18 ديسمبر، 2024 4:16 م

يمكنك أن تشعر بجفاف الدلتا في العراق من حليب الجاموس

يمكنك أن تشعر بجفاف الدلتا في العراق من حليب الجاموس

ترجمة: د. هاشم نعمة
كانت أهوار جنوب العراق مهد الحضارة الإنسانية، إلا أن تغير المناخ و”الإدارة السيئة للمياه” يهددان هذا النظام البيئي الفريد.
رعد حبيب الأسدي يحدق إلى الأمام مباشرة وهو ينزلق بزورقه الخشبي عبر هور الجبايش. يعلم الناشط المناخي العراقي أن هناك ثعابين سامة بين القصب، ولكن هناك أنواع من الطيور يتوق إلى رؤيتها. “هناك، هناك، الطائر الرفراف!” يصرخ بحماس. “وهل تراه هناك؟ هذا هو طائر القصب البصري، الذي يسبت في كينيا “.
كل حيوان يجعل قلب الأسدي ينبض بسرعة. في الشهر الماضي، كما يقول، رأى، لأول مرة، فأر نسوكيا المهدد بالانقراض (نيسوكيا بوني). قال الرجل البالغ من العمر 29 عامًا ذو اللحية والعيون الداكنة: “لم أصدق عيني”. “كنا نبحث عن هذا الجرذ لمدة أربعين عامًا. والآن لدي صورته، هذا دليل على أنه لا يزال موجودا!”
عند سؤاله عن مصدر حبه للأهوار، ظل الأسدي صامتًا للحظة. ثم قال: “إنها رابطة صوفية”. “لا يمكنك أن تفهم ذلك حتى تكون قد ولدت مثلي بين الجاموس. إذن فأنت تنتمي إلى الماء وإلى الحيوانات “.
يعتبر الأسدي نفسه من عرب الأهوار، وهم أقلية عرقية في جنوب العراق. عاش أسلافه في هذه الأهوار منذ آلاف السنين، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات. حتى أنهم قد ينحدرون من السومريين الذين اخترعوا الكتابة وأنشأوا أول حضارة بشرية (حوالي 4000-2000 قبل الميلاد). في عام 2016، أضيفت أهوار بلاد ما بين النهرين، بما في ذلك هور الجبايش، إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
في الوقت نفسه، لهذا التراث التاريخي قيمة بيئية لا تقدر بثمن. تعتبر هذه الأهوار هي الأكبر مساحة في الشرق الأوسط وهي ضرورية للنظام الهيدرولوجي العراقي وللنظام البيئي البحري للخليج العربي. لا يعيش هنا أكثر من 30,000 من الجاموس فحسب، بل يعيش أيضًا عدد لا يحصى من الأنواع المحمية من الأسماك والثعابين والقوارض. بالإضافة إلى ذلك، تكون الأهوار مكان استراحة للطيور المهاجرة من جميع أنحاء العالم.

حقول النفط

لكن كل هذا معرض لخطر الزوال، كما يتضح عندما يبحر الأسدي بزورقه إلى أطراف الهور ويربطه في سهل جاف. شقوق عميقة تشق الأرض المحروقة. يلوح عمود طويل من الدخان في الأفق. يقول الأسدي: “هذه هي حقول النفط في غرب القرنة”. “من هنا تبدأ مشاكلنا”.
يقرع الأسدي باب العائلة الوحيدة التي ما زالت قادرة على البقاء هنا. مجموعة من الجاموس تحت أشعة الشمس أمام كوخها المسقوف بالقصب. في الداخل، يرقد عجل جاموس حديث الولادة على الأرض. بجانبه، امرأة ترتدي ثيابًا سوداء تجلس بين أواني حليب الجاموس، الذي تصبه في إناء كبير لصنع الجبن. بدأت مئات من الذباب الصغير بالفعل بالتذوق.
“الحياة صعبة هنا” تتمتم المرأة التي تقدم نفسها على أنها أم أياد. تعجن بمهارة حليب الجاموس السميك في خصلات طويلة من الجبن. “قبل بضع سنوات كانت المياه مباشرة أمام منزلنا ، لكنها الآن تجف وتصبح أكثر ملوحة. إنها ستقتل جاموسنا وتنتج حليبًا فقيرًا. يمكنك تذوق ذلك من الجبن “.
في زاوية الكوخ، يجلس سجاد يونس البالغ من العمر 19 عامًا على سجادة ويحدق إلى الأمام مباشرة. شعره ممشط إلى الخلف بالجيل. يقول المراهق بفخر عن تسريحته: “لقد عملتها في المدينة”. “يعيش العديد من أصدقائي الآن هناك. يتعين علي البقاء هنا لمساعدة والدّي. ولكن سأغادر في أسرع وقت ممكن”.

انحسار المياه

ليست هذه هي المرة الأولى التي تجف فيها الأهوار، كما يقول الأسدي. ويشير إلى هضبة حجرية على بعد مسافة قليلة. يقول: “كانت المدرسة التي درس فيها والدي موجودة هناك”. “هذه جزر صغيرة بها مبان من القصب في كل مكان، تمامًا مثل البندقية! حتى أنه كان هناك قارب يعمل كمستشفى يأتي لزيارتك “.
صدام حسين وضع حد لذلك. لم يثق ديكتاتور العراق بالثوار الشيعة الذين بدأوا هنا خلال الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) وقرر معاقبة عرب الأهوار بشكل جماعي. في أوائل التسعينيات، قام بتجفيف المنطقة عن طريق تحويل مياه نهري دجلة والفرات بشبكة واسعة من السدود والقنوات. في الوقت نفسه، قام بقصف السكان.
فر تقريبا كل عرب الأهوار، ما يقرب من ربع مليون شخص. وجفت 90 في المائة من الأهوار ومات حوالي 100,000 من الجاموس. لم يجرؤ والدا الأسدي على العودة حتى عام 1999 وكانوا من الأوائل. يتذكر قائلاً: “كنت آنذاك في الثامنة من عمري. كانت المنطقة تبدو صحراء.”
ومع ذلك، عادت الحياة ببطء. بعد سقوط صدام عام 2003، فتح عرب الأهوار السدود وبدأت المنطقة تغمر مرة أخرى. اتضح أن بذور النبات الجافة كانت قادرة على الإنبات. وفي وقت قصير جدًا، خرج القصب من القاع مرة أخرى، وتبعت بقية الطبيعة ذلك.
لكن الأسدي يخشى أن تختفي الأهوار، هذه المرة، إلى الأبد. يقول خبير البيئة، الذي قام بحملة من أجل الأهوار منذ أن كان عمره 16 عامًا وأسس منظمته الخاصة لهذا الغرض في عام 2015: “كان الدمار الذي سببه صدام مروعًا، لكننا على الأقل تمكنا من إعادة توجيه المياه في ذلك الوقت”. “أما الآن فهذا غير ممكن، لأن المياه العذبة تنفذ ببطء.”
هذا النقص في المياه العذبة له أسباب عديدة. إذ ترتفع درجات الحرارة في العراق سبع مرات أسرع من أي مكان آخر في العالم. ونتيجة لذلك، يقل تساقط الأمطار وتتبخر المياه من الأهوار بشكل أسرع، مما يؤدي إلى الجفاف والتملح. هذا الأخير يعززه ارتفاع مستوى سطح البحر في جميع أنحاء العالم، مما يتسبب في تقدم المياه المالحة من الخليج العربي نحو الأهوار.

مشاريع السدود

كان عام 2021 أيضًا عامًا جافًا بشكل استثنائي في المنطقة بأكملها. في إيران نزل الناس إلى الشوارع للمطالبة بمياه الشرب النظيفة، وفي العراق ارتفعت درجة الحرارة بشكل منتظم فوق 50 درجة مئوية في الصيف، وفي سوريا سُجل أسوأ جفاف منذ 70 عامًا. وحذرت وكالات الإغاثة هذا الصيف بأن في البلدين الأخيرين وحدهما، يواجه 12 مليون شخص خطر ندرة المياه والمحاصيل المخيبة للآمال.
في العراق وسوريا، تفاقم الجفاف بسبب مشاريع السدود الكبيرة في إيران وتركيا. على سبيل المثال، فإن سد إيلسو في جنوب شرق تركيا، والذي دخل حيز التشغيل في عام 2020، يمكن أن يخفض مياه نهر دجلة بشدة لدرجة أن العراق يفقد نصف إمداداته المائية، وفقًا لوزير الموارد المائية العراقي السابق. قال الأسدي “هذا لا يحدث فقط في العراق”. انظر فقط إلى معركة المياه بين مصر والسودان. في كل مكان نرى أن الجفاف يؤدي إلى بقاء الأصلح “.
لكن وفقًا لتون باينينس، وهو ناشط مناخي بلجيكي مقيم في العراق وأحد مؤسسي مجموعة عمل “أنقذوا نهر دجلة”، يرى أن الحكومة العراقية كثيرًا ما تلقي اللوم في مشكلة المياه على السدود الأجنبية. يقول: “هذه أيضًا طريقة للتهرب من المسؤولية الخاصة”. المشكلة الأكبر هي إدارة المياه السيئة في العراق. يمكن لبنية تحتية أفضل أن تحدث فرقًا حقًا، لكن هذا لا يحدث، كل مرة، بسبب الفساد والافتقار التام لرؤية بعيدة المدى”.
ومع ذلك، فإن باينينس أكثر تفاؤلاً قليلاً من الأسدي في ما يخص مستقبل الأهوار. وأن السنتين الماضيتين، وفقًا له، أقل جفافا نسبيًا مقارنة مع الجفاف الشديد لهذا العام. علاوة على ذلك، يعتقد أنه يمكن توفير الكثير من المياه بسلسلة من الإجراءات غير المعقدة للغاية، مثل إدخال تقنيات زراعية أكثر اقتصادا، وإعادة استخدام المياه الصناعية وإنشاء محطات تحلية المياه.
السياحة البيئية

فمن المهم بشكل خاص أن لا يغادر عرب الأهوار بشكل جماعي. “إن هذا النظام البيئي يعتمد على السكان الذين اعتنوا به منذ آلاف السنين”، كما يقول باينينس، الذي يدعو بالتالي إلى السياحة البيئية، على نطاق صغير، في المنطقة لتزويد السكان المحليين بمنظور اقتصادي. وهناك ميزة إضافية تتمثل في أن عرب الأهوار يمكنهم أن يعلموا الزائرين كيفية التعامل مع الطبيعة. هذا بالتأكيد ليس ترفا لا لزوم له في العراق “.
خارج بلدة الجبايش، المستوطنة الصغيرة التي تقع في قلب الأهوار، بدأ الأسدي بالفعل متحفه الخاص. يعرض في قاعة كبيرة من القصب جميع مجموعاته من السنوات الست الماضية، من الزوارق القديمة والملابس التقليدية إلى الطيور المحنطة. أمام المتحف ترى تمثالا لجاموس، وفي الخلف علق لوحات للجاموس. يضيف : “يبقى حيواني المفضل.”
لم يتلق الأسدي أي مساعدة من الحكومة حتى الآن. ويقول أن السلطات المحلية تسخر منه بالأخص وتحاول الحصول على المال بمجرد أن يستقبل زوارًا أجانب. ويقول الناشط: “إنهم لا يفهمون لماذا يعد تغير المناخ هاما. لهذا السبب قاموا بنشر إشاعات بأنني مهووس بالجاموس”.
يبدو أن الأسدي لا يهتم لذلك. ويخلص إلى أن “هؤلاء الناس يعتقدون أن الله خلق العالم ولذا فإن كل شيء سيكون على ما يرام، لكنني أفضل أن أفكر أن الله أعطانا دماغًا حتى نتمكن من حماية مخلوقاته”.