18 ديسمبر، 2024 10:51 م

لا يقوم التفسير العلمي على أساس إيماني نابع عن الأهداف التي نزل القرآن الكريم من أجلها، بل هو أقرب للتكلف الذي لا يرتضيه العقل ولا يقبله الشرع، وهذا النوع من التفسير ما هو إلا اجتهاد منقطع عن المأثور ولا يؤدي إلا إلى إفساد المادة القرآنية، وفتح ثغرة لأعداء القرآن لأجل أن ينفذوا من خلالها دون صعوبة لتشكيك العامة من الناس بكتاب الله تعالى، وللأسف فإن علماء المسلمين لا يحاربون هذه الظواهر بقدر ما يزرعون الفتن الطائفية في نفوس الناس، ولو أخذ العلماء هذا الأمر مأخذ الجد لفقد أعداء القرآن سلاحهم الذي يشهرونه مقابل القرآن الكريم بين الحين والأخر، ونحن إذ نشير إلى هذا الخطأ الفادح لا يعني أننا نتخذ موقفاً سلبياً من الذي يحاول الاجتهاد المشروع في تفسير كتاب الله تعالى، وإنما نقصد من بحثنا لهذا الأمر عدم التكلف الذي يؤدي إلى نظريات علمية تزول مع الأيام أو تبدل بأخرى غيرها. 

فالأولى أن نفسر القرآن الكريم بطريق يقبله العقل مهما اختلفت السبل إلى ذلك سواء كانت فلسفية أو تأريخية، علمية مشروعة أو أدبية، فقهية أو بلاغية وما إلى ذلك من الطرق التي لا توجب تعقيد الظواهر القرآنية وإخراجها عن الغرض الذي نزلت لأجله، ومن هنا نعلم أن السؤال عن تلك الظواهر لا يجدي نفعاً لمن لا يمتلك العلم الحقيقي في تسلسل الأحداث الكونية، ولذلك كلما وجه بعض الناس الأسئلة إلى النبي (صلا يأتي الجواب حسب أهوائهم وإنما يأتي بما يضمن لهم سلامة دينهم، وخير مثال على ذلك هو سؤالهم عن الأهلة كما في قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189. وفي الأية مجموعة من المباحث أعرض لها على النحو التالي: 

المبحث الأول: روي في أسباب نزول الآية عدة مواضيع أهمها ما ذكر في الدر المنثور وأخرجه ابن جرير عن البراء قوله: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى: “وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابهاأما عن الشق الأول من الآية فهناك بعض الروايات تذكر أن مجموعة من الناس سألوا رسول الله عن الأهلة فنزلت هذه الآية: “يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس 

المبحث الثاني: سبب نزول الآية بشقيها التي اعتمدت كمادة للبحث لا يوجب استمرار السياق بنفس الموضوع وهذا دأب القرآن الكريم، فإن السياق لا يعتبر حجة إذا كان الموضوع يتضمن عدة أوجه، فإذا حصل هذا يحمل الوجه الثاني على أنه جملة اعتراضية، وهذا كثير في القرآن الكريم كقوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ثم بُدل السياق بجملة اعتراضية وهي قوله تعالى: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً بعد ذلك عاد لإكمال الشق الأول من الآية بقوله: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) المائدة 3. وقد نجد الكثير من الآيات على نفس هذه القاعدة منها آية التطهير وغيرها فليس هناك ما يمنع من أن تكون الآية المبحوث عنها من هذا النوع. 

المبحث الثالث: الآيات التي يكون لها سبب للنزول لا يعني أن السبب يلازم الآية في كل زمان ومكان، وإنما تفسر الآية بسبب نزولها كمسألة وقت لا غير، وليس من العدل أن نجعل القرآن خاضعاً لأسباب النزول، فإذا أردنا الأخذ بالسياق وهو الأرجح يجب أن نجعل الشق الثاني مرتبطاً بالشق الأول ولا ينفك عنه، وبناءً على هذا كان سؤالهم عن الأهلة فيه إشارة إلى مطلب آخر لذلك كان توجيههم من هذا الباب، لأن القرآن كتاب هداية، فكأن الله تعالى قد بين لهم فائدة الأهلة التي تنظم حياتهم العبادية دون النظر إلى مطالبهم الأخرى. 

وهذا هو الهدف من نزول القرآن الكريم فليس من اختصاصه الخوض في الحديث عن علم الفلك أو العلوم الأخرى، وإن كنا لا نرفض بعض الاشارات التي هي حقائق علمية لا تقبل الشك وبهذا يظهر أن المهمة التي جاء بها القرآن الكريم لا تستوجب التكلف في تدخل الإنسان بإمور خارجة عن مهامه العبادية، ومن هنا نجد أن القرآن الكريم عندما يشير إلى حركة الأرض والقمر واختلاف الليل والنهار لا يتناولها باسلوب علمي يثير الدهشة التي يروجها أصحاب هذا النوع من التفسير، وإنما يتناولها من حيث تأثيرها في حركة الإنسان العبادية، كما في قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) يونس 5. وكذلك قوله: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيءٍ فصلناه تفصيلاً) الإسراء 12. وكذا قوله: (الحج أشهر معلومات) البقرة 197. وقوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً) البقرة 234. وكذلك قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً) الفرقان 62. ولو تأملت هذه الايات لوجدتها تشير إلى المسألة العبادية التي ترتبط بالقمر والأشهر والليل والنهار وهكذا. 

من هنا يظهر أن الشق الثاني من آية البحث يشير إلى هذا المعنى ولكن من باب التعريض والتحذير لهؤلاء الذين يريدون صرف القرآن إلى أمور خارجة عن الأهداف التي نزل من أجلها، وهذا التفسير في منتهى الظهور فليس في الكلام غموض أو باطن أو إشارات خارجة عن الذوق العربي السليم، وإنما هذه هي الأساليب البلاغية التي اتبعها العرب في كلامهم بل حتى في حياتنا اليومية لا زلنا نتفاهم بهذه الأساليب فعندما تكون بينك وبين غريمك بعض المشاكل التي تريد حلاً لها فليس لك إلا أن تقول له دعنا نخرج من الباب كما دخلنا منه، ولغة العرب بنيت على المجاز والكناية، وهذا النوع من المجاز كثير في القرآن الكريم ولو أردنا التطرق للأمثلة نكون قد خرجنا عن الموضوع الذي نحن فيه. 

وما ذهبت إليه ليس بدعاً من التفسير بل أن الكبار من المفسرين قد استفاضوا الحديث فيه فهذا الفخر الرازي يقول في مفاتيح الغيب: “وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورهايعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق، فقد أتيتم الشيء لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة، وإن كنتم لا تعلمونها، فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم، وهذا طريق مشهور في الكناية، فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له ينبغي أن تأتي الأمر من بابهوفي ضده يقال إنه ذهب إلى الشيء من غير بابهقال تعالى: (فنبذوه وراء ظهورهم) آل عمران 187. وقال: (واتخذتموه وراءكم) هود 92. فلما كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات، ذكره الله تعالى ههنا وهذا تأويل المتكلمين، ثم يضيف الفخر الرازي: فإن تفسيرها يقصد الآية بكاملهابالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه. انتهى. أقول: أراد بالمقطع الأخير أن هناك آراءً أخرى سبقت الرأي الذي ارتضاه في آخر الوجوه التي عرضها ويتضمن كلامه أيضاً الأخذ بتفسير الآية بكامل سياقها دون العدول إلى الجملة الاعتراضية.