23 ديسمبر، 2024 11:00 م

يُهجى فيستحسن الهجاء ؟

يُهجى فيستحسن الهجاء ؟

-1-
من أروع الصفات وأنبلها على الاطلاق تَقبُّلُ الانسان للنقد ، لاسيما اذا كان صحيحاً ، وسعةُ الصدر التي هي آلة الرئاسة – على حد تعبير أمير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (ع) –

وسعةُ الصدر تعني تَحمٌّل المرء ما يُثار عليه هنا وهناك من ملاحظات ومواخذات ،من دون ان يخرج عن طوره ، وقدرته على استيعاب ذلك بعيداً عن ردود الفعل الغاضبة ، وروح الانتقام …

-2-

والحقيقة ان هذا النمط من الرجال قليل للغاية، وخاصة في طبقة السلطويين الكبار ، الذين بمقدورهم ان يثأروا لأنفسهم بشتى الطرق والأساليب …

حدّثني مرّة أحد اساتذة القانون في العراق ، – وهو ممن تقلّد مناصب عديدة ، كان منها ادارة شؤون الموظفين في احدى الوزارات في العهد الملكي البائد – فقال :

طلب الوزير مني أنْ أصدر أمراً بفصل أحد الموظفين …

أما السبب :ش

فهو مما وشي به من أنَّ ذلك الموظف – المطلوب فصلُه – كان قد نال من الوزير في أحد المجالس .

وكانت هذه القضية سبباً لمواجهة ساخنة بين الوزير ومسؤول شؤون الموظفين في الوزارة ، أدّت بالأخير الى تقديم استقالته ، حين أصرّ على الامتناع من إعداد كتاب فصل الموظف المذكور …

-3-

قد يتلذذ البعض بما يُثار من اعتراضات ومواخذات على غيره ، وقد يُثني عليها غاية الثناء ، وأما اذا تطاير عليه شيء من رذاذ الاحتجاج، فانّ ذلك موجب لقيام قيامته ..!!

-4-

ومن النمط النادر ، الذي هجي فقبل بهجائه واستحسنه ، وزير المستنصر بالله (ت 640 هجرية) المسمّى أحمد بن محمد والملقّب “بنصير الدين” والمكنّى (بأبي الأزهر)

قال فيه الشاعر :

وزيرنا زاهدٌ والناس قد زهدوا

فيه فكُلٌّ عن اللذاتِ منكمشُ

أيامهُ مِثْلُ شهر الصومِ خاليةٌ

من المعاصي ، وفيها الجوعُ والعطشُ

إنّ الشاعر هنا وصف الوزيرَ المهجوّ بالزهد وهذه منقبة ،

وبزهد الناس فيه ، وهذه مثلبة ..!!

وأشار الى أنّ أيامه حافلة بالجوع والعطش، كأنها أيام شهر الصيام ، في اشارة واضحة الى تبنيه سياسة تقشفية مُرهقة ، أحس الناس معها بالحرمان من المأكل والمشرب …!!!

-5-

إنّ الوزير المهجو لم يكابر ، وانما سارع الى الاعتراف … والاعتراف بالخطأ فضيلة – كما هو معلوم – ولكنّ السؤال الآن :

اين هم المسؤولون الذين يعترفون بأخطائهم ؟

-6-

من المهازل الكبرى ان ينبري بعض السلطويين لتصوير العراق الجديد وكأنه جنة الله في الأرض ، وانه يفوق البلدان الراقية في تقديم الخدمات للمواطنين …!!

يقولون هذا في الوقت الذي لا يأمن فيه المواطن على نفسه فضلاً عن أهله وأمواله ..!!

إنّ من القبيح للغاية ان يستسيغ المسؤول ركوب صهوة الاختراع لما ليس له وجود على الاطلاق ..!!

-7-

ان المواطن يمكن أنْ يتفاعل ايجابياً مع المسؤول، حين يراه جادّاً في السعي لخدمته ، ويقدّر العوامل والظروف التي قد لا تمكنه من وصول الأداء الى الغاية المطلوبة ولكنه يشمئز من إصراره على تبرير الأخطاء وإنكار الخطايا .

-8-

إنّ الوزراء وكبار المسؤولين في الدول الحديثة يسارعون الى تقديم استقالاتهم بمجرد حدوث الأخطاء في وزاراتهم والمؤسسات التي يديرونها، بينما يُصرّ معظم المسؤولين عندنا على أنْهم المبرءون من كل الاخطاء والخطايا ..!!

وهذا هو الفارق بين السليم والسقيم .

-9-

وأخيراً :

فان هذين البيتين يُغنيان عن مقالة مُطوّلة تشرحُ ما عاناه الناس أيام الوزير المهجوّ من مشكلات ومعضلات .

ويبقى الشِعْر اللسان المعبّر عن ضمير الأمة وهواجسها وآلامها …

ونحن لسنا من أنصار السوريالية في الشعر والغوص في بحار الغوامض التي لا يقوى على فك أسرارها أحد .

*[email protected]