يحيى يخلف .. راكب الريح

يحيى يخلف .. راكب الريح

1-2
(يحيى يخلف وأنا)
المهرة : منتصف السبعينات صدرت مجموعته القصصية الجميلة(المهرة) ضمن اصدارات وزارة الثقافة والإعلام – بغداد- من شدة تعلقي بها قرأت المجموعة مرتين: لا تنسى ذاكرتي للأن قصص (الطائر الأخضر) (يوميات المواطن سين) (العجز) أما قصته (المهرة) فقد قرأتها في المكتبة المركزية في البصرة .. مجلة الآداب اللبنانية/ 1969
نجران تحت الصفر: هذه الرواية المدوية الرائعة أراها فتحا في سرد الرواية القصيرة وبين الحين والآخر، أعود إليها
تفاح المجانين : لي معها وقفة في القريب العاجل، ومع روايته الجميلتين (بحيرة وراء الريح) و(اليد الدافئة)

(*)
يمكن اعتبار(راكب الريح) للروائي الفلسطيني يحيى يخلف: رواية الحرب والحب، ويمكن اعتبارها موضوعة روائية حول دور الفرد في صناعة التاريخ، فشخصية يوسف تمتلك مقومات الأسطورة، فهو المتفوق في فن الخط العربي والمتفوق في علم الهندسة وفن الرسم، والذي يقهر تلك الجنية ذات السن الذهبية، ثم يصبح يوسف قائدا عسكريا للجماهير البسيطة ويجعلها تنتصر على القوات الفرنساوية .كذلك هي رواية الأنا والقرين العنيف، وتجنيسها روائياً هي رواية فلسطينية تاريخية في الصفحة الأولى نقرأ العنوان الفرعي الوحيد(يافا 1795) والسرد الروائي قام بتدوير سرود تاريخية عديدة ليصنع منها المؤلف الروائي يحيى يخلف هذه الرواية البديعة المكتنزة بطبقات روائية، منها سرد الفرشاة من خلال التشكيلي العظيم يوسف، وهناك تأنيث السرد من خلال سرد السرد وهو من صناعة السيدة وجواريها والوصيفة أسرار، وفي الفصل العاشر حزمة من الساردين103 وهناك سرد المرأة العيطموس 120، وللنار سردها الجميل 185
(*)
الجملة الأولى في السطر الأول من الفصل الأول من الرواية، هكذا (ولد يوسف لأب يعمل بالتجارة/ 5) ما بين القوسين : التصنيف الطبقي اجتماعيا، وفي النصف الثاني من الصفحة الأولى نقرأ: (يوسف …. ولد عندما غزا القائد المصري محمد بك أبو الذهب المدينة لافتكاكها من الزعيم ظاهر العمر، في تلك الأيام القاسية التي شهدت حرباً دموية وتخريبا وخراباً) إذن جاء ي وسف بتوقيت العنف الساحق، و لا حقا حين يكبر يوسف ستكون رسالته الميدانية، قيادة المدافعين للذود عن الوطن، وهو أهلاً لذلك، فهو من المتعلمين في حلقات الجامع الكبير، ثم ترسله أمه إلى مدرسة الراهبات ليتعلم اللغة الفرنسية.
(*)
أفضل مَن عرف يوسف وشخصّ أبعاده: سيدة القصر، حين تخاطبه في الصفحات الأخيرة من الرواية (أما أنت يا يوسف، فإنك حصان، بل مهر من أمهار البراري، مهر غير مدجّن يرمح ويعدو على طريق البحث عن الحقيقة والمعرفة من خلال الرقش والتزيين والتوريق والتوشيح والتذهيب والترصيع والتزجيج والتشجير، وفي طريقه البكر، يكتشف لذة المغامرة وحسن الغواية ويركب الريح، ويعلو.. ويعلو. / 341) ترى قراءتي أن السيدة بدأت بالعقل البري المسكون به يوسف، ثم قامت بتعديد مواهبه الجمالية في التشكيل وختمت في التركيز على خصلتين في مهر البراري: لذة المغامرة/ حسن الغواية وسيعُرف في مدينته يافا من خلال السباحة والغوص. أن يوسف هو الرائي الوحيد لحوت النبي يونس/ 10).. يوسف (لم يكن يرغب في امتهان صيد الحيتان، وإنما يبحث عن حوت بعينه أحبه وشعر بألفة معه/15).. ويوسف يتميز بالجمال وكأنه نسخة ثانية من النبي يوسف كما قالت نسوة في يافا إلى أم يوسف وكان محط أنظار صبايا يافا وجواري القصر، ويواعد البنات في بساتين يافا.. لكن يوسف في(راكب الريح) قرينه شرس، فحين أغوته جارية من جواري القصر(ما إن لامست شفتاه نحرها، حتى صرخت صرخة مرعبة، احترق أسفل رقبتها عند نحرها بجمر شفتيه/ 13) لأن يوسف قبلها بأسنانه!!
(*)
في بداية الرواية، لمستُ خصلتين في يوسف وهما: العلو/ العمق يوسف (تفوق على أقرانه وخصوصا في رياضة القفز من أعلى أسوار يافا).. (إلى المياه العميقة التي كان الأولاد يمارسونها في الأعياد/8) وبين العلو والعمق هناك الركض الذي يوصله إلى العلو ويوسف يتفرد ( لا يفكر سواه بالصعود إلى قمة البرج) ثم حين يصل، يحرر باطن قدميه من الجاذبية، يثب وثبة نمر، يطير بالفراغ، ثم يشق الموج ويغطس وسط تصفيق وصفير.. تقترب الجموع من الشاطئ منتظرة إطلالة رأسه من المياه
(*)
فرشاة يوسف التي يعزف عليها ألوان لوحاته، كانت جسراً بين الشرق المقهور والغرب القاهر، وقد أهدى نماذج من لوحاته ِ لماري بنت القنصل الفرنسي، بلوحاته وما تعلمه من اللغة الفرنسية ترسخ جسر التواصل مع ماري التي منحته صورتين عن فرنسا (صورة عن أناقة الحياة، وصورة عن بؤسها/19) وهكذا نرى أن الشرق يهدي الجمال الفني للغرب، وبعدها سيحاول الشرق ترسيخ التعايش السلمي مع الغرب، يتجسد ذلك باليوتوبيا التي يروم تأسيسها الشيخ الهندي باهر خلال كتاب الحكمة الذي ألفه، قبل محاولة الشيخ، جرت محاولة في الهند من أجل ديمومة السلام بين الأديان، محاولة دمج الأديان بدين جديد، هو مزيج من كل الديانات في الهند، في عهد الملك المنغولي جلال الدين أكبر، الملك كان أميا حين استلم الحكم، لكنه أحب الفلاسفة والرسامين والخطاطين، جمع في بلاطه فلاسفة ينتمون إلى الديانات كافة، وسمّى هذا الدين(الدين الإلهي) وحين مات الملك المسلّم المتصوف، مات معه (الدين الإلهي).. الشيخ باهر تهمه المنصة الجغرافية، التي يطلق منها رسالته للتعايش السلمي (أختار أن يرسل هذه الرسالة من الأناضول المطل على بقعة من البحر المتوسط، هي منطقة بحر إيجة، التي تشكّل نقطة التقاء بين الشرق والغرب../ 235) رسالة الحكيم الشيخ باهر مضمونها إنساني أممي وذات خصوصية بين الشرق والغرب..(ورسالته بالدرجة الأولى إلى الغرب الذي يرسل سفنه وجنوده إلى الشرق الأقصى والأدنى للهيمنة على الشعوب، وخصوصاً شركة الهند الصينية التي يملكها البريطانيون، تطلق يد القراصنة لخطف الرجال والنساء وبيعهم في أسواق الرقيق/ 256) الحكيم باهر يعي تماماً(.. في الغرب مفكرون وفلاسفة لكنّ هذا التنوير مخصص لهم وحدهم، وليس لشعوب الشرق) ما العمل بالنسبة للحكيم؟ نعرف من خلال مخاطبته ليوسف( نحن نريد أن نبعث رسائل لهذا الغرب، لعلّه يعود إلى رشده/ 277) ويتصور الحكيم باهر سبب غزو الغرب المتفوق عسكريا وعلميا يكمن في أن( الغرب لا يعرف شيئا عن حكمة الشرق../ 241) الغرب يريد ثروات الشرق ويستعلي على حكمة الشرق، وحين يقول الحكيم باهر(رسالتنا بمثابة اليد الممدودة له للسلام والأخوة من موقع الند والتكافؤ).. هنا الحكيم على خطأ فادح، شتان بين يد الشرق الممدودة والعارية ويد الغرب المدججة بالأسلحة. ويخطأ الحكيم حين يقول(من موقع الند والتكافؤ) ولهذه اللحظة الشرق ليس ندا.. بل مستهلكاً للصالح والطالح من منتوجات الغرب على كافة المستويات.. في رواية( الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح التقط هذا المشهد المتعالي والموجع، في 1898 فاتح السودان اللورد كتشنر، يخاطب البطل السوداني الغيور على تراب وطنه، يخاطبه وهو يرسف في الأغلال بعد هزيمته في موقعة اتبر بهذا الكلام: (لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب.؟) المستعمر غاصب الأرض ومَن عليها يخاطب صاحب الأرض والمدافع عنها بهذا الكلام!!..
(*)
يتضافر السرد السياحي المختزل مع سرد التشكيل الفني، حين يخبرنا السارد الحيادي عن رحلات يوسف(طاف في مدن بلاد الشام والعراق. واطّلع على رسومات لرسامي البازار الذين يرسمون لوحات شعبية عن البيئة المحيطة متأثرين بالفن السلجوقي والمغولي والفارسي التبريزي ويبيعون لوحاتهم لسيّاح ورحّالة وبعثات أجنبية/ 20) وكل أنواع الرسم مباح إلا رسم الأشخاص فهو محرّم بأمر فقهاء الظلام..
(*)
يتحول يوسف من البشري إلى الأسطوري : يفوح في كل المدن صيت يوسف وبسالته، تنسج عنه القصص والحكايات، سمّوه في سيرهم وحكاياتهم يوسف اليافاوي، وهناك من سماه يوسف راكب الريح، الرواة وعازفو الرباب، أطلقوا عليه راكب الريح.. رواية(راكب الريح) تستحق التوغل في مدياتها فالمؤلف الروائي يحيى يخلف، كان الصانع الأمهر في تغليب جمالية الفني على كل المديات، وهذه الغلبة أعطت قيمة ً عليا لكافة المديات.. وجعلت الرواية ملائمة لكل ما يجتاحنا الآن.
يحيى يخلف/ راكب الريح/ ط1/ 2017/ دار الشروق/ عمان – الأردن