19 ديسمبر، 2024 12:10 ص

عيد، عدت بأية ( كأبة ) ياعيد

عيد، عدت بأية ( كأبة ) ياعيد

كل عام وانتم بخير!!

هذه هي التحية التي ستسمعها كثيرا في العيد ، وسوف تقولها أيضاً بدورك كثيراً لغيرك من الناس..  ولا يهم ان تكون في قرارة نفسك حزيناً ومأزوما ،  فالمطلوب ان تبدو سعيداً، وحينما تتناول الهاتف الجوال لابلاغ تهنئاتك الى معارفك..  فستكون عبارتك الاولى التي ترسلها هي :- بمناسبة العيد السعيد اقدم لكم اجمل التهاني..

من جانبي، أود ان أهمس لك بهذه المناسبة السعيدة، انك لست المأزوم الوحيد، فالكثير من الناس يتظاهرون بالسعادة لأن ليس لهم اي خيار آخر.

فالأعياد ، من حيث المبدأ، مناسبات المفروض تحمل الفرح والحبور، وتقرّب المؤمنين من الخالق القدير، اذ تسقط معها كل الاقنعة الزائلة ، والاهتمامات الدنيوية العابرة، لتصبح الشؤون الروحية في لحظة الصفاء الايماني الشفاف ، حجر الاساس في التطلع الى ما هو خارج عالم المادة والجفاف.

وعيد الفطر لهذا العام ٢020 ، هو واحدة من المناسبات الدينية الهامة التي تدفع بالنفس الى الانعتاق من عالم المادة، والتقرب من الخالق اكثر فأكثر للاستفادة من معاني العيد، ليس فقط من الناحية الدنيوية النافلة، ولكن، وقبل كل شيء آخر لناحية الدلالات الروحية السامية والمعاني الانسانية الشاملة التي يحفل بها العيد.

ولعل ابرز تلك الدلالات هي التي تتعلق بالألفة والسلام اللذين بشر بهما كتابنا العظيم القرآن.  لكن، وامام كل ما يعانيه العالم من حروب وتباغض ، لابد من التساؤل عن نصيب الارض من السلام، وعن مدى اقتراب البشر من المحبة.

كان العيد بريئاً وجميلاً .. وارجو ان لا يتبرع احدهم فيكتب اليَّ ، ان العيد لايزال بريئاً وجميلاً في عيوننا ..  وان كل ما حدث هو اننا تقدمنا في السن قليلاً فتغيرت اشياء كثيرة بما في ذلك العيد.

فالواقع يثبت يوماً بعد يوم ان البشر يتباعدون اكثر فاكثر، وان المحبة بينهم تضمحل، وان السلام امنية يكسرها التوتر الذي يغزو العالم في اكثر من مكان.  من هنا يتأكد ان العودة الى روحية الاعياد هي اهم ما في هذه الاعياد، وان عالماً يتناحر بقسوة ويقتل ابناءه بوحشية ، لا يمكن ان يكون قريباً من دلالات العيد، اي عيد، وخصوصاً عن معاني عيد الفطر.  فلا تكفي ان تعم الاحتفالات الامة العربية والاسلامية ، اذ ان البشرية ماتزال مهتمة بأمور كثيرة فيما المطلوب واحد فقط لاغير ، وهو السلام والمحبة.

كان العيد مناسبة سعيدة حقاً يفرح فيها الكبار كما يفرح الاطفال..  وكانت مدننا تتحول الى لوحات جميلة نابضة بالحياة والبهجة..

ماحدث هو ان المجتمع ككل تغير!!

نحن الآن جديون الى درجة غير معقولة ، لا نجيد الاسترخاء ، ولا وقت لدينا او ربما لا مجال للترويح عن النفس، اصبحنا نقترب شيئاً فشيئاً من المجتمعات المادية..  وثمن ذلك هو اننا لم نشعر بسعادة حقيقية حين يفاجئنا العيد.

عيد ، بأية حال عدت يا عيد..

من السهل ان يكون انساننا سلبياً ، وان يتفاءل بالمرارة التقليدية..  فكل ما في بلدنا العراق او في منطقتنا العربية الآن وقبل سنوات..  يبرر هذا السؤال الذي تكرر ظهوره في مطبوعاتنا مئات المرات..  وكأن الذي استوحاه من واقع معين كان يعرف ان هذا الواقع سيظل يعيد نفسه او ان مبادراتنا العاجزة ستظل تردده الى ما شاء الله.

فاذا ما بدأنا بعراقنا ، نلاحظ ، الآن ، ان ارض الرافدين هي ابعد ما تكون عن السلام والامان ، فالارض العراقية تعيش اضطرابات واسعة ، وتغرق في دماء غزيرة تنزف من اغلب افراد الشعب العراقي ، وهم يتعرضون لواحدة من اسوأ عمليات الاضطهاد التي يمكن أن يتخيلها العقل البشري.  فكم الفارق شاسع بين رموز ودلالات عيد الفطر ليس عيد الفطر فحسب وانما اي عيد – من جهة ، وبين ما تشهده بلاد النهرين من هول الابتعاد بين ما يرمز اليه العيد من سلام على الارض ومحبة بين البشر وبين ما تعيشه من ويلات ومشاكل دامية تتوالى في التساقط على رأسها دون شفقة أو رحمة..  منذ عقود وشعبنا الذي يستقبل العيد يعرف كم هو كبير حجم المرارة التي تعتمل في صدره وسط الضائقة الاقتصادية الخانقة والمشاكل السياسية البالغة التعقيد ، حتى بهجة الاعياد فانها تراجعت في عيون هذا الشعب الصغيرة التي لم تعد تتسع لغير الدموع الكبيرة.

وكما في العراق ، كذلك في دول كثيرة في هذا العالم ، فالشراسة تهجم اكثر فأكثر ، وواحات المحبة تتقلص تدريجياً امام موجات القلق والخوف التي تضرب شطآن العالم جميعاً.

هناك حالة تعرفها المجتمعات المادية تسمى ب (اكتئاب الاعياد)  ، وهي حالة نفسية تتلبس الكثير من الناس في الاعياد وبسبب هذه الحالة تكثر حوادث الانتحار في المجتمعات اثناء الاعياد..  ويردد المحللون النفسيون هذه الظاهرة الى احساس الفرد او بالاحرى توهمه ، ان جميع افراد المجتمع يتمتعون بعيد سعيد بينما لا يستطيع هو ان ينعم بهذا الشعور وهذا ما يلقي به الى المزيد من الحزن والاكتئاب.

واذا تأملنا هذه الظاهرة نجد ان سببها الحقيقي هو العزلة ، والوحدة والشعور بالغربة التي تسكن اعماق الناس في المجتمعات الجادة التي لا تربطها سوى مشاعر باردة من المجاملة العابرة.

من المؤكد ان مجتمعنا وان كان قد مر بتغيرات كبيرة ، الا انه لم يصل الى هذا الحد من السوء..  وربما يكون الترابط الشديد في مجتمعنا هو الذي يجعلنا لا نحتمل حتى القليل من التغيير في العلاقات الاجتماعية السائدة.

اننا ، بشيء من الجهد المنظم نستطيع أن نعيد للعيد نفس النكهة القديمة..  لكننا بالمقابل ونحن نحمل الى خواتنا واخواننا التهنئة بأنتهاء شهر الصوم وبحلول عيد الفطر المبارك نكتفي بالتنويه بحسرة وألم ، ان هذا الشهر الذي فرض الله فيه حقن الدماء مضى والدماء تسفك بلا انقطاع ، وان العيد الذي يفترض فيه ان يكون تتويجاً لشهر المحبة والاخاء والسلام ، اصبح عيد شعارات مجردة من معانيها.

وقد قال امير المؤمنين علي بن أبي طالب – عجبت للمتكبر الذي كان بالامس نطفة ويكون غداً جيفة ، وعجبت لمن ينسى الموت وهو يرى من يموت.

ولمناسبة حلول عيد الفطر.. حضرتني فكرة اعتقد انها من المعاني الجليلة لهذا العيد وكل عيد ، وقد اخرت كتابتها حتى اليوم ، ان الله عز جلاله والذي أرسى قواعد الكلمة  ومسؤولياتها ، ففي كتابه الكريم القرآن ، يرسي قواعد الجدلية والحوار ، وهما اليوم قاعدة كل مجتمع واطار كل تحرك – ((ادع الى سبيل ربك بالكلمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي احسن ، ان ربك هو اعلم بمن ظل عن سبيله ، وهو اعلم بالمهتدين)).  وفي الانجيل ورد في البدء كانت الكلمة ، والكلمة كانت هي الله ، وكان الله الكلمة.

هذا قول خالد على مر التاريخ ولو شاء العلمانيون والماديون والملحدون.. ان يجيئوا بمثل هذا المعنى ومهما بلغت عبقريتهم لما وفقوا الى بعض هذه الحبكة والى هذا التسلسل – بالحكمة والموعظة الحسنة . وجادلهم بالتي هي احسن.  ان ذلك اوقع معاني الحوار ، واوقع وجوه المناقشة التي جعلتها كل الافكار المؤمنة والملحدة على السواء قواعد وزوايا ومرتكزات للمناقشة وللجدل.

وكذلك ، ان الله اعطى للكلمة حقها ، وكان سبحانه الداعية الى حوار عماده الكلمة الطيبة.  الكلمة غير الخبيثة ، الكلمة الهادية ، الكلمة التي لا تباع ولا تشترى ولا توظف على غير مذابح الحقيقة.

((وضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها ، ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون.  ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار)).

ان في ذلك لاروع معاني الحوار وأخلص دعوة لاعتماد الكلمة البناءة الهاوية التي تكون وحدها قاعدة كل جدل ، وصولاً الى تفاهم بناء ومُجد.

هذه من معاني العيد ،عبر ومواعظ..  فلنأخذ بها لعلنا نفلح في التصدي لكل آلامنا ومآسينا ..لعل اعيادنا القادمة ان تكون اجمل الاعياد ، ولعلها تتحقق امنياتنا التي كدنا ننسى وجودها وتعود الابتسامة الى وجوه كادت الاخاديد التي حفرتها الآلام فيها تصبح احد ملامحنا الثابتة..  فمن حقنا ان نفرح وان نستقر آمنين مطمئنين كما يفعل غيرنا..  وما هذا على الله بعزيز لو اننا الى الله عدنا..

[email protected]