18 ديسمبر، 2024 8:56 م

ينطفئون في العتمات عن اللااكتراث بالفن   

ينطفئون في العتمات عن اللااكتراث بالفن   

قبل أيام بيعت لوحة ُ الرسام مارك روثكو باكثر من / 75 مليون دولار / تُرى كم جيل سيعيشُ مرفهاً بمثل هذا المبلغ ، وقبل قبلها بيعت الصرخة ولوحات اُخر لرسامين آخرين بملايين خيالية أقل من تلك .
لن استغرب ذلك فالغربُ يُقدّسُ الفن بكلّ اطرافه / الرسم، المسرح ، الأدب ،الموسيقى والنحت / كونه مقترناً بالحياة والديمومة / وكلتاهما من دون فن لامعنى لهما /… كان الفنُ . لا في عالمنا العربي ، يجري مع الزمن خطوة ً خطوة ً . فيما نعتبره في عالمنا المشرقي سُبّة ، والفنّان مجرّد كائن خارج السرب .
في طفولتي / وانا في الإبتدائية / اشغلني أبي لدى خياط في العُطل الصيفية . وحين صرتُ في المتوسطة اشتغلتُ في أعمال بناء بيوت شركة النفط كانت تبنى للخبراء البريطانيين وكبار موظفي شركة النفط ، كنتُ اتلظى اكثر من عشر ساعات تحت قيوظ نهارات الأصياف . لم اتمتع بعطلة صيف مريحة ابداً . كان ذلك الخياط شقيقَ زوجة ابي / الذي أُشبعني شتماً وصفعات / اعملُ لديه اشبه بخادم . كنا في مبتدأ خمسينيات القرن الماضي . فالى جوارنا يجثو ملهى الفارابي داخل زقاق عميق تُطلُّ فوهتُه على شارع المجيدية . وثمة ملهى آخر ليس ببعيد / قرب سينما الحمراء / نسيتُ اسمه . في الملهى الثاني تعملُ نرجس شوقي ، وفي الفارابي يعمل المطرب محمد عبد المطلب ، هو زوجها كما كان يُقال / أيامئذ ٍ / شابٌ نحيفٌ أنيقٌ ذوعينين نسريتين وسيعتين ، وشعر اسود برّاق يُمشطه الى الوراء . وبدلاته التي تتغيّر بين وقت ووقت أنيقة غالباً ما تكون زرقاء . يأتي الى دكاننا بعد العاشرة ظهراً ، فاُعدُّ له كرسيّاً ويجلس لصق الباب . ولا يمرّ صابغ احذية الا ويطلب اليه أن يمسح حذاءيه ، فيمنحه عشرة فلوس . كنتُ اسمعه / وأنا اقعي على بلاط الرصيف الى جواره وقت فراغي / يُدندن ببعض الأغاني . وعبرشارع المجيدية / قبالة دكاننا / مقهى ذو فتحتين واسعتين يُديره رجل اسمه حسن ، بين المقهى وفندق أحمد بلاس ثلاثة دكاكين . يظلُّ جالساً ُطوال ساعتين اجلبُ له خلال ذلك بضعَ استكانات من الشاي الأسود . وفي المقهى غرامفون مربوط بسماعة تُسمع الدكاكين المتاخمة اغاني ل/ زهور حسين ولميعة توفيق وسليمة مراد والقبانجي وناظم الغزالي وآخرين مصريين وعرب /  احياناً يتوقف الكرامفون فيطلبُ استكانة شاي وتشغيل ٌالغرامفون ليسمعَ بعض الأغاني . كان الناسُ يُطلقون على راقصات ومطربات ومطربي الملهيين اسماً  لم اع ِ ايامئذ معناه / ارتيست / . وفي احدى المرّات سألت / حسن / عن معنى تلك الكلمة ، وردّ بلا اكتراث : ق…. وع….. .. وكشّ سمعي ردّه ، فليس معقولاً أن يكون المطرب الجالس الى جواري / ق ….. / وهو الطيّبُ النبيل الذي لا يُفوّت صابغ حذاء فقير الّا ويمنحه عشرة فلوس . وان كان كلّ هؤلاء الفنّانين مثلما قال عنهم حسن الجايجي  فكيف يدخلون الى دكاننا ويستقبلهم جمال الخياط باحترام ومحبّة . وكذا الحال مع المطربين والمطربات والممثلين والممثلات / فلماذا / اذن / تذيع محطاتُ الإذاعة اغانيهم ويذهب الناس الى السينمات لمشاهدة افلامهم ، والى الملاهي ؟؟
استنكرتُ اجابة صاحب المقهى ، بل قلّ احترامي له .
ابي كان يتردد على المواليد النبوية والأعراس التي تضج باغاني مطربي مدينتنا . بل كان لا يُفوّت سهرة طرب من السهرات التي يُقيمها المطربُ الكركوكي الأشهر عبد الواحد كوزجي في الفضاء المتاخم لبيته وبيت ابيه في محلة المصلى في اماسي الخميس الصيفية . ولا يفصل بيتنا عن بيته سوى زقاق واحد . وكنتُ احياناً وانا تلميذ صغير أراجع دروسي على سطح بيتنا الكبير  ، وحين انتهي اردد بعض الأغاني التي اخفطها من السينما ومن راديو صديقي وجاري زين العابدين حيث يرفع صوته ليسمعه الجيران . وفي احدى المرّات عاد ابي مبكراً وسمعني أغني على السطح اغنية ليلى مراد / انا قلبي دليلي / فجأة ً اطل وجهُه وانهال عليّ بعصاه وهو يُردّدُ : تُريد أن تصبح قوّاداً . اذن ، كان الفنُّ مرتبطاً / في نظر بعض الناس أيامذاك / بهذا الإسم الذميم . لكن لم كانوا يسمعون الأغاني ويهتزون لها طرباً ؟؟
ولم تزل قائمة ً في مجتمعاتنا تلك العقول التي تنظر الى الفن بكل اجنحته نظرة دونية وعدوانية .
في احدى لقاءاتي بالفنانة العراقية المبدعة ناهدة الرماح / بمدينة لوند جنوب السويد / أخبرتني انها عانت الأمرين عندما انخرطت في التمثيل ، بيد أن اهلها شجّعوها وخففوا عنها مخاوفها سنوات / وهي اولُ إمرأة تمارس التمثيل/ ثمّ دخلت الفنانة الكبيرة زينب في هذا المجال وزاد بعدئذ عددٌ النساء .
والآن وقد دخلنا في العقد الثاني من القرن الجديد وما زال الفن مُحارَباً ومستهجناً في عالمنا العربي  ولا سيّما بعد طوفانات الربيع الأمريكي واحتلال العراق . ولنا أن نتساءلَ : لم يزدهر الفن في الغرب وللفنان موقع متميّز لا يحظى به حتى السياسي الألمعي ، والفنُ بكلّ اجنحته مُقدّسٌ ، وعندنا الفنُ حرامٌ تُشنّ عليه حملاتٌ عدوانية شرسة ؟  الفنّانُون العرب / ما عدا استثناءات قليلة في مجال السينما والغناء بخاصة / يتضوّرُون جوعاً ، وجلّهم يُعانون الفقر والأمراض ولا يستطيعون دخول المشافي . وفي بلد مثل العراق ذي امكانات نفطية هائلة مات عددٌ من المبدعين / علماء وادباء وتشكيليين ومسرحيين / وما زال الموتُ ينتظربعضهم بسبب الأمراض التي يحتاج علاجها الى امكانات مادية . بينما السياسي الذي كان اسماً مجهولاً قبل الاحتلال تصرف على علاجه اموال ٌ طائلة تصل مئات الألوف من الدولارات  وعلى حساب الدولة . ولا يفوتُ يومٌ الا وتعلن وسائل الإعلام عن انطفاء هذا الشاعر او القصاص أو المسرحي اوالتشكيلي في ظروف معيشية بئيسة تكتنفها العُزلة والفقر . وهناك الملايين من الأرامل واليتامى وكبار السن مهملون ومنسيون لا تعرف حكوماتنا عنهم شيئاً .  ويموتُ الأديب والرسّام والممثل في غرفته من دون ان تسعفه جهة مسؤولة . ثمّ تُكتب عنه / في زواية صغيرة من صحيفة ما / بعض السطور مشيدين بمكانته الأبداعية . وأغلبُ مبدعينا الآن موزعون في دول الجوار يعيشون على الكفاف  ، وآخرون حفظت كرامتهم المنافي الأوروبية والغربية .
الفنُ عندنا لعنة ٌ ترشق بها صاحبُها ، يُعبيء حياته بالضنك والتعاسة .
ونعمة ٌ في الغرب تصيبُ صاحبها بالتخمة . وتُخصصُ له مهرجانات . ولا تخلو هنا في السويد مؤسسة ٌ حكومية أو أهلية من لوحات فنانين سويديين وغربيين تّزيّنُ جدران ممراتها وصالاتها . الفنُ / هنا / رديفُ التقدّم والحياة .
……….
وقد يكون من نسج ِ الخيال اذا بيعت لوحة ُ فنان عربي بخمسة ملايين دولار ، الآن أو في المستقبل ؟ قياساً  برسومات فناني الغرب التي لا ترقى / أحياناً / في مستواها الفني الى ابعاض ما تنطوي عليه لوحة ُ الفنان العربي من ابداع ……