1- اليهود في عصور ماقبل الميلاد
في التاسع من نيسان 2003، وعند سقوط بغداد، كان المتحف الوطني العراقي ومقتنياته الثمينة، هو الأكثر تعرضاً للنهب المنظم، خاصة تلك الآثار التي تعود إلى العصور البابلية وفي مقدمها مايتعلق بالسبي البابلي لليهود في عصور ماقبل الميلاد .
ذلك ماقاد إلى بحث حول علاقة اليهود بالعراق منذ بدء التاريخ مروراً بالعصور الإسلامية المختلفة، وصولاً الى الهجرة الجماعية ليهود العراق في خمسينات وستينات القرن الماضي وماعنى ذلك في إفقاد العراق أحد مكوناته الإجتماعية، وهو ماتجري إعادته من التعرض للمكّون المسيحي الذي تكاد أن تصيبه عدوى الهجرة الجماعية وان اختلفت الأسباب .
لم تكن علاقة اليهود بالعراق ظرفية أو طارئة، فهي تضرب عمقاُ في جذور التاريخ عبر أزمنة تمتد حتى المدونات الأولى للتاريخ العراقي، وقد شهدت تلك العلاقة – إن صح كل مانقل عنها – منحنيات ومسالك وعرة تداخل فيها الموروث الأسطوري بالمعتقد الديني، والإستعارة أو الإيحاء أو ربما النقل الحرفي، بالمنجز الحضاري الضخم الذي أبدعه العراقيون الأوائل، إبتداء من أكثر أسفار العهد القديم شيوعاُ وتأثيراً في معتقدات البشر- الطوفان وأيوب وسفر التكوين – وليس إنتهاء بآخر رقيم أثري نهب أو أتلف من المتاحف العراقية، مروراً بأعظم قصيدة حب عرفها الإنسان – نشيد الإنشاد السومري – الذي نسج على منواله اليهود أو نسبوه لأنفسهم بتعديلات طفيفة لم تستطع إخفاء أصله العراقي، وأكثر من ذلك توافر أدلة تشير إلى أن مقولة “شعب الله المختار” التي بنى عليها اليهود كل ما جاء في توراتهم لاحقاً، ربما كانت مستوحاة من أسطورة “إيرا” إله الدمار عند البابليين، إذ سيكتشف الباحثون في هذا الشأن، ذلك التطابق المثير بين ماورد في تلك الأسطورة البابلية، وبين العهد اليهودي مع الإله “يهوه” الذي هو صورة منقحة عن إله الأسطورة البابلية .
كان الرأي السائد عند علماء الأنثربولوجيا الغربيين يذهب إلى أن التوراة هي المأثرة الكبرى لشعب إسرائيل فتلك الأسفار المقدّسة شكلت عالم البدايات الثري للمتكون الروحي والمعتقدي الأول للبشرية، ومن ثم فقد وضعت المعالم الأبرز للتأريخ المدون لحضارة المنطقة التي عمّت إشعاعاتها الفكر الإنساني برمته منذ أقدم العصور وما زالت تأثيراتها سارية إلى اليوم .
تلك هي المتداولات اليقينية المرتقية إلى درجة من القداسة وضعتها خارج نطاق المساءلة والبحث في الفكر الغربي عامة – مع بعض المشاكسات الفكرية هنا وهناك ـ الإ أن تلك اليقينيات تعرضت لإهتزازات خطيرة عندما بدأت ترجمات الألواح والرقم الطينية التي إختزنتها أرض الرافدين، تظهر تباعاُ مفندة ما نسبه اليهود إلى أنفسهم من أسفار ورد ذكرها في مدونات سومر وبابل قبل تدوين التوراة اليهودية بأكثر من ألف وخمسمائة عام .
لقد دهش بنو إسرائيل لما رأوه في بابل بعد سبيهم إليها من قبل الملك الكلداني “نبوخذ نصّر”، فتلك الحضارة هائلة العطاء بمنجزاتها المذهلة وقدراتها الأسطورية التي تعبّر عن عبقرية فذة ومتفوقة، تقف الآن بكل قوتها وجبروتها أمام أعين شعب أسير وخائف، وكما يحلم كل ضعيف بإكتساب صفات وإمكانيات القوي، بل ويتلبس شخصيته ومنجزاته ولو بتصورات محض خيالية، بدأ اليهود بنقل الإرث الثقافي لبابل، سواء ذلك المدون أو المتناقل شفاهاً، وكان السفر الأكثر ملائمة وتعبيراً عن إحتقان مشاعر الإنتقام المتراكم في نفوس بني إسرائيل تجاه بابل وأهلها، هو ذلك الذي يتحدث عن إله الإنتقام والأوبئة البابلي “إيرا” .
تقول الأسطورة: أن “إيرا” يقرر الإنتقام من بابل لإستهانة أهلها بكلمته ووعيده، وعندما يشرع في عمله، يعلن عن ذلك بنشيد طويل ((لقد حان الوقت، وأزفت الساعة – سأهيب بالشمس فتترك شعاعها – وأغطي بالظلام الدامس وجه النهار – سأدمرّ المدن، فأحيلها خراباً – سأقتلع الأشجار وغيضات القصب، وأصرع كل إنسان على أرض بابل – سأظهر المزيد من الفتك والإنتقام – فأستلب روح الأبن ويدفنه أبوه، ثم أستلب روح الأب فلا يجد من يدفنه— (1) الأسلوب ذاته وبتشابه ملفت، هو ما يتبعه “يهوه” في تدمير المدن لعصيان أمره، فلا يترك منها ما يخبرعن مأساتها، كما حدث في سدوم وعامورة .
وبعد أن يجعل “إيرا” السماء تمطر “زفتاً وكبريتاً” ويشبع شهوته في الإنتقام من بابل، يتدخل مرافقه “أيشوم” للحد من سطوة غضبه فيخاطبه قائلاً: (إيرا أيها الجليل: قد سقيت التقي الردى كما سقيت الضال الردى – قد سقيت الخاطئ الردى كما سقيت الطاهر الردى – قد سلبت حياة من رفع القرابين للآلهة وسلبت حاشية الملوك، سلبت حياة كبير القوم وسلبت حياة الفتاة الغضة، فما آن لك أن تستريح ؟) وفي نفحة ندم مفاجئة يقرر”إيرا” إعادة بناء بابل بأعظم مما كانت عليه، ولكن هذه المرة بواسطة شعب إختاره بنفسه، شعب كان حتى الأمس القريب مهمشاً وضعيفاً، فيطلق وعده لإيشوم (أرض أرض ومدينة مدينة، سينهض الأكاديون فيخضعونهم جميعاً، سيقبض الأكاديون على أعدائهم العظام —-) ثم يستمر النشيد معدداً ما سيقوم به الأكاديون”شعبه المختار” من مآثر وإنتصارات، وفي نهاية النشيد يخاطبهم قائلاً: (ستحولون مدنهم الى خراب، وتؤوبون بابل بثمين الغنائم، وجميع الحكام سيجلبون إلى بابل أتاواتهم، ولأيام طويلة ستسود بابل فوق الأرض)(2).
وفي التاريخ القديم لحضارة العراق، أن الملك “سرجون الأكدي” هو من نهض بالمهمة فأسس السلالة الأكدية وتولى حكم البلاد لمدة 56 عاماً، الإ أن الثغرات التي لم يذكرها التاريخ عن ولادته ونشأته، ملأتها الأسطورة التي أحاطت بهذه الشخصية العجيبة، قيل أن أمه كانت كاهنة في معبد آنو،وهي من طبقة (آنتيم) التي ربما تعني البتول أو العذراء ، ولما حملت به وولدته سراً، وضعته في “قفةّ” – سلةّ تصنع من خوص النخيل وتطلى بالقار، إستخدمها العراقيون وسيلة لعبور الأنهارـ ثم رمته في نهر الفرات كي لا تفقد مكانها ومكانتها في المعبد الذي يشترط الأّ تكون (الكاهنة) أمّاَ، وقد التقطه بستاني يعمل في قصرأحد ملوك “أوروك” ثم عمل ساقياً للملك ونشأ في كنفه، ليؤسس فيما بعد الدولة الأكدية حينما عبر مع أتباعه نهر”الفرات” هرباً من بطش الملك، ثم عاد بعد أن جمع جيشا عظيماًً أستولى به على البلاد بأسرها .
هذا هو إذاً ما سوف يؤسس عليه بنو إسرائيل مقولتهم الكبرى “شعب الله المختار” فقد بات متيسراً تحسين الفكرة الأسطورية للأكاديين وتحويرها بقليل من الجهد ليتحول الإله البابلي “إيرا” الى الإله اليهودي “يهوه” ومن ثم ليمنح وعده لليهود “شعبه المختار” بالقوة والسيادة والملك كما فعل “إيرا” مع الأكاديين ـ وليتوالى بعدها نقل الأسفار وتحويرها لتصبح سفراً متكاملاً خرج به بنو إسرائيل إلى العالم كأرث نزل إليهم من عند الله إختصهم به دون سائر البشر .
ولما كانت أسفار التوراة لا تسند بدليل يؤيده علم الآثار،- وهو ما أكده “روبنشتاين”عالم الآثار الإسرائيلي قبل سنوات بقوله “لقد بحثت ثلاثين عاماً عن أثر واحد لما جاء في التوراة فلم أجد شيئاً”- يأتي ذلك في مقابل الأسفار البابلية المدونة على ألواح عمرها آلاف السنين، تتضح عندها حجم الكارثة التي ستحلّ بإسرائيل حين تفقد مبرراتها الأخلاقية والإيمانية الأسطورية التي أسست عليها مرتكزات قيامها بعد إكتشاف أصول أكبر عملية نقل عرفها التاريخ الحضاري للبشرية .
تقتضي الإشارة إلى أن تاريخ اليهود في العراق لم يأخذ خطاً بيانياً متصاعداً حشدت فيه الأحقاد وسيّرت دفته رياح الإنتقام، فتتبع خطوات ذلك التاريخ منذ أن بدء أول إحتكاك لليهود مع العراق، يظهر أن فترات طويلة من الإستقرار المزدهر قد عاشها اليهود هناك، وهو ما فرضته أو جعلته ممكناً، سهولة الإندماج مع المجتمع العراقي ذاته، الذي طالما رسمت حدود مسلكيته ميزة التسامح المثيرة للدهشة في بيئة جغرافية حكمتها القسوة وأمتلأت بالطغاة من كل صنف ونوع ـ وهذا متجذر في مركب تكويني غريب يتغذى من مصادر وحيثيات مختلفة ومتنوعة رسمتها الجغرافيا وأطّرها التاريخ- .
أما التواجد الأول لليهود في ارض الرافدين، فيشار أنهم كانوا من أتباع النبي إبراهيم الذين هاجروا معه من أرض “أور” ويذكر أن أعدادهم كانت بحدود (4000) نسمة من الرجال والنساء، إلا أن الكثير من المؤرخين لا يميلون إلى الأخذ بهذه المقولة رغم معقولية إحتمالاتها، إذ أنها تخلو من سند تاريخي يمكن الإستدلال به كبيان إثبات لهذه المزاعم، أما الثابت المتفق عليه والذي يذهب المؤرخون الى إعتماده، فهو أن اليهود دخلوا العراق لأول مرة سنة 626 ق.م أيام الملك الآشوري “تجلات بلاشر الثالث” حين جرّد حملة عسكرية كبرى غزا فيها مملكة إسرائيل لمحاولتها التعاون مع المصريين الذين كانوا يشكلون المنافس الوحيد لآشور، ومن السياق العام لأحداث تلك الفترة يمكن الإستنتاج بأن مملكة إسرائيل كانت تابعة للإمبراطورية الآشورية التي كانت تسيطر على معظم الشرق ووصلت حدودها إلى منطقة “رفح” جنوب فلسطين، وأنها ـ أي مملكة إسرائيل – غالباً ما كانت تعلن التمرد ناقضة العهود التي تعقدها مع إمبراطورية آشور، مما إستدعى تجريد ثلاث حملات متتالية سبي فيها أكثر من (400) ألف من السكان، فقد نقل الملك “تجلات الثالث” ما يقرب من (000، 200) نسمة، فيما نقل “سنحاريب” في الحملة الثانية بحدود (150)الفاً، أما آخرالحملات الآشورية، فكانت ايام “أسرحدون الثاني” وفيها تم أسر أكثر من (000، 28) من مملكة يهوذا وحدها (يذكر عن قيام مملكتين في ذلك التاريخ ـ إسرائيل ويهودا وقد توحدتا في مراحل لاحقة) .
بعد سقوط الدولة الآشورية على يد الكلدانيين الذين إستولوا على كل أراضي آشور، يبدو أن مملكة إسرائيل أعيد تأسيسها أكثر من مرة وكانت الوقائع الغريبة نفسها تتكرر بتتابع مثير للإستفهام، فقد جرد الملك الكلداني “نبوخذ نصّر” عام 597ق.م
حملة عسكرية ضخمة ضد تمرد ملك إسرائيل “يهويا قيم” الذي توفى إثناء الحصار فخلفه أبنه “يهويا كين” وبعد وقوعه في الأسر، عين “صدقيا” خلفاً له، وما كادت الأمور تستقيم لـ “صدقيا” حتى أعلن التمرد بدعم وتحريض من “حوفرا” ملك مصر، الذي هبّ لنجدته حينما عسكرت جيوش البابليين في “ربله” القريبة من حمص السورية، لكن نبوخذ نصر رد جيش “حوفرا” على أعقابه ودمر مملكة “صدقيا” حيث ساق إلى الأسر ما يقرب من (000 50) من سكانها، وقد جسد نبوخذ نصر انتصاره على الجيوش المصرية بنحت تمثال (أسد بابل) الشهير الذي يمثل أسدًا يربض على جسد إمراة بملامح أفريقية .
ان سياقات الوقائع التاريخية الخاصة بسبي اليهود، كما وردت بصورتها تلك، إنما تثير العديد من التساؤلات التي بقيت من دون إجابات قاطعة قدمها المؤرخون، خاصة فيما يتعلق بالجوانب التقنية اللوجستية من جهة، والسياسية التاريخية من جهة أخرى، فعملية أسر ضخمة لمائتي ألف من البشر تحتاج إلى توافر مستلزمات كبيرة من معسكرات إعتقال وحراسة دائمة وإطعام وغيرها، ولم يذكر التاريخ كيف تصرف الآشوريون ومن بعدهم البابليون في هذا الجانب، كما لم يتم التطرق إلى موت كثيف تعرض له الأسرى بسبب جوع أو وباء مما يصاحب عملية كبرى من هذا النوع، والسؤال الأهم، بأية وسائل وطرق كان يتسنى لليهود إعادة بناء مملكتهم بعد سبي هذه الأعداد الضخمة من سكانها ؟
إن قراءة منهجية متمعنة في هذه الإيرادات التاريخية تطلق جملة من الإستنتاجات التي يمكن من خلالها إيضاح بعض جوانب الصورة ،يأتي أهمها :
1- أن المصدر الأول لهذه الوقائع وبالتفاصيل التي وردت فيها، إنما جاءت من اليهود أنفسهم وبعد قرون طويلة من وقوعها، وهو ما يضعها في سياق إعادة الصياغة والتعديل والحذف والإضافة والتحوير والمبالغة وغيرها مما قد يرافق موضوعاً كهذا، كما أن الغائية لعبت دوراً كبيراً في هذا المجال .
2- كانت العمليات تتم لأسباب سياسية لا دينية، وبالتالي فهي إستهدفت رأس الحكم وحاشيته وقواد جيشه وربما فرقاً من جنده، أي أن الأسر كان يطال أعداداً لا تتجاوز بضعة آلاف، هذا الأسلوب الذي أستخدم بادئ الأمر، هو ما يفسر بقاء الممالك اليهودية وعودتها للتمرد مرة إثر أخرى، ويمكن الحديث عن عمليات تهجير أو إعادة توطين جماعي جرت في مراحل لاحقة، وهذه العمليات لا يصح إطلاق صفة “السبي” عليها لأن “المسبيين” عاشوا حياة عادية بل ومزدهرة في موطنهم الجديد
ولم يجر معاملتهم كأسرى (فبعضهم كان يزرع الأراضي التي أقطعت لهم، وقد حفروا شبكة من جداول الري والقنوات لإيصال المياه إلى مزارعهم، وأنشأوا الحقول والبساتين ووجهوا عنايتهم لوقايتها من الغرق، كما اشتغل بعضهم في حقل التجارة، ويرى البعض أنه لولا أنبياء المهجر الذين كانوا لا ينفكون عن تنبيه اليهود إلى أخطار الانصهار وحثهم على ضرورة التفكير في العودة إلى يهوذا، لانصهر اليهود في الشعب الكلداني انصهاراً تاماً بسبب ما توافر لهم من رغد العيش والأمن والاستقرار(5) .
3- من قراءة ماورد في ترجمات الألواح البابلية عن موضوع “السبي” ومقارنتها بأسفار اليهود ومنقولاتهم المتوارثة، يمكن الإستدلال بأن تلك العمليات لم تحدث في التاريخ إلا مرتين، مرة أيام الآشوريين وأخرى بيد نبوخذ نصّر، أي بفارق زمني طويل بين الأولى والثانية، أما إيراد الأحداث بالمتكررات المذكورة، فهو أقرب إلى بناء “تراجيديا” مأسوية هدفها إضفاء صفة الضحية الدائمة على اليهودي المضطهد عبر التاريخ وهو ما سوف يستثمر لاحقا من قبل الحركة الصهيونية التي أكملته ب “المحرقة” النازية .
– الحلقة القادمة : يهود العراق من العصر العباسي إلى العراق الحديث