23 ديسمبر، 2024 12:04 م

يوميات .. الباب الشرقي/6

يوميات .. الباب الشرقي/6

جلسا سوّيةً تحت ظلّ شجرة في الحديقة، ساكتٌ هوَ، رغم كلّ ما حلّ به، يحاول أن يربط أول خيطٍ بها، وهي كما هي، في عالمها الخاص، تدندن على موسيقى تسمعها من سمّاعةٍ في أذنيها.

: سَموأل، أريد أرجع للبيت وارتاح، ممكن نلتقي مره لوخ ؟ آني مُعجب بيچ، وبأفكارچ، وياريت نستمر أصدقاء.

ارتاح عبد الحسن كثيراً حين نطق ببوحه مع دقات قلبه الخافقة، وحين التفتَ ليسمع جوابها، وجدها مشغولةً بما تسمع، تهزّ رأسها صعوداً ونزولا.

لم تسمعه، فطلب منها أن ترفع السماعة علّه يستطيع أن يكرر جملته لها.

: سَموأل، هل نلتقي مرّة أخرى ؟

: أكيد صديقي، ولم لا ؟ Why not ؟ اليوم مساءاً في صالة گلگامش حفل افتتاح معرض صور فوتوغرافية لصديقنا الرائع مبدر الحسّاس، والشلّه كلها هناك، أكيد تجي ؟

: شَعره كَفشه هذا مبدر ؟ ويحطّ أقلام بيه ؟

: نعم، بالضبط.

: لا ما أجي ! وانوب الشلّه وأكيد جُلْجُثة جاي ويّاهم، لا، لا، زين ممكن سؤال ؟

: أكيد صديقي اتفضل.

: انتي ما عندچ أهل ؟ أُم ؟ أب يسأل عليچ ؟

: همّه منفصلين من زمن، بس علاقتهم طيبه ببعض، أصدقاء رائعين، وآني عايشه ويّه أمّي.

: منفصلييين ! .. ثم قال في نفسه ( يجوز همّه الأزواج ينفصلون حته يخلّون أطفالهم مثقفين ومثقفات ! أگول ليش آني مو مثقف ).

استأذن منها بعدما أخذت رقم هاتفه، وتواعدا أن يتحاورا مساءاً. تركها عبد الحسن وسلك الطريق الجانبي مخترقاً سوق السراي حتى يتجنب المزيد من الخسائر في هذا اليوم.

وصل البيت، استقبلته أخواته بالصراخ على حالته، بالكاد يجرّ نفسه، لم يجبهن على الأسئلة ولا فسّر لهن كسافته، فقط، رمى الكتاب جانباً ودخل الحمّام وأغلق الباب وراءه.

التقفن الكتاب، هذه تجرّه والأخرى تمدّ رأسها، والثالثة تقرأ العنوان ” سرديات ديدان منتفضة ” ! تجمدن الثلاثة ونظرن لبعض مع هذا العنوان.

” أموت وأعرف اشسوّه اليوم ” ، ” شكله متعارك وباسطيه ” ، ” اتوقع صادَقله وحده “

أنهى حمّامه وخرج يترنح، يخفي ورم عينه بالمنشفة، طلب منهن الغداء وصعد إلى فوق يلبس ثيابه. خرجت أمّه من غرفتها بعدما أتمّت صلاتها.

: ها يمّه، رجع عبد الحسن ؟

: إي يوم، وحالته حاله.

: اسم الله عليه ! شكو ؟ اشصاير بيه ؟

نزلَ عبد الحسن وأقنعهن أنه دخل مشاجرة مع أحدهم وتصالح معه بعدها، وطلب منهن عدم الإلحاح في السؤال. تناول غداءه وأخواته جالسات بصف واحد أمامه ينظر إليه بريبةٍ وشكٍ وفضول.

: راح اتموتن إذا ما تعرفن اشسصار ويّاي، عالعموم عَده العركه فعندي أخبار حلوه وبس لأمّي راح أحچيلها.

قمن الأخوات الثلاثة وتكوّرن حول الأم ماسكاتٍ بها، وأنهنّ لن يفارقنها اليوم لحظةً واحدة. أكمل غداءه عبد الحسن وطلب شاياً، قامت الصغرى وجلبت له صينية صغيرة عليها قدح الشاي وقالت له ” يصير بس آني أعرف، وما أفتن “

: انتي ما تفتنين ؟ آخر زمان هذا لازم، طفري ولعبي بعيد.

: اشگد نَحس.

حمل قدح الشاي ورفع أمّه من الأرض وتوجها إلى غرفتها، أغلق الباب وبعد أقل من دقيقة فتحه وطلب من أخواته الراكعات الابتعاد وعدم الإنصات.

: يُوم، اليوم التقيت ببنيّه وعجبتني، وقلبي انفتحلها.

: شكو بيها يُوم، هاي امنيتي والله يوفقك، بس هيّه من يا عمام ؟ من جماعتنه لو لا ؟ وأكيد حليوه.

: يوم فدوه هاي فتاة مثقفة وكَونيه .. قاطعته أمّه .. ” گونيه ” ؟ گونيه شنو يُمّه ؟

: كَونيه مو گونيه، يعني بلا انتماء، أمها وأبوها الكتاب والثقافة.

: يعني من مَن نطلبها ونخطبها يُوم ؟ من مفاتيح الجنان لو ضياء الصالحين ؟

: لا يوم، هاي اختصاصها انتروبولوجي وتعبانه على نفسها .. و و ..

: وشنو يُمّه أشو اسكتت ؟

سرح عبد الحسن للحظات مع نفسه، ليس يدري، هل هو في الطريق الصحيح، أم عليه أن يغيّر بوصلته وينتظر، خطر بباله أن الفرص لا تأتي كثيراً في الحياة وعليه عزم الأمر والقرار.

: يُوم، آني أريدها وراح أفاتحها بالموضوع بأقرب فرصه واللي بي خير الله يسوّيه.

: زين هُمّه وين ساكنين ؟ حتى اندز على عمّك هودان يجي ويسأل عليهم وعلى عمامهه.

: هودان ! لعد خربت السالفه، من هسّه أگولچ.

: ليش يُمّه يا ستار ؟

ترك أمّه وصعد لغرفته واسترخى على فرشه، وما أن دخل في نومه حتى رنّ هاتفه، إنها سَموأل، استغرب من ذلك ورغم تعبه قام واتكأ على مخدته وأجابها.

: هلو سوني اشلونك ؟ وصلت للبيت ؟ حبّيت أسلّم عليك.

: شكراً سَموأل، آني ممنون سؤالچ، وحقيقه كان عندي كلام بس ما گدرت .. قاطعته سَموأل ..

: هااا، أكيد انته دتحب ! وأكيد فد وحده اسمها سَموأل انته مشغول فكرك بيها.

استغرب عبد الحسن، وفقد نشوة اللحظة التي استشعرها، لكنه تدارك نفسه وعلّل ذلك بفائدة العلاقة مع المثقفة، فهي تختصر له الطريق كثيراً.

: اشلون عرفتي ؟

: من أول النهار وأنا أقرأ حركاتك وسكناتك صديقي، وقد بانت عليك أعراض الحُب فلا تتكلف التعب والسهاد، سأفكر في الأمر وأرد عليك في المساء، باااي.

بين مبتهجٍ ومحبط، امتزجت أحاسيسه، “هل الحب بهذه الطريقة ؟”. قام من فراشه وتوضأ، صلّى ودعا ربّه أن يهديه سواء السبيل، سرح على سجّادته بما هو مقبل عليه، يقارن بين ابنة خالته وهذه السَموأل، والكفّة في الأخير ترجح لسَموأل، فالملل اليومي الذي يعيشه يريد الخروج منه.

في المساء وصل سجاد وجلسا سوّيةً أمام جهاز الكومبيوتر ليعدّل صفحته على الفيسبوك.

: اشبيها عينك ؟ ضربتك لو شنو ؟

: بله لغوه واشتغل، شوفلي اسم زين وهذوله كلهم اطردهم، من أبو عمامه للرادود والدفّان.

: استخفرالله ! ليش هيچي عبد الحسن ؟

: لك كلاوچي، هي مال عمايم ورواديد ؟ خيّر صرت هسّه ؟

بالأثناء رنّ هاتف عبد الحسن وكانت سَموأل، فتح الجهاز وقام مبتعداً عن سجاد الذي لحقه بأذنه الصاغية.

: هلو سوني، آني فكّرت بالموضوع وقررت أحبّك.

: قررتي اتحبيني وبدون ما تعرفين أي شي عنّي ؟ أخاف استعجلتي عزيزتي ؟

: أبداً، أصلاً ما كو داعي لمضيعة الوقت بالشوق والسهر، نحن كائنات كلامية، يجب أن نستعجل البوح حتى لا يلتهمنا الزمن.

: بس آني اسمي عبد الحسن !

: واو، يجنّن حبيبي عبودي.

سرح عبد الحسن وعجز عن الجواب، عجز عن الفهم، فهل هذا توفيق إلهي بتعجيل أمنيته، أم سرّ آخر لا يعرفه ؟

[email protected]