لم أشهد فرحا شعبيا عارما طوال حياتي إتفق عليه الجميع في العراق بمختلف مكوناتهم وطوائفهم كما شهدت فرح العراقيين الغامر بنهاية الحرب العراقية -الايرانية في مثل هذا اليوم 8/ 8 من عام 1988، يومها كنت في المستشفى العسكري في اربيل ارتدي دشداشة بازة صفراء اللون مقلمة قصيرة بلا ازرار وهي الوحيدة التي كانت موجودة في مخزن المستشفى انذاك لكثرة المصابين الراقدين فيها ولتمزق ملابسي العسكرية وكانت ملطخة بالدماء – كنت مصابا يومها في رقبتي وصدري بشظايا قنبرة هاون عيار 120 ملم نزلت بالقرب منا من دون ان نسمع لها صوتا اثناء الهبوط ولذا كنا نطلق عليها اسم ” الخرساء ” بخلاف قنبلة المدفع او الطائرة فأنت تسمع لها صوت صفير شديد قبيل نزولها بالقرب منك او فوق رأسك …ومن لؤم ” قنبرة ” الهاون بخلاف ” قنبلة ” المدفع انها تنزل عموديا فتشظي بدرجة 360 فيما حولها فتصيب كل من يقف او يجلس في المكان الذي تسقط فيه بخلاف قنبلة المدفع فإنها تشظي بطريقة – المروحة الصينية – امامها فقط بـ180 درجة ومن يقف خلفها لا يصاب بإذى يذكر حتى لو كان على بعد امتار قليلة بإستثناء العصف والغبار !
عم الفرح الغامر ارجاء المستشفى حينئذ حتى ان الممرضين – لايوجد ممرضات لأن الجرحى كلهم آنذاك من الرجال الرجال الاشاوس بشواربهم السوداء او الشقراء الكثة – تركوا المرضى واخذوا يرقصون ويتبادلون التهاني وبعضهم بقوم بحركات شبه هستيرية ويغني ويتشقلب على ارضية المستشفى كأنه طفل صغير وبطريقة عبثية مجنونة ، فيما تفرغ بعضهم لرش بعضهم الاخر بالمياه ، والكل مبتهج وفرح وغير مصدق ” ايعقل ان تنتهي هذه الحرب الضروس التي شبهها احد الكاريكاتيرات الاجنبية الشهيرة بأن العراق ركل خلفية ايران بقدمه فرفضت ان تترك قدمه وظلت ممسكة بها منذ عام 1982 يوم قرر العراق انهاء الحرب والانسحاب من الاراضي الايرانية ولكن من دون جدوى حتى تجرعهم السم ” .
يومها وبخلاف بقية الجرحى الراقدين في الردهة الكبيرة جدا والتي تضم ما لايقل عن 20 سريرا من الجانبين كان بإمكاني التحرك داخل الردهة وتقديم الخدمات متطوعا لبقية الجرحى ان احتاجوا لها لاسيما ذلك الجندي الذي اصيب بلدغة افعى جبلية قاتلة جعلته شبه عاجز على الحركة يرقد هاهنا منذ 6 اشهر لايتحرك منه غير رأسه ويديه فقط وكان مبتسما طوال الوقت وبالاخص حين كان يأتي دوري انا والجريح الراقد الى جانبي من دون حراك لكسر في عموده الفقري بعد انقلاب الايفا العسكرية التي كان بداخلها في الوادي السحيق وخروجه من الحادث منفردا على قيد الحياة بعد استشهاد كل من كان بمعيته ..الطريف ان كلينا كان يخشى من الابرة -جرعة بنسلين مضاعفة – ونحن الذين لم نخش ولم نهب كل ما مر بنا من ضجيج معارك وصخب حروب ..فكان لديغ الافعى يجد متعة عجيبة ويضحك بأعلى صوته عندما كان يحين دوري ودور صاحبي بزرق الابر ..اضحك الله سنه دوما وابدا …كنت اجلس لأشاهد تلفزيون العراق وهو مبتهج بنهاية الحرب ويبث الاغاني المدنية لأول مرة بعد 8 سنين من بث الاغاني الحربية التعبوية حصرا ..كانت الاغنية المدنية يومها ” زعلان الاسمر ما يكلي مرحبا ” لعارف محسن وهي اغنية من الفلكلور البصري الجميل ، وقتها استمتعت كثيرا بزعلان الاسمر وكأني استمع الى السمفونية التاسعة لبيتهوفن …وبسبب الكانونات في اليمين والشمال وبسبب الاصابة في الرقبة والصدر لم يكن بإمكاني الوضوء لأداء الصلاة كما لم يكن بإمكاني الركوع والسجود وكنت محنطا أتحرك في أرجاء القاعة كمومياء فرعونية يومها فإستفتيت – معمما كرديا صالحا كان في زيارة لأحد الجرحى الراقدين – وأفتى لي بالتيمم وبالصلاة جالسا بكل رحابة صدر ومازلت اذكر وجهه النوراني الصبوح الى يومنا اذ ما أجمل العلماء والائمة والخطباء والوعاظ الكرد بزيهم التقليدي الجميل ومسبحاتهم الالفية ذات الخرز المصنوعة من ثمار الجبال الطبيعية ، كان احد الجرحى صوفيا راقيا وصادقا وكان لايفتأ يتحفنا يوميا وفي كل مساء بأثر الاذكار والادعية والتسابيح والصلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم الدائمة ودورها في سمو الارواح وصفاء القلوب وتحليقها في عالم الملكوت وقدرتها الفائقة على زيادة همم الذاكرين ومساعدتهم على تخطي الصعاب مهما كانت عصيبة فكنت اجلس مستمعا الى ما يقول كأن على رأسي الطير وكأنني طالب في الابتدائية يستمع وينصت الى معلمته الرائعة من دون ان يحرك ساكنا ..يومها كنت عاشقا وقارئا نهما لسلسلة الباراسايكولوجي التي تترجمها دار المأمون ، كذلك كتب كولن ويلسون ، واذكار النووي ، ورياض الصالحين ، وتفسير الجلالين ، والطب النبوي المنسوب خطأ للامام الذهبي وهو في حقيقته لداود بن أبي الفرج الدمشقي ، او للإمام مُوفق الدين عبد اللطيف البغدادي على خلاف بين المحققين …اضافة الى كتب الغرائب والعجائب والطرائف حول العالم ..يومها لم يكن هناك لا انترنت ولا ستلايت ولا هواتف نقالة وكانت المعلومات تؤخذ إما من بطون الكتب او من بعض البرامج الوثائقية الرصينة ..وكان اجمل برنامج اذاعي عربي على الاطلاق نحرص على متابعته يوميا يبث من اذاعة الكويت الا وهو برنامج ” وعند جهينة الخبر اليقين ” الذي يقدمه الاذاعي الطرابلسي اللامع صاحب الحنجرة الذهبية والصوت الرخيم ” احمد سالم ” كذلك برنامجه الاخر” نافذة على التأريخ “…كان يحظى بمتابعات هائلة على خطى برنامجي ” الرياضة في اسبوع ” لمؤيد البدري ..و” العلم للجميع ” لكامل الدباغ من القناة التاسعة في التلفزيون العراقي ، وكنت استمع يوميا كذلك الى البرنامج الاذاعي الرائع ” نور على الدرب” وكان يبث على اثير إذاعة القرآن الكريم السعودية يومياً ” يااااه حقا ما اجمل الاذاعة ..انها اجمل من التلفزيون بمرات لمن يدمنها لأنها تسترعي انتباهه وتركيزه اكثر حيث ينتقل الصوت مباشرة الى السمع والذهن من غير مؤثرات صورية قد تذهب به بعيدا وتشغله عن الفكرة والمضمون “.
كانت القاعة التي تقع الى جوارنا محظور علينا دخولها لأنها تضم بين حناياها المصابين بالغرغرينا بعد ان وصلت إصاباتهم الى مرحلة يتطلب معها بتر العضو المتعفن قبل ان يقتل صاحبه …ماجرى هناك يومها جعلني اتابع لاحقا والى يومنا اي فيلم حربي تبثه السينما العالمية شريطة ان يتناول قصة حقيقية وحدثا تأريخيا واقعيا وانسانيا مؤثرا وليست – كلاوات – واكاذيب جل افلام هوليوود حيث البطل لايموت حتى نهاية الفيلم ويقتل 20 جنديا معاديا بطلقة واحدة ويرمي القنبلة اليدوية بعد ان يفتح مسمار امانها بأسنانه ..لأن ماكو هيج بطة تلعب شناو !
وهكذا مرت 32 سنة عجاف على العراق والعراقيين ومازال هذا البلد الجريح يرقد وشعبه وواقعه البائس كليا داخل المستشفى الحكومي المتهالك للعلاج من امراضه العضال وجراحاته النازفة ليل نهار والتي لم تندمل بعد ،وما زال الحظ العاثر -الاسمر- زعلان ولايقول للعراقي المسكين المعذب رهين المعارك والحصار والحروب المتتالية “مرحبا ” ..وشوكت ياحظ دكلي مرحبا ..تره العراقي المسكين ما رايد منك اكثر من كلمة …مرحبا!اودعناكم اغاتي