من وحي شهريار وشهرزاد (28)
العزلة ليست حلا
شهرزاد : يخيّل اليّ ياشهريار أننا بحاجة الى كهف تحجبه مياه شلال ، أو معبد قديم لا أنس فيه ولا جان ، أو سفينة كبيرة في بحر لجي تقودها الأقدار ، أو صومعة لا يعرف طريقها إلا الله .. هنالك وفي أحد هذه الأماكن نستطيع أن نصارح أنفسنا ونعيد اليها طاقات المحبة والنجاح .
– إعتزال الناس حكاية قديمة ، الأصل فيها إن العالم من حولنا شرير ،وإننا بحاجة للعزلة والتأمل بعيدا عن الشر والأشرار ، في أزمنة خلت وماندر في زماننا هذا ،وكان طالب العزلة يلجأ الى دير أو صومعة ليصبح كاهنا او عابدا ، يجعل ذلك المكان كهفه وكنفه ، يعتقد أن الناس مسؤولون عن عذاباته وإخفاقاته ، والخلاص الوحيد باعتزالهم من غير رجعة ،والسؤال الملح هنا : اذا كنّا نبحث عن تطوير الذات ومصارحتها وتغيير أُطرها الفكرية ،وإستحضار طاقاتها المبدعة ،فما ذنب الناس في ذلك ؟! ، وكيف لنا أن نقيس نجاحاتنا في ذلك التطور إنْ كنا في معزل عنهم ؟ .
إن الكهف الذي لا نسمع فيه إلا أصواتنا وهدير الشلال ، او الصومعة التي تردد علينا أفكارنا ، او السفينة التائهة في أحد المحيطات أجواءٌ قد توفر لنا ساعات تأمل ، لكنها بأي حال من الأحوال لن تكون نافذة تحررٍ لذواتنا من قناعاتنا المحطبة، او أفكارنا السلبية ، علينا أن نعيش بين الناس لنثبت لأنفسنا قبل غيرنا أننا قادرون على التغيير، فملامح ذلك التطور لن تظهر إلا من خلال تأثيرنا على الآخرين ، ولن نرى ثماره إلا في عيون المحيطين بنا ،أمّا تَبدُل القناعات فلن يرتسم إلا في تغيير تصوراتنا للآخرين.
المصارحة والإستعداد للإنتقال الى مرحلة جديدة ما هما إلا إفكار نيرة ندخل بها الحياة من باب جديد لنرى الناس بوجوه مختلفة والأشياء بمعانيَ غير مسبوقة .
ولا أدعي أننا قادرون بمجرد مصارحة ذواتنا على تصويب كل عيب ،وتهذيب كل سلوك، لكننا بكل تأكيد نرتقي بأفكارنا درجة بعد أخرى على سلم النجاح .
دعيني ياشهرزاد أقص عليك حكاية أحد العاشقين الذي أخفق بالزواج من حبيبته فقرر أن يعتزل الناس ، حدث ذلك في ثمانينيات القرن الماضي وفي أحد احياء الكرخ القديمة ببغداد ، حينما هام قريب لي بابنة الجيران ، وتعلق بها قلبه أيما تعلق ، صار لا ينام الليل ولايسكن في النهار ، نفسه على شفى حفرة وهو يقضي ساعات عند باب داره القديمة المطلة على ستارة في اخر ( الدربونة ) (1) تحجب النظر الى داخل بيت حبيبته برغم بابه المفتوح طوال ساعات النهار ، الحال من الحال .. فقير في حي شعبي يحب فقيرة من الحي ذاته ، إنحنى مرات ومرات ليقبل أقدام والديه متوسلا علّهما يرفقان بحاله ،ويخطبان له محبوبته ، لكنه ترك عمله منذ وقع في حبها والحصار المفروض على العراق أنهك الأب الساعي على رزق عياله بأجر يومي لا يكاد يسد رمق العيش ، أشفقت عليه أمه ،وكانت مستعدة لبيع أسورة ذهبية خبأتها لأيام موحشات ، وأُرْغِمَ الأب بدموع الأم على تلك الخطوة ، فاعتذر أهل المحبوبة ، وبرروا موقفهم بسوء الأحوال المالية المشتركة، فهم يبحثون عن زوج يسعد ابنتهم الوحيدة أكثر ، ذبل الشاب الوسيم يوما بعد آخر حتى صار كغصن شجرة مُنع عنها الماء ، وحجبت عنها أشعة الشمس ،وسقتها الصحراء ملحا أجاجا ، ولم يبقِ من ملامح الحياة فيها شيء يذكر ، كان رقيق القلب تسابق دموعه حسرات أمه عليه ، زرته ذات يوم وكنت فتيا وهو يكبرني بعامين ، وقد جمعتنا في السنوات الماضية علاقة وطيدة ، فكلانا يحب الشعر الفصيح ، قلت له ممازحا : إن العشق جعلك أكثر نضارة فالحب يشع من عينيك ، لكنه زادك رشاقة ..ربما لاتأكل جيدا ؟
نظر إلي بتكلف وسالت دموعه كنهر جارٍ قبل أن يردد بيت شعرٍ مشهور :
لا يعرف الوجد إلا من يكابده .. ولا الصبابة إلا من يعانيها
شعرتُ بحرج شديد وأجبته بتعاطف كبير : حقا ياصاحبي ..أعانك الله ،لكنني عهدتك قويا صابرا فلا تجزع من رحمة الله .
مر أسبوع كامل قبل أن تصلني أخبار جديدة عن (عاشق الكرخ ) ، قال لي أخوه الأكبر لقد اعتزل الناس جميعا ، هو في المسجد دائما ،ولا يعود الى المنزل سوى ساعة ليطمئن على أمه ويطمئنها بإنه يشعر براحة كبيرة ، لم يعد يرغب بالزواج ولا تهمه الستارة إن داعبتها رياح الشتاء أو نسائم الصيف لتسفر عن حلمه الضائع ، انه يناجي ربه بإستمرار ويردد :
إنْ صح منك الوصل فالكل هينٌ – وكل الذي فوق التراب ترابُ
بعد عام كامل رأيته جالسا في ركن من أركان المسجد ، قيل لي إنه لا يفارقه ابدا ، قليل الكلام ، كثير التأمل، أنينه لا ينقطع ، لكنه لا يفتر عن التسبيح أبدا .
قلت له : أما آن الأوان ياصاحبي لتعود الى الحياة ؟
– أنا أعيش الحياة بشكلها الصحيح الآن .
– ألا ترى حالك ؟ .. لماذا لم تسعفك العزلة طوال هذه الشهور ؟ .. لماذا يسمع الناس أنينك بين الدقيقة والأخرى ؟ .. ألا ترفق بحال أمك المسكينة؟ .. ألا ترحم شبابك ؟.. لو كان الله يريد منّا هذه الجلسة بلا انقطاع لما أمرنا بالسعي والعمل .
ماهي إلا شهور أخرى حتى تزوجت المحبوبة من أول رجل غني طرق بابها .. حينما وصله الخبر، كما قص عليّ فيما بعد ، ضحك بصوت عالٍ تعجب منه رواد المسجد ، ثم بكى بكاءً شديدا ، ماهي إلا ساعة تأمل ومصارحة للذات ، للمرة الاولى منذ وطأت قدامه المسجد ،حتى عاد الى بيته وقبّل يدي أمه ، وأصلح هندامه ثم توجه الى عمله القديم في ورشة تصليح التلفاز ، كان ماهرا وقادرا على تطوير أحواله المعيشية لولا تلك العزلة .
يقول عاشق الكرخ : في تلك اللحظات أدركت حماقتي ، كأنني كنت جالسا لعام ونصف تقريبا بانتظار أن ياتيني خبر زواجها .. لو أنني صارحتُ نفسي يومَ رفض أهلها زواجي بها ، وسعيت الى جمع بعض المال من مهنتي التي أجيدها ربما كنت قادرا على الفوز بها .. لاأنكر أنني كنت أشعر بالطمأنينة كلما اتكأت الى سارية المسجد لكن ذلك لم يكن كافيا لتحقيق النجاح أبدا .
1 – الدربونة :زقاق ضيق تشتهر به مناطق بغداد القديمة
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]