ومادة دسمة للتحليل والنقاش , فما بين صخب السياسة وتحديات الاقتصاد , يبقى الواقع العراقي أشبه ببيت الجبرتي الشهير : (( وما الدهر في حال السكون بساكن , ولكنه مستجمع لوثوب )) , هذه المقولة تختصر الكثير من ملامح المشهد العراقي الراهن , حيث يبدو السكون الظاهري أحيانًا وكأنه يخفي تحركات عميقة وتغيرات جذرية , وفي سكونٌ يسبق التحولات , قد يرى البعض في العراق اليوم حالة من الجمود أو الاستقرار الهش , فالصراعات السياسية المستمرة , والتحديات الأمنية المتفرقة , والبطء في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية الكبرى , كلها عوامل قد توحي بأن الزمن قد توقف في بعض جوانب الحياة العراقية , الشارع العراقي , الذي شهد موجات احتجاجات واسعة في السنوات الماضية , قد يبدو هادئًا نسبيًا في الوقت الراهن , لكن هذا الهدوء لا يعني غياب المطالب أو تراجع الآمال , إنه أشبه بـ(( سكون )) يوحي بالترقب , حيث تظل القضايا الجوهرية عالقة , والشعوربالإحباطحاضرًا , وإن كان تحت السطح .
تستجمع الوثبةٌ قواها , فالنظرة المتعمقة تكشف أن هذا السكون ليس مطلقًا , بل هو أشبه بفترة (( استجماع لوثوب )) , فالمجتمع العراقي يتغير باستمرار , وتتراكم فيه طاقات كامنة تبحث عن منفذ , هناك حراك شبابي واعٍ يسعى للتغيير بعيدًا عن الأطر التقليدية , وهناك قطاعات واسعة من المثقفين والأكاديميين ورجال الأعمال يعملون بصمت لبناء أسس لمستقبل أفضل , كما أن الوعي المجتمعي يتزايد بشأن أهمية الحكم الرشيد ومكافحة الفساد , وتبرز أصوات جديدة تطالب بالمساءلة والإصلاح ,وعلى الصعيد الاقتصادي , ورغم التحديات , هناك جهود حثيثة لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط , المشاريع الصغيرة والمتوسطة بدأت تنتعش , والاستثمار الأجنبي , وإن كان محدودًا , يشهد بعض النمو, هذه التحركات , وإن كانت بطيئة , تمثل بذور (( الوثبة )) التي يمكن أن تدفع بالعراق نحو مسار جديد.
المستقبل في العراق ليس محددًا بعد , ولكنه يعتمد على مدى قدرة القوى الفاعلة , من حكومة ومجتمع مدني وشباب واعي , على استغلال هذه الفترة (( الاستجماع )) لتحويلها إلى (( وثبة )) حقيقية نحو الاستقرار والازدهار والعدالة , إنها دعوة للتفاؤل الحذر, وإيمان بأن الإرادة الوطنية قادرة على تجاوز الصعاب وصنع غدٍ أفضل , وتبقى التحديات كبيرة ومتعددة , من استمرار التدخلات الإقليمية إلى ضعف المؤسسات الحكومية , ومن الحاجة إلى إصلاحات تشريعية عميقة إلى أهمية بناء الثقة بين المواطن والدولة , ولكن في خضم هذه التحديات , يظل بيت الجبرتي يضيء لنا زاوية مهمة من المشهد العراقي : أن (( الدهر)) لا يستقر على حال واحدة , وأن (( السكون )) قد يكون مجرد مرحلة تسبق (( الوثوب )) .
يقول المتنبي : ((لا خيل عندك تهديها ولا مالُ * فليُسعد النطق إن لم يُسعف الحالُ )) , يعكس هذا البيت فكرة تغير الحال وتبدله , فإذا لم يسعفك الحال (الظروف المادية) , فليكن لديك شيء آخر (النطق أو القول الحسن) يسعفك , أي أن الحال متقلب وليس ثابتًا , ولأبي تمام قوله : (( هُوَ الزَّمَانُ فَلا تَرْجُو دَوَامَ لَهُ * إِلاَّ عَلَى الْحَدَثِ الْمَحْمُودِ وَالشَّغَبِ )) , الذي يؤكد صراحة على أن الزمان لا يدوم على حال واحدة , وأنه مرتبط بالأحداث والاضطرابات (الشغب) , وهو قريب جدًا من معنى أن الدهر ليس ساكنًا بل مستعد للوثوب , وهذه الأبيات كلها , وبطرق مختلفة , تؤكد على ديناميكية الزمن وعدم ثباته , وأن السكون الظاهري قد يخفي وراءه استعدادًا للتغير الكبير, وهو المعنى الأساسي في بيت الجبرتي.