18 ديسمبر، 2024 7:00 م

يوميات .. الباب الشرقي – ٢

يوميات .. الباب الشرقي – ٢

( 2 )

***

تَركن هندامه وتتالت الأسئلة عليه

.. منيّه هاي ؟ .. شسمها ؟ .. عندك صورتها ؟ .. أحچي يمعوّد ..

يلتف أمام المرآة على نفسه، يدقق في تفاصيله وتسريحة شعره، غير مبالٍ بهن، نفرزتهن وانفعالهن

: مُوتَن قَهر، ما أحچي، ويلّه هَسّه، خروج، أريد أنفرد بنفسي رجاءاً

في الأثناء، حَضرت الوالدة، سَحبت البنات من الغرفة وانفردت بعبد الحسن

: يُمّه بيك شي فدوه ؟ أخاف جوعان ؟

وضعت ظاهر كفّها على جبهته وتحسَّست، لكنه بلا حرارة

: يا بَعد روحي، ما تگلّي تماضر بت خالتك اشبيها ؟

: للمرة الألف يُوم، ما أريد وحده متخلّفه، بس تعرف الطبخ والكنس والمسح، يُوم فدوه، أريد وحده أعيش وياها ساعات استرخاء وتبادل معرفي و .. و ..

تركته أمّه وهي محبطة، وهو كما هو، في أوجّ طاقته ليوم غد

وجاء الغد ..

صحا مبكراً ورتّب هندامه، حين وقف أمام المرآة وجد شعره المشبع بالجلّ وقد انكبس تماماً إثر نومته على المخدّة، وجهة رأسه الأخرى منتفشه

: لا يهم، فيكه، مَراح أعدّلها

نزل السلالم بهدوءٍ وحذرٍ ليتجنب تعليقات أخواته، لكنّ الكبيرة أخرجت رأسها من الباب وصاحت به من الخلف

: وين رايح من الصُبّح سوني ؟ اليوم مو عطله ؟ .. ثم صاحت على أمّها .. يُوم گعدي وشوفي ابنچ وين رايح

رغم ارتباكه عبد الحسن، إلّا أنه أسرع بالخروج من البيت، لم يشأ الذهاب بسيارته، تمشّى في الشارع، يرتقب سيارة أجرة تقلّه إلى شارع المتنبي

صادفه ابن جيرانهم وهو عائدٌ من فرن الصمون، حاول تفاديه وذهب إلى الجهة الأخرى من الشارع، لكن إبراهيم عرفه ووجّه له وصفاً جعل عبد الحسن يردّ عليه .. حقود ! ..

أشار إلى السيارة القادمة وركبها، بين لحظة وأخرى يضع النظارة ويرفعها حين يحاول التركيز على الطريق، حائرٌ ليس يدري، كيف سيُكمل نهاره بها

يقترب من الحرس عند مدخل شارع المتنبي، يقف عنده بكل هدوء، يتأمله الحرس من فوق إلى تحت، يبدأ بتفتيشه مع عبارة

.. استلم ..

لم يعر له أهمية، فليس هو المقصود

السوق، ليس في الذروة بعد، لكنّ عدد الزائرين مشجّع، يرصد هنا وهناك غزلان متحركة، بعضها برفقة، وأخرى منفردة، وأخرى تتأبط ملفات وكتب، يتحرك بهدوءٍ وسكينة، يرفع نظارته ويثبتها على جبينه، يوزع ابتساماته في الأثير، يردّ سلام البعض عليه، هزّة الرأس بالرأس، شيء لطيف أنّهم يسلّمون عليه رغم عدم المعرفة، لكن، يبدو أن تفاصيله تُعرفّه عليهم

وسط السوق، توقفَ عند إحدى البسطات، مرّر بصره على العناوين وصور الغلاف، لا يعرف اختياره وما يقتني، وعليه أن يحمل كتاباً طبقاً للتعليمات، أشار بإصبعه إلى إحدى الكتب سائلاً عن سعره وكان بغلافٍ عليه فتاة وورود، ويبدو أن البائع اشتبه معه، فحمل له كتاباً آخر وباعه له، تأمل عنوانه وقلّب صفحاته، شكر البائع ومضى مع كتاب ( سرديات ديدان منتفضة )

وقف جانباً وركزّ بصره على فتاةٍ تقف في الجانب الآخر مع شابّين يشبهانه بالهندام والشَعر، يتداولون أحاديث وضحكاتٍ وهزّات رأس، سرح وتقدم بخياله نحوها، أغمض عينه وراح يشمّ عطرها، هو هناك، في حضرتها، رغم أنه لم يتحرك من مكانه، يستلذ بلحظات قربه منها، ولكن ! للحظةٍ، تغيرت الرائحة، فصارت غير عطرة، وفي لحظة تلتها، هجمت عليه تلك المرأة العملاقة التي تستجدي الزوّار، صارخةً بوجهه

: لُبُع، اطّيني، لُبُع !

استعاد وعيه، لكن متأخراً، إذ اقتربت منه كثيراً حتى لامست براطمها اللزجة أطراف خدّه، ترش عليها افرازات حروفها، وحتى أخرج ربع الدينار وتحرر من قبضتها، التفت فلم يجد الفتاة مكانها

توجّه نحو مكانها، يبحث عنها، أدار رأسه فوق الجمع فرآها هناك، تهمّ بدخول إحدى المكتبات، ولوحدها، أسرع ودخل خلفها، يقترب منها مسافة الأمان، يتحرك وينظر حيث تنظر، حين أتى صاحب المكتبة وسألها عن طلبها، ذكرت عنواناً غريباً فراح ليجلبه من رفٍّ آخر، فقال له عبد الحسن بالأثناء

: آني هم أريد واحد مثله

التفت إليه الفتاة وابتسمت، فارتبكَ وانفعل وعاد لصاحب المكتبة

: لاء استادي، جيب لي اثنين

خاطب الفتاة بثقة بعدما أخذ نفساً عميقاً

: اتسوگي شما تردين، آني حاضر

ضحكت الفتاة وقالت : ياي، كم أنتَ رائع ! .. ومدّت يدها لتسلّم عليه معرّفة عن نفسها .. سَموأل ..

مدّ يده واستفسر : سَماور ؟ رايده سَماور ؟ هسه أگلب الدنيه واجيبلچ

: لا، اسمي سَموأل، هو صح غريب وبي معاني، بس عاجبني، وأَنتْ، ما اسمك سيدي ؟

: آني مو سيد، واسمي ععععـ … عسن، لاء، عسوني، لاء، سوني

: واو ! اسمك جميل صديقي

قال في نفسه .. بالعبّاس هاي حبّتني .. صديقي !

أخذوا الكتب بعدما دفع الحساب وخرجا سوّيةً، كتفاً بكتف، وسط الزحام، هو يرتجف بنعومةٍ وقلبه يخفق، يصدر منه صوتٌ كما الحمائم حين تقترب من بعضها البعض

بعد خطواتٍ وقبل أيّ حديث، أراد عبد الحسن أن يفتح موضوعاً يتقرب به أكثر من قلب الفتاة

: إنتي ما تتصورين شنو .. وهجمت ذات الغولة عليه من الخلف وبصوتها الجهوري ..

: لُبُع، اطّيني لُبُع !

فزّ هذه المرّة فزّةً عظيمة، كادت بعض الأصوات تخرج من غير أماكنها الصحيحة منه، وصاح صيحةَ فزعٍ جعلت كل الحاضرين في المشهد يلتفتون إليه باستهجان واستنكار

أخرج لها ألف دينار وابتعد قليلاً وناوشها

: هاي ألف مال اليوم كلّه، جوزي منّي لخاطر الله

أخذته سَموأل وهي تخفّف عنه بلغتها الفصحى

: صديقي سوني، إنّ هذه الحالة تمثل واقع تردّي الطبقات في الأزمنة اللاشعورية من مخاض الشعوب التي تعاني من أرق السهاد الثقافي، ووصفها الانتروسايكولوجي ليست ضحية، بل هي أيقونة بؤس لملمت كل آهات الحضارات المتصارعة

سوني أصابه دوار، من كلامها ومن تشويش الرؤيا عنده بهذه النظارات +2، وضيق البنطال وعفونة شعره بما تعلّق به من غبار وحشرات

.. اشتعلوا أهلك سجاد ..

كلما فرك فروة رأسه، امتلأت أظافره بالدهن، يمسحها بمؤخرته ويعيد النظر إلى أصابعه

: فعلاً هي أيقونة، لكنها تفرز من فمها التفــ ..

قاطعته بسرعة ..

: أحسنت صديقي، تفرز من فمها القهر البشري المتوحد في ذات الإنهيارات الداخلية لها، أنت عبقري صديقي، تحب تاخذ وياها سيلفي لو آني ألتقطت لك صورة للذكرى

: في وقت لاحق صديقتي سَمَورد !

: كم تعجبني تلقائيتك، سَ مَ و أل، وتعني ذُباب الخَلّ

: خَلّ !

..

يتبع

خاص بكتابات

[email protected]