ارادت العائلة ان يكون عيد ميلاده خروجا عن جو الحزن والكآبة والحديث اليومي عن ما اصاب الجميع من صدمة افقدتهم كل موازين الحكمة والتفكير بعد التهجير القسري الذي وقع لهم والذي ستمضي عليه بعد ايام قليلة ذكراه المؤلمة الاولى .
لقد تمكن منهم التفكير بما فقدوه من دور واملاك وجهد اجيال وارض وقبور وكنائس وذكريات وتاريخ يمتد الى آلاف السنين ومدينة كبُرت مع سنوات عمرهم ، لهم فيها وفي كل زاوية من زواياها قصة وحكاية . تمكن منهم التفكير حتى باتوا اجسادا بلا ارواح ، تاكل وتشرب وتؤدي كل وظائفها البشرية ولكن قد مات فيها الروح والامل .
يتذكرون وهم غير مصدقين ، كيف يمكن ان تُهجّر مدن بكاملها دون ذنب ، وهم الذين كانوا لا يستوعبون ما حلّ في التاريخ باهلهم ومدنهم وقراهم على يد سفاحين وطغاة من قتل وتهجير بسبب الغزوات والسلب والنهب وحب السيطرة . ولكن ذلك كان قبل قرون من الزمان يوم كان الناس يعيشون تحت سلطة القوي على الضعيف وفي زمن الجهل وحكم رئيس القبيلة ، لا في زمن ركوب الفضاء والتفكير باقامة مجمعات سكنية على سطح كواكبه .
تفكير انهكهم ، فأرادوا الخروج من هذه الاجواء والاحتفال بعيد ميلاد حفيدهم المدلل خارج اسوار البيت وبالتالي سيكون مناسبة جيدة للترويح عن النفس والعودة الى الحياة ثانية .
تهيأ الجميع وتم تحضير كل مستلزمات الاحتفال بعيد الميلاد بما يناسب وضعهم الحالي كمهجّرين ووقع الاختيار على اقامة الاحتفال في احد متنزهات المدينة * . حملت العائلة اشياءها ولكثرة عددهم استقل المحتفلون بسيارتي أجرة ، انطلقت الاولى باتجاه المكان لتعقبها الاخرى بعد برهة . طوال الطريق كان الحديث في المجموعتين يدور حول المكان الذي سيقصدونه وجماله وان المناسبة ستكون فاتحة خير لجولات اخرى ستقوم بها العائلة كسرا للروتين الممل الذي تعيشه . وما هو الا بعضا من الوقت حتى وصلت المجموعة الاولى الى المنتزه ، ظلت واقفة في المكان تنتظر وصول المجموعة الثانية ، طال الانتظار وما من شيء ، وبعد الا تصال بين افراد المجموعتين اتضح ان كل منهما قد وصلا المنتزه ولكن في مكان اختاره سائق سيارة الاجرة مختلف عن المجموعة الاخرى ، ليس في الامر مشكلة مادام هناك ما يؤمن الاتصال بين المجموعتين وهي ( الهواتف النقالة ) .
بدأت المجموعتان بالاتصال مع بعضهما هاتفيا والاتفاق على مكان معين للقاء ، وبدآ بالمسير بين الحدائق والاشجار وجموع الناس مخترقين شوارع المنتزه والاتصال بينهما متواصل دون الوصول الى نتيجة .
لم يكن يدر في خلد المحتفلين ان المنتزه من وسع المساحة بحيث يصعب عثور احدهما على الاخر . يطول البحث والمسير وكلما اتفقا على مكان محدد للقاء ، يصلونه دون ان يجدوا الفريق الاخر .
الانهاك والتعب اصاب الكبار في السن في الفريقين ، يأخذ الجميع قسطا من الراحة بين الفينة والاخرى ، ويستغل الشباب الوقت لوضع خططهم وتبادل الاراء في ايجاد افضل طريقة واقصر وقت للوصول الى المجموعة الاخرى ، فالامر قد اختلف الان ولم يعد مجرد احتفال بعيد الميلاد ، الوقت قد مضى والتعب والاجهاد قد أخذ من جسد الكبار والنساء والاطفال ، فلا بد من أخذ الامر بجدية والتفكير بطريقة تسهل عليهم اللقاء ببعضهم . تقف مجموعة عند علامة دالة او موقع معين لتبحث عنها المجموعة الاخرى ، وحتى هذه لم تنجح لان المنتزه هو عبارة عن نسخ مكررة بالاضافة الى ان قطع الدلالة من القلة يصعب العثور عليها وان وجدت فهي مدونة باللغة الكوردية التي لا يجيدونها . ومن المفارقات ان السؤال والاستفسار عن الاماكن داخل المنتزه يتكرر بين الزائرين اذن فليست مشكلتهم وحدهم فقط ولكن الامر يختلف عندهم فهناك مجموعة اخرى قد اضاعوا الطريق اليها .
تتعقد الامور لدى الفريقين وبدأت الطاقة في بطاريات هواتفهم النقالة تنتهي ورصيد بعضهم كذلك فلا بد من التقنين في الاتصالات الهاتفية ، هكذا جاءت التعليمات من رؤساء الفريقين ، فلا بد ان يتولى القيادة من هو اكثر حكمة وخبرة . يأتي اقتراح من احدهم باحتفال كل مجموعة بمفردها ، ولكن حتى هذه لم تنجح لان مستلزمات الاحتفال مقسمة بينهما ، فكانت كل الحلول توصد ابوابها امامهم .
مضى عليهم ساعات من البحث وكأنهم داخل غابة من غابات الامازون ، تأخر الوقت كثيرا وبدأ الناس ينسحبون من المنتزه وما بين حزن وفشل في اتمام الاحتفال ورسم بسمة على وجوه افراد العائلة ، يتفاجأ الفريقان باللقاء فتعلو الهلاهل في المكان والضحكات والتصفيق وصيحات وتنطط الاطفال في المكان ، وكانهم عثروا على احباء غابوا عنهم لسنين طوال .
يفترشون اقرب مكان ، وما ان بدأوا باحضار مستلزمات الاحتفال تنطفيء الكهرباء في المنتزه ليعم الظلام ارجاء المكان ويدخل الجميع في صمت وكأن على رؤوسهم الطير من هول المفاجأة . يحضر عامل في المنتزه ليبلغهم ان الساعة تشير الى الثانية عشر ليلا وهو موعد اقفال المنتزه لذا يتوجب عليهم المغادرة .
تجمع العائلة ما نشرت من بعض مستلزمات الاحتفال في المكان ليعودوا ادراجهم خائبين من فرحة لم تكتمل انتظروها بعد سنة كاملة من الحزن والالم .
*المنتزه هو اكبر منتزه في اقليم كوردستان . كان في السابق (قبل عام 1991) موقعا عسكريا يضم مجموعة كبيرة من الوحدات العسكرية . قامت حكومة اقليم كوردستان بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي بتحويله الى منتزه تبلغ مساحته ( 800 ) دونم حمل اسم القيادي في الحزب الديمقراطي الكوردستاني الشهيد سامي عبدالرحمن .