من المنطلق الطبيعي والتكويني لمفهوم الفعل ورد الفعل, تسير منهجية الصراعات السياسية والعسكرية في العالم, فغالبا ما تكون هناك حقوق مضيعة, أو جهة متسلطة, أو طرف أخذ منه الحكم وهو يرى نفسه أنه الأحق بهذا الحكم؛ فتنشأ نتيجة ذلك علاقة بين طرفين مدفوعين للرد على ما يفعله الطرف الأخر بطريقة ارتكاسية, قد تكون فورية أحيانا, وقد تكون غير فورية, تأتي بعد استنفاذ كل الطرق الدبلوماسية.
لم تكن أزمة الصراع السياسي والطائفي والعسكري التي تم فرضها على الساحة العراقية من قبل أحد أطراف الصراع, لتستمر لولا وجود إرادة الطرف البادئ والمعتدي بالإستمرار دون التوقف, أو دون القبول بأي قواعد التزام جماعية, يتعهد بموجبها كل طرف بالانضمام إلى الجهود المشتركة ضد الفئات الخارجة عن القانون, والتي تهدد سلامة الدولة ومواطنيها؛ ومن دون قبول هذا الطرف بأي تخفيف وتراخي في حدة العلاقات المتوترة بين الطرفين, أو أن يصل لمستوى معين لتقبل المبادئ الأيديولوجية للطرف الآخر, من منطلق إدراك مستوى الدمار المتبادل, الذي يقود عادة إلى ظهور مجموعات جديدة من القوة, تساهم بديمومة الصراع وتخريب البنى الأساسية لمقتضيات الأولويات الاقتصادية المحلية.
بعد سقوط الموصل, والتأسيس المنهجي لقوى عسكرية حازت على تأييد إقليمي ودولي لمقاتلة الطرف المعتدي, إضافة إلى انهيار البنى التحتية والاقتصاديات المحلية للمحافظات الحاضنة للقوى المعتدية, ظهر توجه جديد في الصراع, قوامه المواجهة المباشرة بين الطرفين, ومع ما حصل على الأرض من تحقيق انتصارات كبيرة على الطرف المعتدي (الحواضن لداعش), وإنكساره في كل مناطق نفوذه ومقبوليته وتحركه, حصلت حالة من سيطرة وفرض قوة أحد الطرفين على الآخر, وهذا ما نقل موازين القوى في الصراع للطرف الممثل بالجيش العراقي والحشد الشعبي.
إن سيطرة ونفوذ مفهوم القوة في هذا النزاع لها مصادر عديدة، فهي تستمد قوتها من التركيب الثقافي والإجتماعي أو من النوع أو الطبقة. كما أنها تستمد أيضاً من الوضع الوظيفي أو من القدرة المالية. وتلعب القوة أدواراً عديدة في النزاعات، حيث أن حسابات القوة عادةً هي التي تؤدي إلى تبني الطرف القوي لسياسات التسوية , أو إدامة الصراع؛ فالقوة طبقاً للفكر السياسي الواقعي هي التي تحدد كيفية الدخول في النزاع, وكيفية إنهاء هذا النزاع؛ والإنتصارات الساحقة التي تحققت على يد الجيش العراقي والحشد الشعبي, مع تحقق الدعم المادي والمعنوي (الإقليمي والدولي) لها, جعل من هذا الطرف الممثل الحقيقي لمحور القوة الفارض للسيطرة على أرض الواقع.
هنا ستكون المعادلة كالتالي: إما أن تستمر سياسة فرض واقع القوة المتحصلة لأحد طرفي النزاع في العراق (الجيش الحشد الشعبي), على الطرف الآخر المعتدي (الحواضن العقائدية والمناطقية للتطرف)؛ وهذا سيقود إلى لجوء الطرف المنهزم, إلى مبدأ زيادة الجذب الخارجي, وإستحصال دعم أكبر من أطراف خارجية, وهو يعني استمرار الصراع كدورة العنف والعنف المضاد, مما يجعل الصراع مزمنا ومتواصلا, وإذا استمر الصراع لدينا لا سامح الله لعدة أجيال, سيصبح شكلا من أشكال التخيل المتواصل للعداء, حيث تتعزز نمطيات الطرف المنهزم خلف موانع الاتصال, ويصبح الأفراد غارقين في ثقافة مجتمعهم, التي تنطوي على المعاداة والشك المستدامة.
أو أن يلجأ الطرفان بعد مرحلة إنهاك وإستنزاف دموية طويلة, للقبول بحد معين من التسوية, والتقارب بمشتركات يمكن من خلالها تحقيق مستوى مقبول من أطر العيش المشترك, من منطق إرادة بناء دولة متقدمة, تعتمد على مبادئ النمو الصناعي والتكنولوجي, والذي يقود بالنتيجة إلى أنماط متقاربة(متلاقية) للهياكل السياسية والاقتصادية, بصرف النظر عن الاختلافات الأيديولوجية والتأريخية, ودون الحاجة لتطوير أشكال مشتركة من التنظيم الاجتماعي بين طرفي النزاع.
إبقاء الوضع على ما هو عليه, دون اللجوء العقلاني لتسوية سياسية ترسم من خلالها الحدود المشتركة للطرفين, إنما يعني أن حالة الإستقطابات الخارجية ستزداد قوة وتأثيرا وحضورا في الوضع الداخلي للعراق, وإذا أخذنا بالحسبان الظرف الدولي والإقليمي الراهن, وتغير خارطة التحالفات الجيوسياسية في المنطقة, فإننا سنصل لنتيجة حتمية سيُقاد لها العراق, وهي اضطراره للوقوف مع أحد طرفي الصراع الدولي والإقليمي, وابتعاده عن منطقة الحياد التي هو بحاجة ماسة لها في ظرفه الحالي, وهذه النتيجة, ستضطر العراق حكومة وشعبا واقتصادا, إلى دفع أثمان إستنزافية عالية, قد توقفه عن تمثيل حالة الدولة القائمة, لأمد غير قريب.