انفجرت ثورة 14 تموز 1958 بعد نضال مرير حافل بالتضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب العراقي وأحزابه وقواه الوطنية ضد محاولات السيطرة الكولونيالية التي رعت تأسيس المملكة العراقية ، مُحكمة الطوق على العراق المعروف بغنى ثرواته المادية- الروحية ، والتي تم وضع الخرائط لها من قبل المستكشفين الأوائل ، رسل المملكة المتحدة ،والذين وضعوا البرامج لإحكام السيطرة على العراق، لما له من موقع إستراتيجي مهم ، لقد قاومت الروح العراقية- الوطنية ،المتمردة، كل المخططات الاستعمارية لإلحاق العراق كمحمية بريطانية من خلال التبعية بالإمبريالية في بدايات تطلعها وشراستها للتحكم بالعالم،وكل أرث “السلطنة العثمانية”.قادت القوى الوطنية العراقية صراعاً متواصلاً ضد الارتباط بالأحلاف العسكرية العدوانية التي كانت تطبق على العراق كما قاومت الحكام الذين مهدوا لتلك الأحلاف عبر ديمومة الحكم الإقطاعي واستبداده وتعسفه. لقد احتدمت الصراعات الجماهيرية الاجتماعية- السياسية من اجل انبثاق العراق عبر نضاله الوطني – الديمقراطي ولم تعرف الساحة العراقية غير الهوية الوطنية – العراقية نبراساً في كل الوثبات والانتفاضات والاحتجاجات التي كانت تضع روح المواطنة العراقية في طريق النضال الشعبي- الوطني الديمقراطي من اجل كنس الاستعمار البريطاني وممثليه الذين تعاقبوا على حكم العراق بالحديد والنار وبإنزال أقسى العقوبات بقادة الحركة الوطنية العراقية عبر السجن والنفي والتشريد والإعدام، ولم يكن شعب العراق وروحه المتمردة غائباً عن التاريخ منذ نشوء المملكة العراقية،وما قبلها ، وبقي العراقيون يطاولون الحكم الملكي وممثليه من الإقطاعيين والرجعيين من اجل لحظة التغيير الحاسمة تجسيدا للصراع الاجتماعي-السياسي المتواصل ، الذي شهد صعوداً ونزولاً وتراجعاً وتقدماً حتى اكتسحت الجماهير العراقية مواقع الإقطاع والتبعية والرجعية في لحظة باهرة تميزت بجرأة بعض الفصائل الوطنية العسكرية المرتبطة بالشعب العراقي وقواه الوطنية- التقدمية فأجهزت على الحكم
الملكي في صبيحة 14 تموز 1958 بإسناد شعبي منذ اللحظات الأولى لذلك الفجر. وامتد ضوء 14 تموز ليضيء الطريق لملايين العراقيين من الشغيلة والفلاحين والنساء والمثقفين والشباب الذين اندفعوا لصناعة تأريخهم و لتأسيس منظماتهم المهنية على طريق إرساء المجتمع المدني وتقاليده التقدمية – التنويرية و كانت الأحداث التي أسس لها فجر 14 تموز 1958 نتيجة حتمية فرضتها المستجدات والضرورات الموضوعية والتاريخية لارتقاء الشعب العراقي سلم التطور السياسي- الاجتماعي . دشنت ثورة 14 تموز مرحلة إنجاز مهمات الثورة الوطنية من خلال تعزيز الاستقلال السياسي والتطور الاقتصادي وإشاعة الحريات الديمقراطية ورفع المستوى الاجتماعي للشرائح الهامشية والمضي في طريق التحولات الاجتماعية النوعية في المدن والأرياف اعتماداً على الوعي الوطني الذي تميزت به جماهير العراق وأحزابه و نخبه السياسية – الثقافية ، وعلى اللحظات الثورية المتنامية للمزاج الجماهيري الجارف في مرحلتها الأولى. قامت ثورة 14 تموز بإجراءات حاسمة سريعة لتقويض مواقع الاستعمار الاقتصادية – السياسية وفي مقدمتها الانسحاب من حلف بغداد،وإلغاء معاهدة 1930 ، وكان ذلك دعماً لحركة التحرر الوطني العربية وهي تخوض أشرس معاركها القومية التحررية ، و خطوات أخر منها تحرير العملة العراقية من قيود منطقة الإسترليني، ، وتجريد شركات النهب الاستعماري النفطي من قدراتها في إلحاق الأذى بالعراقيين عبر عرقنة الإدارات في تلك الشركات،واعتماد سياسية خارجية منحازة لقوى التقدم والنضال التحرري في العالم وسن قانون /80/ الذي أعاد للشعب العراقي / 99% / من الأراضي العراقية ذات الخزين النفطي الهائل ، كما عملت ثورة 14 تموز على إحداث تغييرات جوهرية في هيكلية الواقع الاجتماعي من خلال إصدار قانون العمل والضمان الاجتماعي لصالح الطبقة العاملة العراقية ، وقانون الإصلاح الزراعي الذي فتت البنية الإقطاعية عبر تحديد الملكية وتوزيع الأراضي على الفلاحين ، والسماح بإنشاء جمعيات تعاونية فلاحيه لكسر الهيمنة الإقطاعية في الريف،كما ساهمت النخب الثقافية العراقية في الحراك الاجتماعي الذي تفجر بعد
الثورة من خلال المنظمات الثقافية- المهنية التي أسست بعيداً عن تحكم السلطة وإغراءاتها. عمدت الثورة إلى إحداث تطورات بنيوية مهمة في المجتمع العراقي من خلال سن قانون الأحوال الشخصية سنة 1959 والذي لازال صالحا في رؤيته الواقعية-العملية، للمجتمع العراقي متعدد الأديان ، والمذاهب،والقوميات ، و فقراته التقدمية التي واجهت الحملات الشرسة المتلفعة برداء الدين خدمة لأغراضها ومصالحها الدنيوية ، والاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي دستورياً، وفسحت المجال للتنظيم النقابي والمهني والحزبي ، وبدأت في خلق أسس التقدم الاجتماعي من خلال التخطيط العمراني والصناعي الذي اعتمدته الثورة في سنتها الأولى حيث عمدت على خلق الركائز الأساسية لقيام المؤسسات الصناعية – الإنتاجية و تبديل المناهج الدراسية وتعميم المدارس في الأرياف والقصبات النائية وتأسيس جامعة بغداد بروح مهنية عالية مستقلة ، وإسناد رئاستها إلى شخصية علمية -عالمية عراقية لامعة بغض النظر عن دينه ، وانحسرت كل القوى الرجعية متخاذلة أمام الزخم الجماهيري الذي كان سياجاً واقياً للدفاع عن الثورة ومنجزاتها في مرحلتها الأولى بالذات ، إننا هنا لا ندافع عن بعض التجاوزات التي ميزت الشارع العراقي ورافقت تلك المرحلة والتي اندفعت لتؤيدها قوى سياسية كان عليها أن لا تصاب بقصر النظر السياسي و مخاطبة الشارع تنظيمياً و إعلامياً على وفق همجية الغرائز المتوحشةِ . مع علمنا أن تلك المرحلة بحثت و قيمت بوضوح لا لبس فيه من أطراف محايدة قامت بدراستها بموضوعية وأمانة وتجرد كاشفة الكثير من الخفايا والالتباسات التي تم طمسها. وما أن بدأ الزعيم عبد الكريم قاسم طريق الانحراف والتردد والمهادنة والتخاذل بحجج التوازن السياسي ، حتى استثمرت ذلك القوى الرجعية وبعض القوى السياسية في تحالف غير مقدس للإجهاز على مكتسبات 14 تموز و توج ذلك في انقلاب 8 شباط 1963 الدموي ، لحظة اغتيال المشروع الوطني – الديمقراطي العراقي ، الذي سلم العراق أخيراً إلى الاحتلال والذي فتح الباب على مشاريع التقسيم والعزل الطائفي والعمل على وأد الروح والهوية الوطنية العراقية. في ذكرى 14 تموز على العراقيين استذكار هويتهم العراقية التي تجمعهم على اختلاف دياناتهم وطوائفهم و
قومياتهم، من أجل الحفاظ على الوطن العراقي والمشروع والهوية الوطنية العراقية من تلاعب الأيادي الخفية خدمة لمصالح قوى خارجية مؤثرة في الشأن العراقي حالياً ،محولة العراق وشعبه ومصيره دريئة لتصفية حساباتها مع بعض الدول الكبرى بغرض تخفيف الضغط عليها، وتعمد إلى ذلك عبر التفتيت والعزل الطائفي ونعراته المدمرة ، والذي سيجعل الوطن العراقي ونسيجه الشعبي التاريخي ينتمي إلى ماض كان(اسمه العراق وشعب يدعى العراقيين)،عندها ستحين لحظه الانهزام الكبرى في تأريخ الأمة العراقية الذي يمتد إلى آلاف السنوات وعجزت أمام صلادتها وروحها وغناها الثقافي كل موجات الغزو الخارجي التي استهدفت العراق ومكوناته الديموغرافية . قبل الجهاز على ثورة 14 تموز 1958 انبثق بعض الحكام جديرين بحمل اسم العراق ، والحفاظ على تاريخه وهويته الوطنية وانسجام نسيجه الاجتماعي بعيداً عن التمايزات القومية والطائفية والتدين الزائف والمنافق اجتماعياً، وكانوا مثال العفة والتجرد والنزاهة والاحتكام إلى الضمير الوطني العراقي في كل ممارساتهم الوظيفية اليومية وتاريخهم المشرف أولئك الذين قاوموا قطعان الانقلابين المدعمة بالخدمات اللوجستية التي قدمتها المخابرات الأمريكية وبعض دول الجوار العراقي،وكانت ملحمة الـ (36 ) ساعة في وزارة الدفاع والتي اشترك فيها الجنود وضباط الصف والضباط العراقيين وهم يقاومون حمم الموت التي تصبها عليهم الطائرات الانقلابية ببسالة وشجاعة وسقطوا شهداء الغدر . نستذكر في هذا اليوم الصفوة من الشرفاء الذين ظلوا محيطين بالزعيم الوطني العراقي عبد الكريم قاسم بلا تردد وبمبدئية ولم يتخلوا عنه و قضوا معه مغدورين في “أستوديو الموت” وكانوا معه معبرين عن الروح الوطنية العراقية وتجلياتها. يعد صباح 14 تموز حدثاً كبيراً ، غير من مجرى الحياة الاجتماعية – السياسية في العراق ً، وكان إيذاناً بتغيير كبير في الحياة العراقية العامة، اقتصادياً واجتماعياً و فكرياً، وعلينا أن ننظر له كعلامة مضيئة في عتمة الأيام الراهنة، بعيداً عن آثام الماضي، التي ساهم بها – الجميع- بدرجات متفاوتة .