منها شعَّ نور الحرف الأول، وفيها ابتُدعّت الكتابة، فكان ذلك أعظم ما انتجته البشرية طوال تاريخها، هي مهد الحضارات وأرض التضحية وأم الثقافة، هي أور ولارسا وأريدو، هي جلجامش وأنكيدو، هي أول ملحمة سطرتها انامل الشعوب، هي مهد سومر أول حضارة بناها الإنسان، هي التاريخ!
فُراتها الذي تعانق مع أهلها؛ فأبيا إلا أن يُكوّنّا للأمم الحضارة، وللبشرية الكتابة، نخيلها الباسقات، وأرواح شهدائها المتعالية بكد السماء؛ يحرّسن أهلها المُعذّبين، قدمت ومازلت تقدم التضحيات للوطن والأرض؛ فهي قدوة حسنة، ومثالًا للتميز، هي مدينتي.
رغم مصائبها وعذاباتها وآلامها؛ فهي عزيزة نفس، وأميرة شامخة كأهلها، تشرب من عذب فراتها، وتروي أرض الرافدين بدم شبابها؛ حتى نالت شرف المجد والفداء، بأنها أكثر مدينة قدمت لوطنها فلذات أكبادها، وما زالت تقدم!
ليس غريبًا ولاعجيبًا، أن تكون كذلك؛ فهي للثقافة أم، وللإبداع رائدة، وللتميز حاصدة، مدينة قل نظيرها؛ متميزون في ميادين الأدب، والثقافة والجهاد أبنائها.
تعد اليوم من أفقر المدن العراقية، وأكثرها حرمان وبطالة وظلمًا، عانت على مر عقود من الاجحاف والتهميش، فكانت هي البقرة الحلوب، التي ضاعت حقوقها، بين أحزاب متسلطة، لاتراع حرمة لمدينة العطاء والشهداء.
صدم أبناء الناصرية، وهم يَسمعون ويَرون أحد “قادة” الأحزاب، يشتم التاريخ والحضارة، يشتم الناصرية، وباسلوب قبيح وكأنها مدينة قد بادت منذ قرون، وتشتت أهلها، يصفها بما ليس فيها، فمن أكرم منها وقد روّت العراق بأطهر الدماء، وملئت الخنادق بالرجال والشباب، حين عزت الأنفس، وبلغت القلوب الحناجر؟
ليس غريبا أن يُتطاول على رمز الكرامة، من أحد الفاشلين، الذين بسبب فشلهم؛ قدمت مدينتنا آلاف الشباب شهداءً، من أجل الأرض التي دنسها الإرهاب، ولكن الأكثر غرابة من ذلك؛ هو: من للعراق إذا كان أمثال هذا المسيء يتحكمون بمصيرنا!؟ كيف يشتّم هذا الموهوم أرض تاريخها الاف السنين، بل هي التاريخ؟ كيف له أن يشتّم أرض، أذلت البريطاني في ثورة العشرين؟
إن الناصرية كَتبّتْ تاريخها، بدماء شبابها، وبابداع أهلها؛ فلعار كل العار، لمن يسيء لأهلها وشهدائها وحضارتها وثقافتها، فهي حرة لاترضخ للمحتل، كريمة مع وطنها، عنيدة على عدوها، أما من أساء لها، فقد أساء للتاريخ والثقافة، وخذل الأرض المعطاء، ونصر الجهل والتخلف، والهمجية، وقد بيّن للعراقيين أن مصيرنا بيد أُناس لايحترمون الشعب، ولا يراعون كرامته ولامشاعره!