23 ديسمبر، 2024 1:31 ص

يسألونك عن العمامة

يسألونك عن العمامة

يسألونك عن العمامة، قُـلْ: كلامٌ فيها كثير، على العارفين يسير، وعلى الجاهلين عسير، إذ غيرت بعضَها الدنانير، فباعدها حسنُ التدبير والتقدير، وصارت أداةَ تخديرٍ للجماهير عظيمةَ التأثير، ولا يُـنَـبّـئُــكَ مثلُ خبير.

يقول العبدُ الفقيرُ الى رحمةِ ربّه الرزّاق، فارسُ بن يوسف الشدياق، في كتابه الساق على الساق فيما هو الفارياق: ” أمـّـا العمامة فإنّ اشتقاقها فيما أرى من عمَّ بمعنى شمل لأنها تعمّ الرأس وهي على أشكال مختلفة “. ويقول في فوائدها: عندما كان الفارياق حَدَثا أحبَّ أن يُزيّن رأسَه رغم صغره بعمامـة كبيرة مدورة، فكان إذا مشى مالَ رأسُه يَمنةً ويَسرة، فركب مهرةً، ولمّـا لم يكن فارسا ذا خبرة، سقط فأوجع ظهره، فلما قام حمد ربّه بأنّ العمامة قد وَقـَـت رأسه، فظنّ أنّ اتخاذَ العمائم الكبيرة عند أهل بلاده إنما هو لوقاية رؤوسهم لا لتحسين وجوههم.

العمامة صديقة الصحراء، هي تاجٌ عربي للمسلم والكافر على حدٍّ سواء، لبسها ألدُّ الأعداء وأوفى الأصدقاء لـتقـيهم شمسَ الله التي تشرقُ على السعداء والأشقياء، هي لا تزيدُ على أنْ تكونَ من مكملات ِالمظهر ولا علاقةَ لها بالجوهر، أما عن سبب ارتباطها في أيامنا هذه بشكل مَنْ امتهن الدين صنعة، فهذا مما لم أجد له جوابا شافيا، فلربما لُبست لإخفاء صلعة وتحسين طلعة، أو تشبّهاً بساداتنا أصحابِ المقامِ والرفعةِ وطِيْـبِ السُمعة.
قيل لأعرابيّ: أنك مُكثرٌ مِن لبس العمامة، فقال: إنّ شيئاً فيه السمع والبصر لجديرٌ أنْ يوقى من الحرّ والقرّـ أي البرد.

وقد يقول قائل بأن العمامة أصبحت هوية لرجال الدين. وهنا أسأل: هل كان فيما مضى وظيفة تسمى برجل دين؟ فأكبر الأسماء في الإسلام مثلا كانوا يأكلون من عرق جبينهم بل الأنبياء أنفسهم منهم الراعي والتاجر والنجار والحداد، ومن كانت حجته بأنّ أعداد الناس تزداد، وأصبح من الضرورة إيجاد وظيفة رجل الدين ليعلّم الناس دينهم ويفتي بما يستعصي عليهم من مسائلهم، أقول بأن رجل الدين هذا أصبحت وظيفته مرهونة برضى من يدفع راتبه، فإن أختلف مع صاحب المال او السلطة طرد من منصبه وجيء بغيره، فما أكثرَ الفقهاءَ حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليلُ، الذين سمّاهم الدكتور علي الوري رحمه الله بوعاظ السلاطين.

هي قطعة قماش لا تزيد ولا تُنقص من قدر صاحبها، فانظر أفعالَ من يلبسها، فإن حسنت صار الأمر ربيعا جميلا وإن فسدت استحال الربيع فأصبح كثيبا مهيلا، كوادي الرافدين الأخضر الذي كساه قحط أعفر أصفر، وقد لا أكون مخطئا إن اعتبرت أفعال من يلبسونها سببا في موجة الإلحاد التي انتشرت في الأماكن التي تكثر فيها العمائم، كرد فعل لما عاناه هؤلاء المساكين من ظلم وجور وقتامة مستقبل. وأرجو ألّا يظن أحدٌ بأني ألوم من بدل دينه الى آخر أو تَرك الأديان كلها، فالإيمان سر بين المرء وربه ولا يحق لأحد أن يحاسب آخر في هذه المسألة شديدة الخصوصية، واقرأ إن شئت ” لكم دينكم ولي دين “. ومن يقول بأن الالحاد ليس دينا فهذا لا يصح عندي، هو دين مبني على إنكار كل ما يؤمن به أتباع الديانات الإبراهيمية وغير الإبراهيمية، فلا وجود لشيء لا يستطيع العلم إثباته. وهنا أقول: هل استطاع العلم اثبات عدم وجود الله؟
يقول إمام الملحدين ريتشارد دوكنز في مقدمة كتابه الذي ترجمته ” وهم الاله” بأن الدينَ سببٌ رئيس لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهنا أسأل: هل كان الدين سببا في الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ هل كانت المسيحية سببا في قتل مئات الملايين في استراليا وافريقيا والامريكيتين الشمالية والجنوبية أم جشع البشر؟ ربما كان دوكنز محقا إذا قال بأنّ رجال الدين الذين لم يتبعوا تعاليم السيد المسيح سبب في الحروب الصليبية، ولكنه لن يقول مثل هذا ابدا، بل قال مقالة عجيبة ترجمتها كالاتي: أصدرت المحكمة العليا الأمريكية يوم الحادي والعشرين من شهر شباط من عام ٢٠٠٦ حكما بالسماح لاتباع كنيسة في ولاية نيومكسيكو بشرب المواد المهلوسة الموجودة في نوع من أنواع الشاي المسمى الهواسكا، لأن هذا الشاي يساعد اتباع هذه الطائفة المسيحية للتعرف على الرب وفهم طبيعته. وهذا السخف بنظر دوكنز سبب كاف للابتعاد عن الدين. هل يليق بعاقل الاستشهاد بكلام هذا البروفيسور الذي أكاد أجزم أنه فهم الدين بمؤخرته لا برأسه؟
ما الفرق بينه وبين أي متطرف داعشي فهم نصوص القران من مؤخرته أيضا؟

أكاد أرى دوكنز لابسا عمامة يفتي على هواه، فلما تراكمَ على قلبه الاشتباه، قال لمن والاه والكلام من الفصل الثاني من كتابه وهم الاله: القولُ بعدم القدرة على نفي وجود الله حجةٌ واهية، لا تصدقها اذنٌ واعية، كيف يا مولانا؟ قالها أحد مريديه، أجاب الشيخ دوكنز بعد أنْ فرَك لحيتـه: لو فرضنا جدلا أنّ في السماء ابريقَ شاي جبـّار، يدور في فلك بعيد حول شمس أبعد باستمرار، والأبريق هذا على عظيم حجمه لا تدركه الأبصـار، هل لهذا القول من اثبات أو انكار؟
وذكر أيضا أنّ مؤسسةَ تيمبلتون الخيرية كانت قد موّلت بحثا (علميا) فكرته قياس فائدة الصلوات على مرضى القلب في ست مستشفيات أمريكية وأثرها على شفائهم بعد عملية القلب المفتوح، فكانت النتيجة باختصار بأنّ المرضى الذين تليت عليهم الصلوات عانوا من مضاعفات بعد العملية. إي والله هو قال ذلك.
أكاد اسمعه يصيح ببلاغة عالية:
يا ليتني لم اُوتَ كتابيه
ولـم أدرِ مــا حـسابيـه
مــا أغنى عني مـاليـه
هـلـك عني سـلطـانيـه
***
أهو زمن العمامة؟

أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه؟

هل فكّر أصحابُ العمائم قبل أنْ تبلى عظامهم بأنّ اطعامَ الجائع أهمُّ مِنْ أنْ يَحجّوا كلَّ عام؟ ما لي أرى العمائمَ تتكاثر في بلدي الغني بالفقر والأيتـام؟
أين أنتم من قوله” ولقد كرّمنا بني آدم”.
والله لا أرى الحجَّ الّا حجة عليكم لا لكم، ولا يرضى الله أن يفترش عبادهُ الأرضَ ويلتحفون السماء في مخيمات النازحين وأنتم تنفقون ماله الذي رزقكم إياه لإرضائه ولقائه في مكة. نعم، الحج ركن وفرض ولكنّ الوقتَ وقتُ شـدّةٍ في الأرض، الله لا يحده زمان ولا ومكان وهو أقرب اليك من حبل الوريد، قد تجده عند مريض لا يجد ثمن علاجه أو صاحب عيال لا يملك اطعامهم. تأمل فلربما كشف الله عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. والأمثلة عن هذا في التراث الإسلامي أكبر من تحصرها مقالة، أذكر منها قصة لأحد العباد الزهاد الذين خلت منهم البلاد، أبي يزيد البسطامي الذي عاش في القرن الثالث الهجري، إذ قال: خرجت الى الحج فاستقبلني رجل، فقال: يا أبا يزيد، الى أين؟ فقلت: الى الحج. فقال: كم معك من الدراهم؟ قلت: معي مئتا درهم، فقال الرجل: طف حولي سبع مرات وناولني المائتي درهم فإنّ لي عيالا، فطفت حوله وناولته الدراهم.
السلام على أبي يزيد صاحب العمامة، والسلام كل السلام على أفضل من لبسها محمد بن عبد الله الذي نُصِرَ بالعنكبوت والحمامة، وعلى ساداتنا آل بيته وأصحابه والأقطاب الذين اتبعوا قـرآنــه، ثمّ إنّ علينــــا بيــانــه.