23 ديسمبر، 2024 3:48 م

لحظة وداع
ترمّلت وهي لم تكن تبلغ الاربعين من عمرها ، كانت الظروف التي مر بها البلد سببا في ذلك . حيث شكلت الضغوط النفسية والمعيشية والتغيير المفاجيء في الاوضاع وحالات الرعب والهلع التي عاشها المسيحيون في بغداد بسبب عمليات الخطف والابتزاز والاغتيال على الهوية والخوف من المجهول سببا في اتباع اسلوب في الحياة منغلقا بعض الشيء كوسيلة للدفاع للحفاظ على حياة افراد العائلة زاد ذلك مشاكل صحية مفاجئة ادى الى فقدان رب العائلة لحياته . رحل الزوج تاركا أرملة وفي عهدتها ولدان احدهما في سن المراهقة والثاني لا زال طفلا .
تنعكس الظروف وتصبح العائلة بلا معيل وسند يقف معها في مواجهة الظروف الصعبة ولحظات الخوف التي تهدد اعتى الرجال فكيف بارملة لا حول لها ولا قوة خصوصا والوضع الامني في المدينة غير مستقر .
لذا لم يعد امام العائلة الصغيرة غير ترك العاصمة والتوجه الى مسقط راس العائلة هناك في البلدة حيث الاهل والاقارب والاصدقاء والامن والامان ، فتحتضن العائلة من قبل محبيها وتقف الى جانب الام الارملة لتجتاز محنتها وتبعث فيها روح الثقة والامل للعودة الى الحياة بعد ان اسودت في عينيها وكأنها لم تعد تهتم للقادم من الايام فما الفائدة لقد رحل رفيق حياتها الذي كان يشاركها في رسم الاحلام الوردية لحياة العائلة المستقبلية .
تعود الارملة الى الحياة من جديد لتبدأ مشوارا جديدا وبمساعدة المقربين يقوم للعائلة بيت مستقل وتنبعث روح الوالد من جديد ولكن في الارملة والاولاد وما هي الا بضع سنوات لم يتجاوز عددها اصابع اليد الواحدة حتى يأتي داعش والتهجير وترك كل شيء ومع الذكريات وتعب السنين وقبر الزوج الامين .
تدخل العائلة ثانية في المجهول وممن تطلب المساعدة فالان الجميع هم بحاجة الى مساعدة . تستسلم الى الواقع وتخوض غمار التهجير مع الباقين في البحث عن المأوى والملجأ . ولكن اختلف الامر هذه المرة فالاولاد لم يعودوا صغارا  واكبرهم قد اصبح شابا تخجل العين من النظر اليه لما يحمله من مواصفات ( الشبوبية ) ولكن يصطدم هو الان في الواقع المرير . يتخلى عن كل شيء لم يعد يهتم بالمستقبل فقد ضاع كل ما بناه خلال هذه الفترة ، ولم يعد هناك اطمئنانا على المستقبل في هذا البلد بحسب قوله كل ما بنيناه انهار في لحظة وفي طرفة عين فلا سبيل لمواصلة الحياة الا بالهجرة . فاصبحت شغله الشاغل وتشاء الصدف ان تتوفر فرصة للعائلة للهجرة وتستكمل الاجراءات وياتي موعد السفر .
هنا اللحظة المؤلمة في حياة الارملة التي لم تضاهيها ألما وحزنا غير يوم فراق الرفيق الشريك من الحياة ، لحظة لا تعني غير ترك الاحبة والاهل والاصدقاء والارض ولحظات الحزن والسعادة التي لم تشعر بها الا بقربهم ، وحتى المحن كانت جميلة لانها عاشتها معهم .
جلست في وسط المودّعين الذين لكثرتهم لم تكفهم مقاعد البيت للجلوس فآثروا البقاء وقوفا ليشاركوها لحظة الوداع ، ومنهم من اختار درج البيت للجلوس وكانهم على  مدرجات ملعب يشاهدون لحظة حاسمة او مشهدا لن يتكرر . تجول بنظرها على الحضور وبالرغم من كثرتهم لكن لها مع كل واحد منهم ذكرى وموقف ، فتنتقل بين الوجوه وكأني بها تقول في نفسها انت كان لك معي الموقف الفلاني ، وانت ، وانتِ ، فمن سيكون معي في الغربة ، اما انت فلن انسى تلك اللحظة التي كدت انهار فيها ولولاك لما كنت الان موجودة حاضرة بينكم . ويطول نظرها باتجاه واحد من الجالسين ، كيف لا وهو والدها الذي كان الرفيق لها في كل احتياجاتها يرافقها اينما تذهب واينما يعصي عليها امرا فيستحق كل هذا الامعان به وهكذا مع الجميع . يحاول البعض نشر ابتسامة بين لحظة واخرى ولكن دون جدوى حتى الابتسامة اصبحت تخجل من نفسها لترتسم على الوجوه . فرصة ربما يحسدها عليها الكثيرون اما هي فلا تعني لها شيئا .
تعددت مواعيد الرحيل في قاموس حياة هذه الارملة وها قد اقترب موعد السفر ولا بد من الوداع ، توجهت تأخذ الحضور بالاحضان ، فكانت الدموع  سيدة الموقف في المشهد ، ولم تكن تخجل من ان تنساب على خدود الرجال ، اما دموع النساء فكانت على وجوههم مدرارا . لحظة تشبه كمن يُمسك بنبتة ظنا منه انها صغيرة يحاول اقتلاعها وكلما حاول الشد كلما وجد الجذور اكثر تمسكا بالارض تأبى ان تتركها ، هكذا كانت هذه المراة في لحظة وداعها.