فلاش باگ ربع قرن :
– عصام، يريدك لواء حسان.
– صار
طرقتين من قبل جندي فيلي تبعية ايرانية ربع جنسية منقول لأسباب أمنية من قسم الترميز – شعبة الحاسبة في مديرية ادارة المراتب بمنطقة الكسرة في بغداد الى الفيلق الثالث في منطقة الدير بالبصرة، طرقتين خجولتين على باب لواء حسان مدير ادارة الفيلق، آخر باب على اليسار في الممر المؤدي الى حاسبة الفيلق التي كان مديرها عقيد صادق، غرفة لواء حسان آخر غرفة في ممر ادارة الفيلق الثالث اهم فيلق في ذلك الوقت لكون قاطعه يمتد من الناصرية حتى الكويت، ثم تحية تتناسب مع قيافتي العسكرية التي كانت من ارقى قيافات الفيلق لكون والدي أكرم كان خياطاً معروفاً منذ عقود، تحية تتناسب مع ما تعلمته واحببته من اصول العسكرية، وتتفوق بكل ثقة على تحية نواب الضباط التي كان يضرب بها المثل، نعم سيدي ؟
– عصام ابني تنزل هساته (الآن) عبغداد، تروح نادي القادة تسلم هذا الكتاب الى عميد ركن……، وبعدين تروح كلية القيادة قريب ملعب الشعب، همه عدهم علم ومخصصين للفيلق جناح بالكلية اسمو جناح التصميم، تشوف أشنو (ماذا) محتاج وأشنو النواقص تسوي بينو (به) كشف توصلو لعقيد صگبان بأي طريقة وتبقى ببغداد واحنا ايمت (متى) نصل نخبرك، ابني انت اختاريناك وعتكون (ستكون) ويانا بالتمرين.
عدت الى باحة ادارة الفيلق المكونة في ذلك الوقت من خمسة اقسام، الضباط، المراتب، الميرة، التقاعد، التوثيق، حكيت لصديقي الذي كنت اناديه عمو، ن.ض حسين مسؤول قسم الضباط كلام لواء حسان وسألته ماذا يقصد اللواء وماذا يعني تمرين وما هو المطلوب؟ فدوة تره اني سودة مصخمة، فابتسم تلك الابتسامة المشرقة المحببة التي للعجب ابتسمها حتى في يوم اخبروه باحتراق بيدر الحنطة خاصته، والتي كنت اشك بسببها ان اسنانه لجمالها هي طقم صناعي وليست اسناناً حقيقية.
– وليدي عصوم، اختيارك لتكون عضواً في هذا التمرين الهام هو بحد ذاته ثقة مطلقة ومسؤولية كبيرة، فرقة القادسية دزت يمكن ١٠٠ كتاب انك مو بعثي وميصير تبقى هنا، ونحن نعلم بوضعك الأمني ليس بسبب كتب الأمن فحسب وانما بعلاقاتنا الشخصية بشعبة أمن الفيلق، وكذلك نعلم بموضوع التبعية ولماذا نقلت الى اتعس فيلق وابعد مكان عن اهلك، المهم عصوم عيوني هذا تمرين عن توقع افتراضي لهجوم معادي وكيفية الاستعداد لصد هذا الهجوم والانتصار في المعركة وفق المتاح لدينا من عدة وعدد، احنا الفيلق الثالث راح نمثل العراق واسمنا بالتمرين (الدولة الخضراء)، والفيلق الرابع راح يمثل الدولة المعادية واسمها بالتمرين (الدولة الصفراء) والتمرين كله اسمه (الصقر الذهبي السادس)، الأول كان قبل سنين بإشراف وحضور عبد الجبار شنشل واحنا هسه بالسادس وبإشراف القيادة العامة للقوات المسلحة وقد يحضره فريق أول سلطان او رئيس اركان الجيش هاي اذا مو (السيد الريس).
في مدينتي بغداد كانت اقامتنا في كلية القيادة قرب وزارة الداخلية شهراً كاملاً بالتمام والكمال، ولي خلاله من المواقف ما قد اكتب عنها يوماً ما، سيگارة السومر واللواء الركن صالح رئيس اركان الفيلق، الألف دينار، مستشفى الصويرة العسكري، عميد ركن حميد، وموقفي الذي لن انساه ما حييت مع ابو (الحمزة) الفريق الركن ياسين فليح خلف المعيني قائد فيلقنا ومعاون رئيس اركان الجيش للعمليات فيما بعد، اكملنا الشهر الذي كنا نعمل خلاله حوالي عشرين ساعة في اليوم والليلة، ثم ابلغونا ان يتواجد كل فريق التمرين لغرض التنفيذ في موعد ومكان معينين، وفي الموعد المحدد التحقنا لمقر فيلقنا بالبصرة، ثم توجهنا بعد يومين الى قيادة الفيلق الرابع لتنفيذ التمرين في ساحة العمليات الافتراضية المحددة بمحافظة ميسان او العمارة على گولة اهلنا، وكانوا قد خصصوا لنا (مقر مخابرة الفيلق الرابع) ليكون القيادة الافتراضية لفيلقنا الثالث (الدولة الخضراء) لأغراض التمرين ولعبة الحرب معهم باعتبارهم الجهة المعادية (الدولة الصفراء).
كانت البناية المخصصة لنا تتألف من قاعتين ومخزن صغير وغرفة معفنة يبدو انها استغلت فيما مضى كمطبخ قذر فيه شبه طباخ متهالك من ماركة عشتار التي كانت تنتجها شركة الهلال او شركة الصناعات الخفيفة لا اذكر بالضبط، رتبنا اكبر القاعتين التي يفصل بينها وبين قاعتنا نحن المراتب الداعمين باب من المنيوم والزجاج لتكون مقراً لقيادة وحركات الفيلق، خارطة كبيرة لساحة المعركة المرتقبة تحتل جداراً كاملاً، منضدة حركات عليها ما شاء الله من الأوراق والملفات واجهزة التلفون العسكري، خلية نحل يشكلها كم هائل من الرتب على رأسهم قادة الفرق وامراء الصنوف والالوية، وبعد ان كان واجبي بمرحلة الاعداد في بغداد استلام وكتابة (بخط اليد وبعدة نسخ) لكافة خطط القوات المشتركة بالتمرين وخطط الصنوف، كان واجبي في مرحلة التنفيذ اعداد الشفائف التي ترمز بأشكالها والوانها لمختلف القطعات والصنوف ليتم تثبيتها على الخارطة اثناء التمرين، وكذلك طبعاً ديمومةالعمل المتناغم الفوري مع متغيرات القتال والمعركة الافتراضية التي استغرقت اكثر من عشر ساعات، من الضياء الأول وحتى عصر يوم التنفيذ الذي كان اهم انتصار فيه بالنسبة لنا كجنود هو الخرفان المشوية التي وصلت من شيراتون البصرة بعد ان كانت اقصى طموحاتنا أن نتغدى طماطة بالدهن أسوة بذاك الانتصار الذي حققناه قبل فترة قصيرة بعد ان رمى المزارعون بانتاجهم من الطماطم مجاناً في الأسواق وقرب الوحدات العسكرية لأن صدام كما سمعنا في حينه قد منع تسويق طماطة الزبير دعماً منه لطماطة صلاح الدين !!
وبعد ان انتهينا من تناول الغداء الاسطوري بالنسبة لنا كجنود فقراء معدمين رواتبهم لا تسد نفقات التحاقهم بوحداتهم العسكرية فيفاجئون بخرفان مشوية، تمددنا على الأرض لا شعورياً من ارهاق التمرين والخدر الشديد بعد تناول كم هائل من الطعام إثر جوع امتد ليومين، فذهب الضبط العسكري وقيافة جندي الإدارة وابن الخياط الى الجحيم، الى ان سمعنا صوت فتح الباب الفاصل بيننا وبين قاعة القيادة لنفاجىء بالفريق الأول الركن سلطان هاشم وزير الدفاع .!!
صدقوا انني الآن وانا اكتب بعد ربع قرن شعرت بنفس الرعدة وتقلص الامعاء الذي شعرت به في ذلك اليوم، فرغم اعتيادي التواصل مع كبار الضباط بحكم عملي في ادارة فيلق، ورغم اني يومها كنت طيلة النهار على احتكاك بالوزير الذي قضى معظم يوم التمرين لدينا لكوننا نمثل الدولة الخضراء التي تعني العراق، الا ان مسألة أن يفاجئك وزير الدفاع في لحظات لا تعلم فيها النطاق من البسطال تلك مسألة أخرى.
ابتسم الوزير، وسألنا إن كنا تغدينا جيداً رغم انه يرى بقايا ضحايانا ويعلم من هيأتنا بتلك اللحظة مدى الجريمة التي ارتكبناها بحق عالم الرفق بالحيوان، الا انه سأل ونجح بشكل باهر في إيصال شعور الأب الحنون لنا، ثم كان موقف محرج حين اراد ان يستطلع المقر الذي عملنا فيه، فإتجه نحو المطبخ العفن، شعرنا بالعار رغم اننا ضيوف لم يمض على وجودنا في ذلك المكان سوى يوم واحد، وسوف نغادره ربما بعد ساعة، تنقل بنظراته في ارجاء المكان وصار واضحاً لديه ان الطباخ لم يحظ بأي تنظيف منذ ان خرج من مصنعه! وكذلك (الكتلي) الأسود المصخم المطعج الذي يبدو انه دخل الخدمة منذ معركة واترلو ..! لم يشعرنا الوزير بأي شي غير اعتيادي، حاول اشعال الطباخ الى ان نجح بعد ان تراكض بعض مراتب الفيلق الرابع الذي نحن فيه ضيوف فاستبدلوا قنينة الغاز الفارغة بأخرى، وجلبوا بعض الاقداح التي لم يتسنى لهم غسلها في ذلك الارباك الذي حصل، توسلنا بالوزير ان يتنحى جانباً ويتركنا نعمل ما ينوي، الا انه رفض قائلاً “تغديت مع الضباط ويعجبني ان اشرب الشاي مع جنودي واني اسويه بإيدي” وهذا الذي حصل، فصنع لنا الشاي وشربه معنا في جلسة استغرقت بكل تفاصيلها ليس اكثر من نصف ساعة، الا انه بتواضعه ودماثة خلقه وحديثه الشيق وهو يسألنا عن حياتنا وحاجاتنا الاجتماعية ثم حياتنا اليومية في الجيش، اجبرنا من فرط اخلاقه ان ننسى من يكون.
فلروحك الطمأنينة والسكينة وانت ترحل عن عالمنا الى حيث النور والسلام والراحة الأبدية، وثق إن العراقي الذي لا ينسى الملح، لا ينسى بنفس القدر حتى استكان الشاي.