18 ديسمبر، 2024 6:45 م

يقبلون على العرافين ويعزفون عن الطبيب النفسي

يقبلون على العرافين ويعزفون عن الطبيب النفسي

الثابت أن اللجوء للسحر طريق العاجزين عن حل مشكلاتهم وباب يطرقه من يئس من انتظار تحقيق أحلامه.

لجوء مختلف فئات المجتمع من نساء ورجال ومتعلمين وأميين للسحر والشعوذة لا مبرر له، خصوصا إذا قارناه بالإقبال المحتشم على العلاج النفسي في مجتمعاتنا العربية. وفي تونس بات الإقبال على السحرة والمشعوذين لافتا للانتباه رغم أن المجتمع يصنف نفسه ضمن المجتمعات الحديثة والمتقدمة والمثقفة التي ترفض كل مظاهر التخلف.

وفي الوقت ذاته يختزن في وعيه الجمعي شعورا بالعار والخجل من زيارة طبيب نفسي. مجتمع يعج بالمتناقضات إلى درجة الإبهار. حريّ بالباحثين أن يتمعّنوا جيدا في هذه الازدواجية وهذا التناقض. فاليوم لم يعد المثقف يخجل من الذهاب إلى مشعوذ أو ساحر علّه يجد حلولا لمشكلاته تماما مثل الشخص ذي الثقافة المحدودة والمستوى التعليمي المتواضع. بينما يشترك الاثنان في الخجل من الذهاب إلى طبيب نفسي.

صحيح أن الإفصاح عن كلتا الزيارتين نادر وتتمان في كتمان لكن دوافع الإخفاء تختلف فمن يذهب لزيارة طبيب نفسي يخشى أن يقال عنه إنه مريض عقلي ويخجل من معرفة المحيطين به بمرض نفسي، رغم أن ذلك لا يثير للخجل ولا الخزي فالتعب النفسي كما الأمراض التي تظهر على الجسم عند إصابته بمرض ما. لكن غالبية من يخفون زيارتهم لساحر أو مشعوذ يؤمنون بأنه لا بد من أن تتم تعويذات ووصفات السحر في سرية تامة لكي يضمن نجاحها وهو ما ينصحهم به السحرة.

وفي مجتمعنا التونسي هناك تصور عام على أن النساء هنّ أكثر من يؤمن بالسحر والشعوذة وهنّ أكثر من يقعن في فخاخ المشعوذين ويتعرّضن لمخاطر مثل الاحتيال أو تسبب لهن وصفات السحر بعض الأمراض أو بعض المشكلات، غير أن واقعنا اليومي والطوابير التي بتنا نشاهدها أمام مقرات المشعوذين تؤكد أن الرجال لا يقلون عددا إلا بفارق قليل عن النساء.

وعند طرح مسألة استفحال الشعوذة والسحر في المجتمع التونسي يوجه الجميع أصابع الاتهام في اللجوء إلى السحر إلى النساء ويغمضون أعينهم عن الرجال. كما يغض الطرف عن اتساع رقعة الفئات التي تقصد السحرة إلى المثقفين والمثقفات والأغنياء والمشاهير ويتم التركيز على الأميين والنساء والفقراء.

وعندما تطرح مسائل الطب والعلاج النفسي وتقترح على أحدهم أو إحداهن حتى ممّن يصنفون أنفسهم كمثقفين وأشخاص على درجة عالية من الوعي ينظر إليك باستغراب وكأنه يلومك على هذه النصيحة أو هذا الاقتراح. ومن زاوية أخرى تجد بعض الأمهات مثلا يفتخرن بأنهن يتعاملن مع طبيب نفسي لمساعدتهن على تربية أبنائهن الصغار وحلّ مشكلاتهم.

وفي جل الحالات لا يزور أحد الطبيب النفسي إلا مضطرا، ولكن لا يمكن أن تلاحظ في أيّ وقت وأيّ يوم من الأيام طوابير أمام عيادات الأطباء النفسيين مثل التي نراها أمام العرافين رغم أن التوتر والضغوط النفسية وحالة التأزم واليأس تبدو جلية على جل الوجوه التي تعترضك يوميا في شوارع البلاد.

وبرأيي أكثر ما يدفع الشخص إلى الاستعانة بالسحرة والعرافين والمشعوذين هو الوصول إلى حالة من العجز المطبق. عجز في الوصول إلى هدف معين أو في تحقيق رغبة جامحة تسكن وجدان الإنسان ويتعلق بها إلى درجة الهوس والجنون. العجز يدفع اليوم الكثير من الشباب والفتيات الذين تأخروا في الزواج مثلا أو العمل على اللجوء إلى من يبيعه بصيص أمل يعيده إلى التمسك بالرغبة في الحياة.

والعجز أحيانا عن تفسير العثرات المتكررة في الحياة والفشل وسوء الحظ يدفع من يتملكه إلى البحث عن تفسير قد يكون في قرارة نفسه متأكدا من أنه غير منطقي لكنه يواسيه ويخفف من حيرته.. الثابت أن اللجوء للسحر طريق العاجزين عن حل مشكلاتهم وباب يطرقه من يئس من انتظار تحقيق أحلامه.

وأصبحنا نطالع يوميا أخبارا عن حالات لأناس تعرضوا للاحتيال وخسروا أموالهم بسبب اعتقادهم في العرافين والسحرة وإتباعهم لتوصياتهم ونصائحهم لكن لا يبدو لذلك تأثير على غيرهم. فالإقبال على العرافين مازال متواصلا ومتزايدا ومن فرط العجز واليأس الذي لفّ مجتمعنا ما عاد الناس قادرين على الاستفادة من تجارب غيرهم والاعتبار منها.

والأكثر غرابة في المسألة أنه حتى جيل الشباب والفتيات اليوم عندما يتحدثون إليك عن متاعبهم ومعاناتهم النفسية وتنصحهم بزيارة طبيب نفسي يحاولون إخفاء أنهم لا يرغبون في ذلك وأنهم يخافون من نظرة الناس إليهم. ويسعون إلى تغطية أن تفكيرهم لا يتقبل المسألة بسهولة ويقولون مثلا نعم وما المشكلة في ذلك وأنا ليست لديّ فكرة أن زيارة الطبيب النفسي تعني أن الإنسان مريض عقلي. ثم سرعان ما تجده يوجّه الحوار إلى أن أحد معارفه مثلا قصد عرّافا وحلّت مشكلاته ونجح في تجاوزها ولعله حينها يحاول أن يجد منك إجابة تشجّعه وتدفعه نحو الذهاب إلى عراف أو مشعوذ اشتهر بإنجازاته الوهمية.

نقلا عن العرب