17 نوفمبر، 2024 4:22 م
Search
Close this search box.

14 تموز ودعوة للتفكير

14 تموز ودعوة للتفكير

ضحى يوم تموزي قائظ تناهى الى الأسماع  صوات  جهوري , من الواضح أنه آت  من أعماق حنجرة محتقنة , وصدر مثقل , ومشاعر مستفزة , يعلن (البيان الأول )  الذي سيؤسس لبيانات أولى عديدة لاحقة , لإعلان  زلزل العالم العربي , وترددت أصداؤه  في عواصم العالم أجمع , وهوحدث احتلف فيه المختلفون ..منهم من أسماه (ثورة) ومنهم من اعتبره ( انقلابا ), وهو بين الثورة والإنقلاب , وهذه حالة فريدة من حالات المزج بين العسكر والشعب.
عندما حرص(العميد – الزعيم) عبد الكريم قاسم , على مد خيوط رهيفة بين الضباط الأحرار البالغ عددهم العشرات  بقيادته  ,وبين رموز الأحزاب السياسية العاملة تحت السطح ك(الشيوعي, والبعث , وحركة القوميين العرب والوطني الديمقراطي والأستقلال) فإنه قد حاول تلبية أحد الشروط الهامة لأية ثورة.. والّا فإنها ستصبح انقلابا !..وقبيل  شروق ذلك اليوم التأريخي في حياة العراقيين كانت جميع الفئات الوطنية قدابلغت بساعة الصفر ..ولأن (الإنقلاب )  انطوى على صورة لها الكثير من ملامح (الثورة)  المعبر عتها بذلك الإلتفاف  الشعبي الواسع , الذي لم يشهد له  تأريخ العراق مثيلا, استمد شرعيته منذ أول ساعة خرجت الجماهير العراقية عن بكرة ابيها تأييدا لتلك التي أشرها التأريخ ك(ثورة) , برغم وجود من يعتبرها انقلابا على شرعية الحكم الملكي المؤسس للدولة العراقية الحديثة عام 1921 .
كفتا الميزان
في ميزان الحقيقة  تظهر كفة (الحكم الملكي ) أثقل من (الحكم الجمهوري) , بالرغم من اربع سنوات ونصف هي كل حكم (الزعيم قاسم) قد شهدت منجزات  هامة لامجال لتاولها بالتفصيل ..ونرى أن هذا العهد قد أشّر جهدا مخلصا لبناء العراق رغم تخلفه وبدائيته ,حيث نقله الى مجتمع الحداثة ,وأسس لكل التطورات الإيجابية اللآحقة في البناء والإعمار ,الا انه لم يتمكن من إطفاء شعلة تضاد ,  نظرت من خلالها القوى الوطنية الى ذلك النظام  ,ومن أهمها مواقف الاميرعبد الأله (الوصي عل عرش العراق) , المتمثلة بشكل رئيس باعدامه رموز حركة رشيد عالي الكيلاني التي عارضت العمل مع (الإنكليز) , ومالت الى التحالف مع (المانيا هتلر) في الحرب العالمية الثانية عام 1941 , وقد حدث ذلك نكاية واستفزازا ل(الانكليز) , الذين نكثوا عهودهم للعراق , وصاروا يبتكرون الذرائع للتملص من اتفاقاتهم وكان ذلك ايضا تماهيا مع الأهداف الوطنية العراقية في الاستقلال عن بريطانيا .. كما  كان لعامل وعد (هتلر) للكيلاني وحليفه الشيخ محمد أمين الحسيني الفلسطيني المجاهد من أجل استلال فلسطين والعرب عن الإحتلال البريطاني  ..مع ان  عددا من الأحزاب وفي مقدمتها (الشيوعي , في قضية اعدام فهد ورفاقه الشيوعيين ) و(القوميون  والمستقلون في قضية اعدام قادة ثورة 1941 ضباط المربع الذهبي) لم و لن يغفروا للنظام الملكي , سياسته تجاه الاحزاب (راديكالية) الإتجاه , وخاصة تلك الموالية الى ( معسكر الاتحاد السوفياتي) الذي  اعتمد مرتكزا  النظرية (الماركسية) , الناكرة لدور الدين في الحياة الانسانية !
من منجزات العهد لملكي
ولكن (النظام الملكي) في الوقت نفسه , كان نظاما مهابا ذي علاقات دولية متوازنة , الّا مع (الاتحاد السوفياتي) ومنظوماته الموالية, بفعل  اصطفافه في الحرب الباردة الى المنظومة الرأسمالية ,وكان لرئيس وزراءه نوري السعيد السياسي المخضرم , رأي في تشكيلات جميع حكومات المنطقة , اباعتباره خبيرا في سياسات المنطقة  ومعتمدا للسياسة البريطانية ..الى جانب تخصيص  مانسبته 90% من عائدات النفط ,من اجل تنمية البلاد وتحديثها , من خلال (مجلس وصندوق الإعمار) , الذي شيد سدود (دوكان) و(دربنخان) و(الثرثار) و(الحبانية) وعشرات السدود الأخرى في انحاء البلاد . واشاع التعليم وانتج التخصصين في جميع المجالات , حيث برزت طبقة (الأنتلجستيا) كنخبة رائدة ومبتكرة  ,لأنشطة تتسم بالرصانة والحداثة في شتى سوح المعرفة والثقافة . كما عمل النظام لترصين استقلال العراق  عسكريا من خلال الحلف الدولي الإقليمي وبخاصة (حلف المعاهدة المركزية – حلف بغداد) والسعي الى ضم (الكويت) للإتحاد العربي الهاشمي بين (العراق) و(الأردن) , من خلال مشروع  ربما قد وقع بالأحرف الأولى بموافقة الأمير الكويتي , الذي كان سيعلن بعد بضعة شهور على يوم 14تموز 1958 !
مؤاخذات على العهد الملكي
مايؤآخذ عليه (العهد الجمهوري) , اطلاق مارد الشعب من قمقمه , من دون منهج  يواكب ذلك الأنطلاق , ويستهدف استيعاب حالة الحماسة والتأثير في الرأي العام , بما يوجه الجماهير الى تعبئة قواها الوطنية باتجاه اهداف واحدة موحدة , فقد  اهمل الضباط تلك المتمنيات, تماهيا مع ثورة الضباط الاحرار في مصر عام 1952 ضد الملكية الفاروقية , حيث تداخلت وتقاطعت الكثير من الأفكار والآراء وخاصة فيما يتعلق بسيطرة (الحزب الشيوعي ) كحزب عريق على الشارع السياسي, وقد ترك الضباط خنادقهم للأنخراط في السياسة بدوافع شتى , ومنها لاشك رغبتهم في خدمة البلاد رغم  تنوع سياساتهم ومواقفهم الشخصية والعقائدية , مما خلق في ستينات القرن الماضي , طبقة من الضباط تداولت السلطة من خلال الإنقلابات ..وفي كل هذا كان الشعب لايعرف شيئا , حتى وصل الأمر الى سوس البلاد من خلال نظام يفتقر الى (الحزم) الذي لن يستقيم الأمر لظام عراقي من دونه, فتعددت (زنابيرالعسل) و(دبابير) الإثرة والمنافع والطموح , بالقفز الى المناصب والمراكز, مع تمتعها برياح غربية لتضع العراقي على كف عفريت قلب الطاولة على الجميع , ليتربع  رجل واحد على حكم العراق 35عاما صعبة ,عرف خلالها العراقيون الحروب والأعدامات والأقصاءات والغدر بالرفاق والقتل على الشبهات ,وانقسمت العائلات بين مؤيد ومعارض , وتشرد كثير منها في بقاع الأرض , بعد ان صارت الحياة اشبه بسجن كبير  , وصار الرمز المفترض ان يكون جامعا لامّا  لامجيشا للجيوش ومستغلا أي خطأ خارجي اوجزئية في سياسة دولة مجاورة مدعاة لحرب  !, ففعلت الحروب افعالها المدمرة المجربة في الشعب والبلاد وانهالت التضحيات دماءا ومالا وهتكا لقيم ومقاييس اخلاقية اجتماعية مكرسة  , وصار الممنوع لدوافع قيمية واعتبارية مسموحا, فيما استفز ذلك كله اعداء العراق المتربصين به غدرا,  لتقلب الطاولة مرة اخرى في الأخير, ولتحتل البلاد من قبل أشرس جيوش العالم , وأكثرها ارتزاقا وعدوانية وتجانبا للمقاييس والاعتبارات القانونية في نتائج الحروب ..حتى تداول السلطة في عام 2003سلسلة من السياسيين الجدد المستحضرين من الحوانيت والمقاهي والمساجد والحارات ومفاصل الإدارات الدنيا ,  من دون خبرات معتمدة في ادارة السياسة والمال ,و مع فقدان واضح للدوافع الوطنية المجردة عن الإثرة الشخصية , ونهب المال العام ..ولايمكن لي ولأي مراقب قياس حجم الصفاقة والثبات ,على مواقف العناد لكثير من هذه الرؤوس , ونأيها عن سلوك طريق الله في خدمة عباده !
يقول البعض ان (الحكم الملكي) اصلح للعراق ؟ كما يقول آخرون ان الديكتاتورية هي من يقوم المعّوج ؟ وهي التي يمكن من خلالها جعل العراق على سكة السلامة ولو ضحينا ببعض المناكفين ؟ فيما يرى آخرون أن لهم الفوز في مثل هذه الفوض الضاربة , التي انتجت فسادا وهدرا للثروات الوطنية , كان يمكن استثمارا في انشاء دولة حديثة ! وعندما تكون مثل هذه الفوضى .. يتاح لمن نزعوا الغيرة وخوف الله من ضمائرهم  ,ان يفعلوا هذه الافعال التي نراها مجسدة لعدم العدالة والإقصاء , وتزوير الحقائق والترف الحكومي والفقر الواضح في البناء الإقتصادي والإجتماعي .
كلهم اجتهدوا فأخطئوا وأصابوا
المشكلة كما يرى كثير من المراقبين.. وأنا من بينهم تكمن في عاملين رئيسيين العامل الأول ,الانقلابات وسياسات الأحزاب متفردة الأداء ,والبعيدة هن هدف اللقاء الوطني منذ (ثورة – انقلاب) 14 تموز , وقفز الضباط الى السلطة تحت شتى الذرائع (الاصلاح , والقومية و والإشتراكية , والوحدة) وغيرها كثير , من دون اعتماد منهج واستراتيجية سياسية واقتصادية وطنية واضحة ومحددة , كما طرحها في
عام 1964د . عبد الرحمن البزاز, وقضي عليها بانتخاب الرئيس الأسبق عبد الرحمن عارف , بتأثير من الضباط النافذين وبدفع من الرئيس جمال عبد الناصر ..أذ ضعف النظام وتداعت قوته في بلاد عرفت باستجابتها لقوة الحاكم المتسيد للسلطة ..ثلة من الضباط المتقاعدين من غير الموصوفون بالريادة والذكاء , وادراك مسئولياتهم الشاملة المعقدة , وفر ضعف معالجاتها وسوسها البلاد لحزب ممزق من 500 عضوا , بقيادة معظمها هجين عن التسلسل المنطقي في قيادة الأحزاب (الثورية ) , وتشكيل لاجامع او رابط عقائدي او فكري رصين يجمع بين اطرافه , ليتحقق لحزب (البعث) الطامح الى تولي السلطة , ركوب  هؤلاء الضباط دور مغامر فيه من المصالح والنفعية الشيء الكثير , سلما لتحقيق اهداف قادته  من أمثال احمد حسن البكر  وصالح مهدي عماش , وحردان التكريتي وبضعة شباب استلهم البكر من الطبقة الدنيا اجتماعيا , ليس لهم الا قراءات بسيطة لكتب المنظر ميشيل عفلق , وبانفراد واضح عن حزب (البعث)أبان (هدف التصحيح) ..فاين بعثية احمد حسن البكر المستجد وحردان التكريتي الذي اجزم انه لم يقرأ شيئا مهما عن ادبيات (البعث) أو عبد الرحمن الداوود العسكري المهني ؟ من دون ثقافة سياسية او غيرهم من (بعثية) فؤاد الركابي, وغيره من البعثيين الحاملين لفكر (البعث) منذ نعومة أظفارهم ..!
البكر وصدام والبعث
وقداستهدف جناح صدام حسين المدعو ب(اليميني) في 30 تموز 1968 وما تليه من اسابيع , تصفية الشركاء الضباط  عبد الرزاق النايف وصالح مهدي عماش وحردان التكريتي وابراهيم الداوود , وكثير من ضباط الصف الثاني والثالث , سواء بالقتل او التشريد , ليصفو الجو للبكر وصدام  مع غطاء حزبي منتقى لإدارة الحكم , حيث اعتمد البكر وصدام خطة واسعة لتصفية الجيش من الضباط المهنيين المستقلين , واولئك الذين يتمتعون بولاء فكري لمختلف الجهات السياسية , من غير البعثيين والأبقاء على الموالين لهما , وقد اعتمدا في هذا على العقيد عدنان خير الله طلفاح , الذي أدار بهدوء عملية ابعاد اولئك الضباط باسلوب ناعم , من خلال النقاعد او النقل الى وظائف مدنية وغير ذلك ! ليبرز بعد ذلك دور صدام حسين ومؤسسته الأمنية السرية (حنين) , ومن خلال (مذبحة الرفاق) , التي أودت بحياة ثلثا اعضاء القيادة القطرية للحزب , ومئات الأعضاء القياديين من مستوى الصف الثاني والثالث ,على خلفية ما ادعي باضطلاعهم بمؤامرة قادها محمد عايش لإلحاق العراق بسورية , واحباط سعي صدام حسين لتولي رئاسة الجمهورية .
وبفعل سياسات غير آخذة بحقائق التاريخ والجغرافيا السياسية , وظروف البلاد وحجمها الديموغرافي واوضاعها الإجتماعية والثقافية , سارت سياسات  (عراق صدام حسين), خارج المعادلات الدولية مع تجاهل واضح في (ان السياسة فن الممكن) لا تتسم ما تتسم به (عركة القصابين)..وبدلا من ان ينعم العراق بخيراته وثرواته الوطنية بقي كيان الدولة  قلقا ,عرضة لتجاذبات السياسة الدولية والأقليمية,  حتى تغيرت الكثير من الأوضاع على الأرض  , فيما يخص قضايا مركزية لجهة الصراع العربي الصهيوني والديموقراطية , التي يحاول البعض اليوم انباتها كشجرة عميقة الجذور في ارض قاحلة .  إذ أحبطت الآمال المتوقعة بتطور البلاد واستثمار عائدات تأميم النفط واستثمار ثروات البلاد الطبيعية التي خص  بها الله هذه المنطقة من دون كثير من بقاع الأرض , حتى وجد المحتلون وهم أعداء تقليديون تحدوهم نزعات السيطرة على الثروات وتأمين مناطق النفوذ السياسي والعسكري  , وتأمين مصالح شركاتها العملاقة المسيرة لأقتصادها ووجودها السياسي.
لا نظلم أحدا
من هنا فان الأمر لايتعلق بعبد الكريم قاسم  او اي من الاشخاص التالين له  , بقدر مايتعلق  بالحاجة لوطنية حقيقية يتمتع بها جميع السياسيين وافتقادهم للمنهج الفكري , مضاف الى ذلك عدم اخلاص  كثير ممن زاول ويزاول عملا قياديا او اداريا , والامر في الحقيقة لايخص العهد الملكي او الجمهوري او عهود التذبذب حتى الإحتلال الغاشم ..بل القمع وارهاب الشعب ومنع الصوت الحر وهدر الثروات الوطنية , صار لافتة عراقية تندرج تحتها جميع العناوين التي أذاقت الشعب العراقي الهوان والقسرية والعنف , وأسالت دماء العراقيين من خلال الاعدامات والقتول ونهب الأموال العامة في كل وقت من الأوقات , ولايفوتنا مايتردد او يسمع عن نزاهة واخلاص واعمال فلان او علّان , فجميعهم في الحقيقة لم يحققوا القدر الكافي من أمنيات الشعب العراقي , المستندة الى الواقع وغير السارحة في خيالات الأحلام .
لا إستراتيجيات
وانطلاقا من تقييم مستقل ودقيق , نرى ان كافة العهود قد أشّرت نتائح بقدر او بآخر نحو تحقيق اهداف الجماهير, الا انها عجزت عن اعتماد استراتيجات  تعتمدها او تعمل لأستمرارها العهود اللآحقة .. وأصبح المعبر عنه سواء اشادات او انتقادات او ادانات , مجر كلام لايمس الحقيقة في شيء..وما نقرأه من تأييد او معاداة ل(العهد الملكي) او (العهد الجمهوري وقاسم بالذات) هي مجرد تعليقات لاتمس جسم الحقيقة , المتمثلة  بالطموح لرؤية العراق على اوضاع سياسية واقتصادية يستحقها تاريخيا واقتصاديا وديموغرافيا .
الماضي , نام وغفا ..والمهم في الأمر ايامنا الراهنة والقادمة , فهل نجد من يصحح ويسير بالبلاد الى مايغني ويعافي العباد ؟

أحدث المقالات