18 ديسمبر، 2024 8:46 م

كتابة اليوميات هي تدوين للتاريخ عن قرب شديد. هي حالة التصاق دافئ بالتاريخ في حاضر ينقضي ويتبدد. هي فيوضات روح تصب في نهر التاريخ العظيم. هي التاريخ في طزاجته وطراوته وحرارته، في جزيئة استثنائية منه تختلج بالحياة. كأنك تلمس جلداً حيّاً وتستثيره، تخمشه، تجعل مساماته تتفتح وتتنفس، تشهق باللذة والألم، بالمتعة والحزن، بالانشراح والخوف. إنها في نهاية المطاف محاولة للحكي عن علاقة الذات بالعالم؛ صورة الذات وموقعها في العالم.. الذات بعدِّها جسداً وعقلاً وروحاً. وأيضاً مشاعرَ وأفكاراً وأحلاماً ورغبات..
   قد تكون كتابة اليوميات هرباً من حالة اختناق وجودي، أو توسلاً بملاذ آمن في وقت عصيب، ومن داخل محيط معادٍ. أو سعياً للتطهر من أدران نفس خاطئة ومعذّبة، الخ.. لكن ثمة منْ يكتبون يومياتهم وهم مترعون بالشغف والأمل، ويبحثون عن خلود مستحيل. ديدنهم الإمساك بالزمن من تلابيبه. أما حال  الكاتبة أناييس نن فكانت بين هذا وذاك كما أزعم. واليوميات عند نن ليست التاريخ بمادته الخام، وليست الأدب النيئ العسير الهضم. فقد كانت تدوِّن يومياتها وتعرف أنها تؤلف شيئاً ليُقرأ، لا لكي تلتهمها النيران فيما بعد. لذا فإن ما كتبته ينتمي للأدب ذي النكهة الحلوة الشهيّة.. كانت تعرف أنها تلتقط شذرات من صور عالمها، ومما يحصل فيه، مدركة أن عليها أن تخبر عنها مَن سيأتون مِن بعدها.
   وأنت تمضي مع يوميّاتها ( اليوميات/ مختارات.. ترجمة؛ لطفية الدليمي.. دار المدى/ بيروت 2013 ) تشعر وكأنك تقرأ قصائد نثر قصيرة.. جمل موجزة رشيقة طافحة بالدلالات الإنسانية. فنن حاذقة في اقتصاد اللغة، في اصطياد وتطويع أكثر الكلمات بساطة وإيحاءً، تلك التي تعطي لنصوصها عافية الجمال والمعنى.. أناقة أسلوبها وعذوبته ورهافته تعبير عن جوهر شخصيتها الموهوبة، المتحضرة، والفوّارة بطاقة الحياة. يقول هنري ميللر، في العام 1937 عن يومياتها: “سوف تحتل هذه اليوميات موقعها إلى جانب اعترافات القديس أوغسطين، وبترونيوس، وأبيلار، وجان جاك روسو، ومارسيل بروست”.
   تعترف الكاتبة الروائية لطفية الدليمي بأنها أُصيبت بصدمة حين اطلاعها على يوميات نن للمرة الأولى، وكيف توقفت لبرهة “بما يشبه الممانعة الخجولة”، بسبب الجرأة العالية لتلك اليوميات، ولما تحتضنه من “فضاء لا يعرف مفردة التحريم وحدودها، ولا يتعامل مع التحايل الإبداعي”. وفي خطوة لا تخلو من شجاعة وثقة بالنفس أقدمت على ترجمة مختارات منها، على الرغم من أنها تحاشت المشاهد المغرقة بالإيروتيكية، مؤثرة “اختيار مقاطع تخص نظرتها ( أناييس نن ) للإبداع وعلاقاتها بالمبدعين ووجهة نظرها إلى الحروب والحركات النسوية واعترافاتها ببعض مواقف من علاقات إنسانية يمتزج فيها الإبداعي والنفسي بالاجتماعي واليومي”. وهذه المقاطع تعطينا صورة بانورامية واسعة وثرية عن الخلفية السياسية والاجتماعية العامة التي عاشت في كنفها.
   يوميات أناييس نن التي تركتها في عشرات الكراسات وبواقع خمسة عشر ألف صفحة تعد وثيقة تاريخية نادرة وغنية عن باريس الثلاثينيات والأربعينيات؛ بحياتها الثقافية وصراعاتها الفكرية، وظهور التيارات الفنية المختلفة فيها، وتحوّلاتها السياسية، وصخبها الاجتماعي، ناهيك عمّا تركه الاحتلال الألماني والحرب من ندوب في روح الكاتبة، وفي أرواح الناس.. وقد عمّقت الحرب الجانب السوداوي من تفكيرها.. تقول، إبان احتدام الصراع الأهلي في أسبانيا آب/ 1936: “المسرّات مخترقة بالميلانخوليا، أبدو مجهدة عصبية، أصارع من أجل الحب في عالم مليء بالخراب.. أين هي المسرّات، مسرّاتي؟”. وقبل أن تندلع الحرب العالمية الثانية كانت تستشعر رائحة الموت والدمار الهابّة من كهوف السياسة، والتي كانت تدفعها إلى حواف اليأس.. تقول: “تبدو لي عذابات العالم ومعاناته ميؤوساً من شفائها باستثناء ما يمكننا القيام به منفردين”.
   آمنت بالفن، وكرهت السياسة، وربما قادها هذا للابتعاد عن الواقع، فلم تفهم قوانين حركته وتناقضاته جيداً، ولم تشكل تصوّراً واضحاً عنه.. كانت الماركسية في ذلك الوقت في أوج صعودها، وكان من بين أصدقائها من استغرقته السياسة والنظريات تماماً غير أنها على الرغم من إحساسها بمعاناة المقربين منها، وما يحدق بأوروبا من أخطار لبثت في برجها العاجي، وكأن الشعر والفن والكتابة كافٍ لإنقاذ العالم.. ينصحها غونزالو وهو أحد أصدقائها المتحمسين للثورة: “أريد أن تمتلكي الوعي الطبقي”. وعلى هذا تعلِّق: “لقد حاولت طوال حياتي أن امحو المراتب الطبقية ولا أعترف بغير الخصائص العقلية أو الصفات الشعورية والشجاعة والموهبة.. قلت له: إنني أؤمن بالشعر وحده، أريد أن أحيا فيما وراء ( الزمني ) والمؤقت.. خارج تنظيمات هذا العالم”.
   ولأنها تحمل بين أضلعها قلباً جامحاً حرون، وعواطف متوهجة، فضلاً عن وعيها الحاد بكيانها الأنثوي الاستثنائي وأحلامها الشاسعة فقد اندفعت أناييس نن بشجاعة لانتهاك الحدود التي رسخّها الآخرون. وهي حدود في عرفها زائفة، تجعل الحياة تذبل وممكناتها تُهدر وآفاقها تظلمّ. وها هي تعلن بلا مواربة: “الحياة الاعتيادية لا تروق لي”. وعبر فعل الكتابة تروم إنارة أذهان قرائها، لاسيما النساء منهم، وتحريضهم ليعيشوا حيواتهم في مستوى أرقى يليق بالوجود الإنساني: “إنني أتوق إلى اللحظات الخارقة كما السرياليين في نشدانهم للغرابة. أريد أن أكون كاتبة تنبئ الناس بوجود اللحظات الفائقة. أريد البرهنة على وجود فضاء لا متناه، ومعنى أبدي، واتجاهات غير محددة”.
   كانت بحكم طبيعة الأشياء تخوض مغامرتها في عالم الرجال، فيما عربة الإبداع متاحة، وطوع أمرها لتستقلها وقتما تشاء إلى تلكم المجاهل حيث تكتشف أعماق نفسها.. تقول: “إن الصراع ما بين ذاتي الأنثوية التي تريد العيش في عالم محكوم بقانون الرجل وتحيا في تناغم مع الرجال، وبين المبدعة القادرة على ابتكار عالم وإيقاع ينتميان إليها ـ أدى إلى استحالة وجود أحد يشاركني عالمي الخاص.. ثمة رغبة لديّ للاكتشاف وهناك احتداماتي وانفعالاتي.. هناك المخيّلة والبهاء..”. بيد أنها لم تكن انطوائية قط.. ولطالما احتاجت إلى وجود الأصدقاء الذين يفهمونها إلى جانبها.. كانت حاجتها إليهم جسدية وروحية وعقلية في الوقت عينه: “كيف يمكن العيش في الحاضر حينما لا يكون ثمة أحد هناك في الوقت ذاته.. لا أحد يتقاطع معك.. ولا أحد بوسعه الرد على أسئلتك.. إن الحاضر مصنوع من متعة تصادم جسدين غير سماويين في اندماج سماوي”.
   أناييس نن معترضة أنثوية باهرة تستفز ذكورية الأدب وتتحداها، مصرِّة على خوض الصراع في الأرض التي تختارها هي.. وهو صراع لا تبحث فيه عن انتصار على الآخر/ الذكر، بل تسعى كي تجعله يصحو وينتصر على نفسه.. إنها تبغي الوئام والانسجام والتوازن.. أن تكون العلاقة ـ صداقة وتفاهماً إنسانياَ وروحياً كانت، أو انشباكاً جنسياً ـ متناغمة مثل قطعة موسيقية عذبة تُرعشُ في انسيابها جنبات الكون. فلحظة التكافؤ وحدها توفر شرط الفرحة الكونية، وإمكانية الكمال، للبرهنة على أننا بشر. إنها كائنة مجبولة بالحب.. تحب دوماً غير أنها لا تذعن،  ولإحساسها العميق باستقلاليتها، وحريتها تنبذ الخضوع.. اعتادت أن تكون مثل طائر حر، جماله مبذول لنظر العالم لكنه يرفض حدود القفص، يرفض أن يُمتلك، وأن يذوب في عالم أشياء الآخرين.. فكينونتها الجامحة تأبى الركون لأنانية وجشع واستحواذ الغير.
   من يقرأ يومياتها وكتبها قد يخرج بانطباع خاطئ، لاسيما إذا كان ينطلق من نظرة بطريركية ضيقة، مؤداه أنها مبتذلة متهتكة نزوية، وقحة بصراحتها، تعيش بلا قيم، ولا تبغي غير إرضاء نزوات الجسد. لكن القراءة المتأنية لما كتبت تكشف عن ثراء روحي مدهش تنطوي عليه شخصيتها، وأن لها قيمها الخاصة والأهداف التي تنشدها تتعدى نطاق ذاتها وخلاصها الشخصي.. 
   إن مباهج الإبداع تتفوق عندها على مباهج الجسد.. هذه الخلاصة التي تنتهي إليها ربما تفاجئ كثيرين.. فهي مؤمنة بهويتها بوصفها كاتبة.. وقد اكتشفت مبكراً هذا الوازع في داخلها. وخاضت تجربتها حيث يزدهر الفن، ويتألق الإبداع، ويشرق الجمال: “أريد التخلي عن كل المتع التي نلتها في حياة الترف. أريد التنازل عنها مقابل المتع الرائعة التي توفرها لي حياة الإبداع والمنجزات الفنية التي تؤطر حياتي”.
      إنها لا تتمرد أو تتحرش بدافع النزق، وإنما تسلك بعفوية نقيّة، بتلقائية يرشح عنها ما هو بدئي، صادق، وجميل.. هذه التلقائية هي التي تصدم أولئك المسجونين وراء أسيجة تقاليدهم وتابوهاتهم ونفاقهم الاجتماعي. إنها تكشف للضوء والهواء الطلق ما يسعى الآخرون إلى مواراته ودفنه.
   ما يخرج به القارئ بعد فراغه من قراءة هذه المختارات من اليوميات، هو انطباعه المريح بأنه تعرف على بعض خفايا حياة أناييس نن. وقد ينتابه شعور بأنه اطلع على ما يكفي ليقول أنه عرف حقيقة هذه المرأة الساحرة بإبداعها، المتمردة، والعاشقة للحياة. لكن أتراها حقاً كشفت عن أوراقها كلها، ولم يبق ثمة شيء خفي؟ ربما ليس الأمر بهذه البساطة. وها هو واحد من أقرب أصدقائها؛ الروائي لورنس داريل صاحب رباعية الإسكندرية، يقول في رسالة إلى هنري ميللر بعد وفاة نن في العام 1977: “أعتقد أن الناس سيخرجون أنيابهم وأظفارهم الآن من أجل السعي لاكتشاف الأقنعة الأربعة أو الخمسة التي كانت تختفي وراءها، ومما لا شك فيه أنهم سيخطئون. كانت طهرانية وسرّية لدرجة أنني لا أعرف عنها شيئا بل ولا أستطيع أن أجيب على سؤال واحد فيما يخص سيرتها الذاتية”.
[email protected]