سقطت بغداد عاصمة الإمبراطورية العربية الإسلامية لعدة قرون , وكانت وهّاجة بالعز والقوة والكبرياء والإبداع الفكري والثقافي والعمراني والعلمي والأدبي الفياض , الذي فتح أبوابا مغلقةً في مسيرة البشرية , وأطلق ما فيها من قدرات إبتكارية وعلمية لا محدودة.
سقطت بغداد يوم الثامن من شباط عام ألف ومئتين وثمانٍ وخمسين (8\2\1258) على يد هولاكو , أي قبل 761 عام وفي مثل هذا اليوم.
بل أنها إحترقت وذُبحَ أهلها عن بكرة أبيهم , بأفظع جريمة إبادة جماعية عرفتها البشرية على مر العصور!!
جوهرة عمرانية وثقافية أرضية تحولت إلى ركام ودخان وأشلاء متناثرة , تفوح في أرجائها عفونة الجثث والدماء المراقة بعدوانية الوحوش الفائقة الفتك والإهلاك.
إنطفأت شمس الكرة الأرضية الحقيقية , فارتجت البلاد الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها , وحسب الناس أن الدنيا قد أشرفت على نهايتها , وأن القارعة واقعة لا محالة.
هولاكو حفيد جنكيز خان مؤسس الإمبراطورية المغولية , والذي عاش ثمانية وأربعين عاما فقط , صنع فيها الأهوال , فكان أعتى قوة شر ذات زوبعة عدوانية مروعة الإكتساح والدمار والخراب.
وقبل أن يهاجم بغداد تبادل رسائل التهديد والوعيد مع الخليفة العباسي المستعصم بالله , وهذه مقتطفات منها كما جاء في كتاب (جوامع التواريخ للهمداني) :
هولاكو:
ومهما تكن أسرتك عريقة وبيتك ذا مجد تليد , فأن لمعان القمر قد يبلغ درجة يخفي معها نور الشمس الساطعة.
فسوف أنزلك من الفلك الدوار , وسألقيك من عليائك إلى أسفل كالأسد , ولن أدع جيشا في مملكتك
وسأجعل مدينتك وأقليمك وأراضيك طعما للنار.
المستعصم بالله:
كيف يمكن أن تتحكم بالنجم , وتقيده بالرأي والجيش والسلاح.
فلا تتوان لحظة ولا تعتذر , إذا استقر رأيك على الحرب , إنّ لي ألوفا مؤلفة من الفرسان والرجالة
وهم متأهبون للقتال , وإنهم ليثيرون الغبار من ماء البحر وقت الحرب والطعان.
هولاكو:
لقد فتنك حب الجاه والمال والعجب والغرور بالدولة الفانية , بحيث لم يعد يؤثر فيك نصح الناصحين بالخير. وإن في أذنيك وقرا فلا تسمع نصح المشفقين , ولقد إنحرفتَ عن طريق آبائك وأجدادك , وإذن فعليك أن تكون مستعدا للحرب والقتال, فإني متوجه إلى بغداد بجيش كالنمل والجراد , ولو جرى سير الفلك على شاكلة أخرى فتلك مشيئة الله العظيم.
المستعصم بالله:
لو غاب عن الملك فله أن يسأل المطلعين على الأحوال , إذ كل ملك – حتى هذا العهد – قصد اسرة بني العباس ودار السلام بغداد كانت عاقبته وخيمة.
ومهما قصدتم ذوو السطوة والملوك وأصحاب الشوكة من السلاطين , فإن هذا البيت محكم للغاية , وسيبقى إلى يوم القيامة.
………..
فليس من المصلحة أن يفكر الملك بقصد أسرة العباسيين , فاحذر عين السوء من الزمان الغادر.
هولاكو:
إذا كان الخليفة قد أطاع فليخرج وإلا فليتأهب للقتال.
المستعصم بالله:
(الرسالة النهائية بعد أن أيقن بالبوار بعد هزيمة جيشه وبدء بغداد بالسقوط في يد هولاكو)
إن الملك قد أمر أن أبعث إليه بالوزير , ها أنذا قد لبيت طلبه فينبغي أن يكون الملك عند كلمته.
هولاكو:
إن هذا الشرط قد طلبته وأنا على باب همدان , أما الآن فنحن على باب بغداد , وقد ثار بحر الإضطراب والفتنة , فكيف أقنع بواحد , ينبغي أن ترسل هؤلاء الثلاثة (الدواتردار وسليمان شاه والوزير).
ومن رسالة هولاكو إلى الناصر الأيوبي صاحب حلب بعد سقوط بغداد:
أما بعد: فقد نزلنا بغداد سنة ستة وخمسين وستمائة فساء صباح المُنذَرين , فدعونا ملكها فأبى فحق عليه القول فأخذناه أخذا وبيلا.
وقد هزمته مصر العربية الإسلامية في معركة (عين جالوت) يوم (14-8-1260)(15 رمضان 658), بقيادة الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي , أي بعد سنتين وستة أشهر وستة أيام من إحتراق بغداد.
ومن هذه الرسائل يبدو:
– أن “الخليفة اظهر جهلا بالقوى التي يواجهها ويحاربها , كما أظهر غرورا وعجزا كبيرين. …..فقد وصف الخليفة هولاكو بالشاب الحدث المتمني قصر العمر….”
– “إستشهد بحوادث التأريخ ليثبت لهولاكو أن بني العباس مكللون بالعناية الإلهية , وإن كل من قصدهم بأذية لا بد أن يُقصم. وأن العناية الإلهية تحرسه وتحرس أسرة العباس: فليس من المصلحة أن يفكر الملك في قصد العباسيين , فاحذر عين السوء من الزمان الغادر”.
– “يبدو أن الخليفة كان معتقدا حقا بحماية إلهية له ولأسرته , ولذلك تصرف بهذا الشكل الإعتباطي , ولكنه كان واهما في ذلك , ودفع ثمن هذا الوهم حياته وعرشه وسلالته كلها”.
– “أدرك الخليفة بعد فوات الوقت , أن تهديدات هولاكو في محلها , وأن لا شيئ ينقذه من مخالبه , فحاول الصلح وتلبية قسم من طلبات هولاكو , ولكن هذا رفض وشن الحرب على بغداد والخليفة حتى أوصلها إلى نتيجتها الحتمية وهي غحتلال بغداد وتدميرها”.
وفي هذه الرسائل دروس وعِبر سياسية ذات قيمة معرفية , فهل نعتبر أم أن العِبَر ما أكثرها , والإسْتعبار ما أقله وأندره؟!!