18 ديسمبر، 2024 8:51 م

يَومٌ لِرِجَالٍ صَدقُوا..

يَومٌ لِرِجَالٍ صَدقُوا..

 بدءا، فلا ندري، أَبقي ما يقال في واقعة الطف ويكتب؟ فلا تنتهي فيها الأقوال ولا تكف الأقلام عن الكتابة أسفارا، والخوض فيها والقضية معجز؟ حتى لا يسع إلا الوقوف عند أحداثها تأملا ورهبة؟. لقد ظلت أحداثها جللا وذكرها مهيبا. من قضوا فيها شهداء، بقوا، بذكرهم تستحضر الضمائر وينكص النفاق. ومن طلبوا الدنيا دار بقاء قضوا، وباللعنة انتهوا. وبقي نهج الحسين (عليه السلام) مدهشاً محيرا لمن اعتقد بعقيدته أو ابتعد، فمن اعتقد بعقيدته حقاً تحير في ما مضى به خلقه ونهجه من صبر وعزم وتضحية، ومن لم يعتقد، ففي سر قوته في خضم محنته، ودوام عقيدته إلى يومنا.
    في يوم من أيام الله، وما سبقته وتلته من أيام تحكي قصصاً وأخباراً قل مثيلها في التاريخ لما حملته من مواقف أظهرت النوايا خيرها وشرها، وأوجزت في سطورها معان للفداء والتضحية والشهادة صار عنوانها الحسين (عليه السلام)  قبس الأحرار وناقوس الثوار. لقد صنع من الموت حياة وبقاء، ومن الماضي حاضرا، فكان أملاً للبائسين اليائسين، وصولة أبدية تهدد وجود الطاغين أينما كانوا ومتى ما كانوا بعد أن لا أنبياء ولا رسل، إنما من آمنوا بهم وواصلوا شريعتهم فصدقوا الله وعدهم. فاتخذ أحرار العالم منهجه معيارا لا يعلى عليه للثورة والتغيير والبقاء إلى يومنا وإلى ما دام الناس.
    لقد قال الحسين (عليه السلام)  قوله البليغ موجزاً نهجه، وكان فعله أبلغ وأوقع. أما نحن، فما خوضنا في ملحمته إلا لحاجتنا نحن أن لا ننسى وحاجتنا لمن يذود. فأيامنا عصيبة والدهر قاصد متعمد.. فلسنا نتذكر. إنه الصورة الحاضرة دوما، نفحة ربانية سامية، وعبق أصيل يحكي ملحمة لعزيمة لم تثنى، تبعث الأمل في المقهورين، والحالمين بيوم من أيام الله، ليروا نصرهم الموعود.
     بين ميزانها الدنيوي المائل، وحسابات الحسيب العادل، أتت واقعة الطف. الوقيعة التي لم تنل إلا من مكروا، ولم تطح إلا بمن قادوا إليها وقد حسبوا أنه لهم ظفر، وبتدبير إلهي يحيلها نقمة عليهم وذنب لا يغتفر(وَمَكَروا  وَمَكَرَ اللهُ واللهُ خيرُ المَاكِرِين)( سورة آل عمران- الآية54) أتت تلك الواقعة، بسموم هجيرها والعطش الذي أذاب الأكباد، بصهيل خيولها ونقع صحرائها الذي أعمى أبصار من ضلوا وقد عميت من قبل بصائرهم. أتت بنيرانها التي التهمت خباء لأطهر وأشرف من على الأرض وقد كادت أن لا تفعل. علت ألسنتها السماء شاكية باكية بأنها قد أرغمت، وأنها لنفسها قد أنكرت واستنكرت. أتت مبتلية النفوس مختبرة الإيمان، وتظل تأتي لتبقى عبر الدهور حاضرة. واليوم لا بد لنا من وقفة.
    سبط خاتم الأنبياء والمرسلين وسليلهم، ابن البتول سيدة نساء العالمين، ابن فذ الأفذاذ، من كرم الله وجهه وطهر قلبه، وجعله بوابة العلم الجامع، وكان للإسلام الأسد الهصور، الجلد الجسور..(عليهم جميعا الصلاة والسلام) لقد نشأ الحسين (عليه السلام) في ذلك الكنف الطاهر، تعلم وعلم، تفقه وحكم، فكان علمه وفقهه وحكمه القرآن وسنة النبي (عليه وعلى آله الصلاة والسلام)  الصحيحة. وإذ الخبير العليم يهيئ خلقه لما يريد، فما قرار عبده في فيما عزم، وحكمه يوم سار ولم يلتفت؟ ولما أصوات الثكالى والمستضعفين تنادي وليس من يسمع، وحيث لا ترحيب ولا وطن، ومواقف الناس بين مؤيد ومخالف ومختلف فيه أو في موقفه الفريد!؟. 
    قراءة النفوس واختلافها في حق الحسين (عليه السلام) وقراره بالسير في طريق اللا عودة نحو الغاية السامية، تعود بنا إلى قراءة تاريخها وخلفياتها، وصحف التاريخ كثيراً لا تصدق. الحقيقة قد تخفى، ودأبها تثبت وجودها مهما طال الزمان وغيبت، ترصدها العقول التي استدلت بنور الله، وتدركها الضمائر الحية، وتستشعرها القلوب المؤمنة، وحين تظهر، فساطعة، وفي مشهد مشهود تقشعر له الأبدان مبكية مضحكة، فيُسلم لها الأعداء والأصدقاء ويندم العاصي لما ارتكب، ويخجل الجاهل أن الأمر فاته…
    اختلف الناس في قرارهم، وعادة ما يختلفون. والرأي في قرار يتبع الرأي في صاحبه. وأن ما يسير المرء هو ما يحمله من معتقدات وأفكار قد تكون صائبة أو خاطئة. والإيمان يعمل عمل السيف الماضي القاطع لا مرد له ولا نحو عنه، لذا فالعزم على رأي أساسه الإيمان بفحواه لا يعني سوى الرأي السديد القاطع لا راد له ولا انصراف عنه. ومن الناس وبشتى أديانهم ومذاهبهم قد يدّعون الإيمان، إلا أن الإيمان يعرف على أساس الصدق فيه، ودلائله تكمن في القول والعمل الصادق الثابت. والإتباع إيمانا لا يكون إلا بالتحقق والتصديق. وكثير مما يعبر عنه المدعون إنما هو سبيل للوصول إلى غايات تكمن وراءه والتي تتعدد بتعددهم، فإن كانت كذلك فلا يعد إيمانا بل إتباعا لأجل غاية، وعندما لا يكون لمدعيه رأي فيه فحينها لا يكون إلا تبعية. وبين الإيمان بالله والإتباع..، فالناس يتباينون في مسالكهم. وإذا الناس يتباينون في أهوائهم وغاياتهم، وأنهم بما يعتقدون عن الإيمان ليسوا سواء. فقد تباينت مواقفهم في الحق ووجوده، ولكل نظرته وموقفه في كل مكان وزمان وكذلك سيبقون، ولا بد أن يكون الرأي نابع مما تجيش به النفوس من هواجس وظنون، وترنو إليه من مقاصد..وكذلك كانت مواقفهم من الحسين (عليه السلام).
    النفس التي نشأت على العدوان والثأر وحب السلطة وتكذيب النبوة ونزول الكتاب..تكون قد تهيأت للقتل، كما أن إحاطتها بمن مثلها يغذي فيها تلك النزعات ويعززها. ولا غرابة في أن يتعطش صاحب النقمة لدماء من ظن أنهم سلبوه مجداً كان يمكن أن يكون له ولقومه، وبعد أن تشبعت بسموم الحقد وورثت الضغينة عمدا، ولا يعي فداحة ما يرتكب فهو يدركه حقا كما زين له الباطل، وإذا ما أدرك الصواب وبانت له الحقيقة تغاضى عنها. وهكذا عندما تحين الفرصة للنفس الضالة المضللة للنقمة والثأر، فلا تتردد.  أما الحق، فينشده أصحابه، المؤمنون به. ونصرة الحق مقابل الطواغيت لا جدير بها إلا تلك النفوس الحرة الجريئة ذات المروءة. فهم من ينتخى بهم في المحن، أما الضعفاء ممن لا حيلة لهم ولا قوة، فيرتقبونهم مُخَلصين. ولكن من يرتقب المخلص ويناشد الحق وعدله بقلبه، قد لا يحرك ساكناً لنصرته (والقَائِلينَ لِأخونهِم هَلُمَ إِليْنا وَلا يأتونَ البَأْسَ إلا قَليلَا)(سورة الأحزاب- الآية 18) وقد يرتد عن إيمانه خوفاً ممن ظلموا..إلا أن من يناشد المخلصين، ليس الضعفاء فحسب، بل حتى أصحاب السلطان ومن يطلبونه بلا أهلية، ومن يحبون أن يدعوا بما ليس فيهم، وعادة لا يقربون لسلطانهم من هم أجدر به وأهلٌ له إلا ساعة المحنة، وحالما تنتهي، عادوا لسيرتهم، بينما يمضي أصحاب النخوة بدأبهم وعهدهم في الصلاح والإصلاح، إذ السلطان ليس مطلبهم، وقد سمو بأنفسهم.
نهج الأحرار  
 لقد كان للحسين (عليه السلام) ومن صاحبه واتبعه مواقف المؤمنين الموقنين من الرجال والنساء وهم قلة، فذادوا بأنفسهم، ودافعوا عن قضيته من بعده. كما هدى الله تعالى ممن ظُللوا وهم لا يعلمون، فكان ( للحر) انقلابا. لقد غيرت تلك الواقعة من أمر ذلك الفارس، لقد أيقن أن مكانه ليس مع جيش الطغيان، فاتخذ القرار، قرار لا يليق بغير الأحرار ولا يجرؤ على اتخاذه إلا الثوار. وبين مظلوم بلا ناصر، وجيش ظالم غادر، كان هناك حر يذود عن الحسين (عليه السلام) بعدما تبين له الحق بينما قد ساد الجور وعظم، وقل الإيمان أو لم يكن، وتلهى طلاب الدنيا بأهوائهم، وغابت الحقيقة عن الجهلاء والغافلين فلم يسألوا، وضُلل من سأل، وحين كان مرور الحسين وأهل بيته(عليهم السلام) ومن تبعه في مسيرته حتى أرض كربلاء كمرور العامة، فما عرفهم أكثر الناس ممن لا علم لهم بالأحداث. في حين كان هناك من يرتقب وصوله بفارغ الصبر من ناظريه، وكثير منهم من خاف إذ ويل الطغاة، ومنهم من خذل. كما كان ينتظره الباطل مضمراً، ألا وهو الثأر وبلا وجل. وفي خضم كل ذاك برزت للحق صولة، كانت صولة الحر على الباطل، وليعلن أن لا سيد للحر غير خالقه.
    لقد تجسدت في نفس الحسين (عليه السلام) معاني الإسلام حرفيا في أصول معاملة الناس عدلاً على اختلافهم، حتى شرارهم، وتعامله مع الحياة باعتبارها دنية فانية، وان الحياة الآخرة هي دار القرار لمن سعى لها في الصلاح والإصلاح والعمل بميزان العدل، إذ بإقامته يحيا الناس جميعا آمنين. لقد أيقن أن خروجه أمراً مقضياً، فاستقبل الموت بأقسى صورة مؤمناً مطمئنا. وعندما يتخذ المؤمن قراراً واثقاً للسير في ظلمة موحشة لا يعرف قرارها، لا بد أن يكون على يقين تام ولا يقبل شكا أن وحشة الطريق ستتبدد، فتأنس النفس وتطمئن حيث هدى الله عز وجل ووعده الحق. وهكذا كان.
      لقد سادت المنافسة على الولايات وكثرت الأطماع، وتغافل الناس عن الحقوق وغلت الأعناق بأغلال الظلم وسكوت الناس لضعفهم واستهانتهم بأنفسهم حتى هان الدين عليهم. حينها صار أمر التضحية العظيمة أمراً محتماً، وللتغيير ذلك القربان العظيم. فما أثقله كرب وأعظمه بلاء، وما أجلها عاقبة. نصيب من أجرموا في تلك الواقعة خيبة ولعنة فاضحة لا ينفع فيها ندم. فما رجعوا عن الباطل عندما كان ذلك لهم متاحا والحق بينا وهم مدركون. فعندما تكون للإنسان القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، الحق والباطل، ثم يختار عن سبق إصرار أن يكون ظالما عاتيا، فتلك الغواية والتكبر والضلال. والنفس الضالة قد تدرك الحق والحقيقة من بعد ضلال وقد يصحو الضمير وعندها يحاسب ذاته أولا فلا يتقبل حقيقته ولا يتحمل حكمه، ويكون وقع ذلك على نفسه قاسياً. وهذا مما يعاقب به الله تعالى في الدنيا من عصى وبالغ، والعبرة للناس ليرجعوا إلى الله تعالى قبل فوات الأوان. ومنهم من يخوض بلا دراية ولا علم، حتى إذا تبينوا صار حقيقا أن لا يضيعوا الحق ولا يرضوا ظلما للناس أو لأنفسهم وإلا فقدوا الحجة للعفو والمغفرة.     
نموذج فريد وقضية أبدية
     لقد صار إصرار الحسين (عليه السلام) ونهجه قضية أبدية، قضية ذلك السجال بين الخير والشر بين الهدى والضلال، ثورة تتصدر كل نموذج ثوري على الطغيان مع عظم الفارق. فالمستقرئ للثورات التي حدثت في العالم ومنذ بدء التاريخ والى عصرنا الذي تعددت فيه الايديولوجيات..لا يجد منهجاً فريداً كالذي انتهجه الحسين (عليه السلام) لقد كان تجسيداً لمعاني الإسلام وقيمه في شموليته وخصوصيته وكل ما دعى إليه. فقد تمسك حرفيا وروحيا بأمر الله كما جاء في القرآن الكريم دستورا والسنة النبوية الصحيحة منذ مسيره بدربه الصعب الطويل..(وَالذينَ يُمَسِكُونَ بالكِتابِ وأقامُوْا الصَلَوة..(سورة الأعراف- الآية 170) لقد بدء مذكراً بالله ورسوله، ناصحاً للعودة عن الظلم من قبل تلبيته نداء المظلومين ومبايعتهم له وهو الأحق والجدير بحساب العابثين. فمن غير الذين يختارهم الله ممن صدقوا الإيمان والعهد لينصروا (ونرُيدُ أنْ نَمُنَ على الذينَ اُستُضعِفوا في الأَرْض)(سورة القصص-الآية 5)  وخيار السلم، هو خيار المؤمنين لدرء الفتن (أُوْلئِكَ الذينَ يَعلَمُ الله مَا في قُلُوبِهم فَأَعْرِضْ عَنهُمْ وعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمُ قَولَا بَلَيغا)(سورة النساء-الآية 63) وهو سر قوتهم ونجاتهم (واعتْصِموا بِحبلِ الله جميعا ولا تفَرّقوا) (أل عمران-الآية 103 ) فالعدو الحقيقي للمؤمنين هو الشيطان وليس أنفسهم. (يا أيهُا الذينَ آمَنَوا  ادخُلوا في السِلمِ كافَةً ولا تتَبَعوا خُطوٰت الشيطان إنهُّ لَكُم عَدوٌ مُبين)(سورة البقرة – الآية 208) والجدال بالتي هي أحسن مع من ضل وجهل (وَجادِلهُم بالتي هيّ أَحْسَن)(سورة النحل – الآية 125) وترك من كفر(وقُلْ  للذين لا  يُؤمِنونَ اعمَلوا على مَكانتَكِمُ إناّ عامِلِون )(سورة هود – الآية 121) إذ لا إيمان لمن أُكره حتى يهتدي فيختار (لا إِكْرَاه في الدّين)(سورة البقرة – الآية256) وبلا عدوان، بل مقابلة بالمثل لمن اعتدى وظلم، تجبر وتكبر ناكراً حق الله وسالباً حقوق العباد وقاتلهم. (وقاتلِوا في سَبيلِ الله الَذينَ يُقاتلِونكَمُ ولا تعَتدوا)(سورة البقرة  – الآية 190).
     سار(عليه السلام) ومن الناس مَن استهان بأمر العبث في الدين، ومن نصح بترك الأمر على أنه حلٌ أسلم. وهل يمكن للظلم أن يستفحل وآل رسول الله (عليهم  الصلاة والسلام) على وجه الأرض؟ أَ يصير الدين ذكرى؟ حتماً لا يكون الجواب إلا كما أراد الله عز وجل وكما كانت تلبية رسله، ولا يكون غير ذلك جواب المؤمنين حينها ومن بعدهم (وَذَرْ الذين اتخذوا دِينَهُم لعَبِاً ولهَوا وغرتهْمُ الحياةُ الدنيا)(سورة الأنعام  -الآية 70) وفتوى القلب التقي أصدق والسبيل واضح لكل موقن وكل ذي لب (وإن ْتُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ في الأرضِ يُضِلوكَ عَن سبيلِ الله) (سورة الأنعام  – الآية 116) فسار ولا شك كان في نفسه (عليه السلام)  أن المسير لأجل الله وفي سبيله دليل على الإيمان وثباته ( والذينَ آمَنوُا وَهاجَروا  وَجاهَدُوا  في سبيلِ الله وَالَذينَ آوَوا  وَنَصَروا  أُولئِكَ هُم المُؤمنون حَقا)(سورة الأنفال – الآية 74) وبذل النفس والفداء هو الثمن الذي يشتري به المؤمنون آخرتهم، وأما الدنيا فلا خير فيها دائم ولا شر، وما هي إلا طريق إلى الحياة الحقة، إلى النجاة. ولا شك أن العبرة في نفسه (عليه السلام)  كانت حاضرة (أمْ حَسبِتُمْ أنْ تدْخُلُوا الجنَةَ ولما يأتكِمُ مَثَلُ الذينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُم مَسَتْهُم البأساءُ والضَرَاءُ وزُلْزِلُوا)(سورة البقرة – الآية 214) فلا مناص من الاختبار بالخير أو الشر (وَنبْلُوكُمْ بالشر ِوالخيَر فتِنْةً وإِلَيْنَا ترُجَعُون) (سورة الأنبياء-الآية 35) والجنة لا يفوز بها إلا الصادقون في إيمانهم وعهدهم.
    ومضى الحسين (عليه السلام) وهو يعلم، ذهب حيثما أراد الله وشاء، وقد أسلم وجهه إليه تعالى (وَمَا كانَ لِنَفسٍ أنْ تموتَ إلا بإِذنِ الله كتِابَا مُؤجَلا) (سورة آل عمران – الآية 145) مؤمناً أن الأمر كله قد قُدر (قُلْ لَنْ يُصيَبَنا إلاﱢ مَا كَتَبَ اللهُ لَنا) (سورة التوبة – الآية51)  وقد أخذت جموع النفاق تتجمع، والناس تحذر وتنذر، والشيطان يلوح بخطى مرتبكة مرَعباً أن لا قدرة لكم كما هو عهده ودأبه (قالَ فَبِعِزَتكَ لأغُوينَهُم أَجْمَعين)(سورة ص- الآية82) ولا قدرة للشيطان على أن يثني من عزم المخلصين ( إِلا عبِادَك مِنُهم المُخلَصِين) (سورة ص – الآية 83) ولا باجتماع الناس على الباطل (الذينَ قال لهم إِنّ الناّسَ قَدْ جمَعَوُا لَكُمْ فاخْشَوهُمْ فَزَادَهُمْ إيمانا وَقالوا حَسْبُنا الله ونعِمْ الوَكيِل) (سورة آل عمران – الآية 173) ونداء الحق في النفس يعلو  حي على الفلاح (يأيهُا الذينَ آمَنوُا اصبرواْ  وصابرواْ  ورابِطُواْ وَاتقُواْ الله لعَلَكُمْ تفُلِحون)(سورة آل عمران  -الآية 200) وإرادة لا يردها عطش ولا من الناس خذلان  (فاصْبِرْ كمَا صَبَرَ أُولُو العَزمِ مِنَ الرّسل ولا تسَتعْجِل لهُم) (سورة الأحقاف -الآية 35) وحياة الخلود تنادي أن عجل فيزيد عزما ولا يرده مصاب (وَاصبِرْ على مَا أَصَابَكَ إنّ ذلك مِن عَزم الأُمُور) (سورة لقمان- الآية 17) ونور الله هو الدليل، وقلب المؤمن يردد أن لا رجعة عن أمر لا أوثق منه ولا أصدق (وَمَنْ يُسْلِم وَجهَهُ إلى الله وَهْوَ مُحْسِنٌ فقدْ استَمْسَكَ بِالعُروَةِ الوُثْقَى وإلى الله عاقِبَةُ الأمٌور) (سورة لقمان  -الآية 22). وقد مَن الله عليه (عليه السلام) بمن صدقوا في إيمانهم، بالصابرين المحتسبين من الأهل والأصحاب كما من على أصفيائه من قبل وعلى عباده ممن يشاء وحينما يشاء (فمَا وَهَنُوا لمِاَ أَصابَهُم في سبيلِ الله ومَا ضَعفُوُا وَمَا استْكانوا والله يُحب ّالصاّبِرين) (سورة آل عمران -الآية 146) وقد شدوا أزره وهم له في سبيل الله يفتدون وعلى الله يتوكلون (وَتوَكَلْ على الله وَكفى باللهِ وكيلا) (سورة الأحزاب – الآية 3 )  وجاء حين المواجهة، فصار الذود عن دين الله أمراً لا بد منه ولا رجعة عنه..(مِنَ المؤمِنينَ رجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا  الله عليه، فَمِنهُم مَنْ قضى نَحْبَه وَمِنْهُم مَنْ ينَتظِرْ وَما بدّلُوا  تبَدِيلا)(سورة الأحزاب – الآية 23).   فكان ذاك اليوم يومهم، وبطول الدهر نصرهم.
الهالكون والمستخلفون
     إن في كل زمان طغاة، يمدهم الله إلى حين (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم وَيَمُدهُمْ في طُغيَانِهِم يَعْمَهُون)(سورة البقرة -الآية 15) حتى يهلكهم بظلمهم (وَلَقدْ أهْلَكْنا القُرونَ مِنْ قبَلِكُم لمَاّ ظَلَمُوا) (يونس –الآية 13) والصراع مع الطغاة يتطلب فرسانا، دعاة للحق وناصرين (ثم جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ في الأَرضِ مِنْ بَعدِهِم لِنَنَظُرَ كَيفَ تَعمَلون) (سورة يونس- الآية 14) ودماء الأبرياء من الضحايا ومن بذلوا أنفسهم للعدل ثمن ذلك الصراع، وأولئك هم الشهداء.
   وفي كل ثورة للتغيير والإصلاح، فهناك الحاسدون، فإن جاءت بثمارها وظلت أصداؤها، تمنوا لو أن الغلبة كانت لهم، والرأي السديد كان رأيهم لما كانوا عن الحق ينهون وينأون. وهناك الشامتون، من يتربصون بالمؤمنين أن تصيبهم النوائب ليضحكوا، بينما يحسبها المؤمنون فضل ونعمة. كما أن هناك المنتفعون في خضم المحنة، وعندما يسود الصمت وتنتهي، فأولئك المتاجرون بتضحيات الآخرين وعلى حساب حياتهم، يظهرون ليعلنوا أن ظلماً قد وقع، وحرمة قد انتهكت، فيوهمون الناس اعتبارهم لما ينادون به حتى تؤل الأمور إليهم، وليصنعوا لأنفسهم تاريخا مزيفا، فيمجدهم الناس بما لم يفعلوا، ولو كانوا هم في المحنة لارتدوا وخافوا فلا طاقة لهم على مواجهتها.
مسيرة ما انتهت
     لقد قال الحسين (عليه السلام) وفعل. وما بقي رسالة تنتظر من يفقه فحواها. فما زال الطاغوت يبدل وجوهه كل عصر، وشعوب الأرض تصارع الظلم والجوع.. تزايدت عذابات المعذبين وآلامهم، وارتفعت صرخاتهم ولا مغيث، كثرت نداءاتهم لمن ينصر حتى خبت أصواتهم من كثرة ما استنجدوا ولا مجيب. والمقهورون يبيتون في ظلمة لا مواساة فيها ولا أمل في جلائها. أما المسلمون فيبحثون عن ملاذ، فاليوم هناك من يدعو الإسلام إرهابا، وهناك من يدفعون بالناس لقتل أنفسهم باسم الدين باطلا بينما هم مسترخون على عروشهم، يتنعمون بما سلبوه منهم ومنعوه عنهم. يكاد اليوم عدل الناس يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويأمل بمن يبحث  في ملاحم الصادقين، وفي سيرة الحسين عن القضية. فماذا أراد الحسين؟ وبماذا اعتبرنا ؟..
    يعلم الحق أن محنه لن تنتهي طالما الظلم لا ينتهي وقد كثر أتباعه، ولكن الحق يميز أصحابه ويميزونه، يعرفهم ويعرفونه، فيدعوهم ويدعونه في كل مرة وكرة، وإن صار الظلم بأتباعه مفاخراً، فالأيام لفرسان الحق وَلود (وَتِلْكَ الأيامُ نُدَاوِلُها بَينَ النَاس) (سورة آل عمران-الآية 140). وإن كنا ننتمي للحسين رمزاً للحق، فمسيرته ما انتهت تدعوا الأحرار لينضموا إلى الركب، ولواؤه باق يلوح لكل ذي مروءة (هَذَا بَلَاغٌ لِلناسِ وَلِيُنذَرُوا  به) (سورة إبراهيم -الآية52) .