كنت قد نشرت هذا الموضوع قبل عام تقريباً، وها أنا أعيد نشره ثانية لعل التذكير يفيد (فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا) . لقد بدأت أيام الزيارة، وبدأت معها دروب الآلام، ولم يعلَق أحد من رجال الدين، ولا أئمة المساجد والحسينيات، ولا خطباء المنبر الحسيني على المناظر المؤلمة لمسيرة آلاف من النساء العراقيات، برفقة أطفال صغار، طوال أيام في العراء من المحافظات العراقية البعيدة باتجاه مدينة الكاظمية، بغير سقف يؤويهن، ولا مُحرم يحميهن، يفترشن أرض السرادقات، أو ينمن في العراء، يدفعهن في مسيرتهن الشاقة تلك، حب الإمام، وطلب شفاعته والرجاء الذي لا ينقطع به. ولكننا لسنا كغيرنا الذي يرى الفاجعة بعين عوراء، بل علينا واجب التذكير بأن أولئك النسوة هن أمهات لنا وأخوات وزوجات، ومن الواجب الحفاظ عليهن معززات ومكرمات، أم إنهن من بنات المدن المنسية والأحياء الفقيرة التي ليس لها من يدافع عنها ولو بكلمة؟ وهل خرجت مثل نسائنا إلى الزيارة مشياً : أمهات، وأخوات، وزوجات رجال الدين وأئمة المساجد والحسينيات وخطباء المنبر الحسيني، أم بقين في بيوتهن مخدرات ومحفوظات عن الغرباء، إنه مجرد سؤال؟
لكن الأنكى من ذلك السكوت الجبان عن الخطأ، هو شرعنة الخطأ نفسه، ونشر الفقه المدلس عن آل البيت الكرام الذين لم يعرف عنهم تركهم النساء عرضة لكل ذي مطمع، فقد روي عن الرسول محمد أنه قال ( تعجبون من غيرة سعد بن عبادة، والله لأنا أغير منه والله أغير مني). والغيرة في اللغة هي الحمية والأنفة يقال: رجل غيور ومغيار، والمغيار الشديد الغيرة، والعرب تقول أغير من الحمّى أي أنها تلازم المحموم ملازمة الغيور لبعلها.
وبعد موقعة الجمل قال الإمام علي بن أبي طالب لعائشة ( بالله ما أنصفوك ، خدّروا حرائرهم وأبرزوك وأنت عرض رسول الله )، فسير معها إلى المدينة أخاها محمد بن أبي بكر.
وقبيل استشهاده في كربلاء أوصى الإمام الحسين أخته زينب أن لا تشق عليه جيباً، ولا تخمش وجهاً، ولا تخرج إلى الجيش، وكانت تلك الوصية آخر مطلب للإمام الشهيد من أخته المجاهدة الصابرة التي حفظته في غيابه كما في حضوره، وفي استشهاده كما في حياته، ولا يستطيع أحد من رجال الدين إنكار ذلك الموقف.
ولكن مشايخ الفضائيات مازالوا يصرحون برخصة غريبة ينسفون فيها كل ما سبق بقولهم : إن فقه أهل البيت يحلل سفر المرأة المسلمة بمفردها وبدون محرم إذا ما اطمأنت، بينما يحرم الفقه السني ذلك. فهل تعني هذه الرخصة أن فقه أهل البيت أقل غيرة على نساء المسلمين من فقه السنة والجماعة؟ ومن أين يأتي الاطمئنان للنساء الزائرات في شوارع مفخخة وبساتين تعج بالقتلة؟ أما السفر فالمقصود به ذلك السفر الآمن والذي يجري في ظروف أمنية جيدة ومحسوبة، وحيث تنتقل المرأة من مطار إلى آخر أو من مرآب إلى آخر تحت سمع وبصر المسافرين والشرطة، بينما لا تتوفر تلك الظروف للزائرات مشياً طوال أيام وليال في طرق محفوفة بالمخاطر حيث تتربص بكل من يوجه وجهه نحو مراقد الأئمة الأطهار عصابات من الحاقدين والكارهين والنواصب، وحيث لا ساتر يسترهن عن أعين الغرباء، ولا مرافق صحية تصلح لقضاء حاجاتهن الإنسانية، ومن يرد معرفة ظروف المبيت فليبت ليلة واحدة فقط في أي موكب.
لماذا نترك نساءنا تحت تلك التجارب؟ مالذي نريد إثباته لأنفسنا أو لغيرنا؟ وهل بخروج نسائنا كمال لديننا أم نقصان له؟ ونحن لم نسمع عن دين يعذب نساءه بتلك الطريقة أو يهين نساءه بتلك الطريقة.
سوف تنتهي زيارة الإمام الكاظم مثل غيرها من الزيارت التي تحولت جميعها بقدرة قادر إلى طقوس من المشي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ربط الدين والمذهب بطقوس لا تمت إليهما بصلة، فهل ينبري لتلك الأفعال مجتهد جريء يحرَم الزيارات جميعها على النساء، ويحفظ لنا كرامتنا تلك التي أهدرتها النساء في الزيارات، ويحفظ مذهب أهل البيت من هذه الشبهات، ويترفق بالقوارير من أنفسهن، ومن طقوس المشي المهلكة؟ فلا عزاء للسيدات، ويمنع زيارتهن حتى إشعار آخر.